تأثير عقدة بيت العنكبوت في المجتمع الإسرائيلي

تأثير عقدة بيت العنكبوت في المجتمع الإسرائيلي
Spread the love

خاص شؤون آسيوية –
بقلم: حسن صعب*/

خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، برزت مجدّداً عبارة “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت” -والتي كان الأمين العام لحزب الله في لبنان، السيّد حسن نصرالله، قد أطلقها لأوّل مرّة في العام 2000، في احتفال تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في مدينة بنت جبيل – على لسان قادة الكيان الإسرائيلي ووسائل الإعلام فيه، على افتراض أن حجم وتأثير القوّة الإسرائيلية المفرطة التي مورست ضد غزة، بعد معركة “طوفان الأقصى” الأخيرة، قد أسقطا مقولة “بيت العنكبوت” مرّة واحدة وإلى الأبد، حسبما افترض أو توقّع قادة الكيان المتغطرس.
السيد نصرالله وعقدة “بيت العنكبوت”
كرّر رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الآونة الأخيرة، مزاعمه بأن الكيان، وتحت قيادته تحديداً، قد تمكّن من فكّ عقدة “بيت العنكبوت” التي تحدّث عنها السيّد حسن نصرالله، خلال احتفال النصر والتحرير في مدينة بنت جبيل الجنوبية، في السادس والعشرين من مايو/أيّار 2000، حين قال: أقول لكم يا شعبنا في فلسطين: إنّ “إسرائيل” هذه التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، والله هي أوهن من بيت العنكبوت!
وفي 16 أغسطس/آب من العام 2019، كشف السيّد نصرالله، في احتفال بالذكرى السنوية للانتصار الإلهي، في حرب يوليو/تموز 2006، “أن حكومة العدو، وبالخصوص “وزير الدفاع”، ونتيجة نصح بعض الجنرالات له، لماذا بنت جبيل؟ قال يجب أن ندخل إلى بنت جبيل وإلى المكان الذي أقيم فيه احتفال التحرير في 25 أيار 2000، ويقف (أنت) أو أحد جنرالات الجيش الإسرائيلي ليُلقي خطاباً وليُسمع اللبنانيين والعرب والعالم أن إسرائيل ليست بيت العنكبوت. المشروع كان، بعد الدخول إلى بنت جبيل من هذا المربّع، أنه يريد أن يضع عَلَم إسرائيل ويقوم بعرْض عسكري، ويقف أحد الجنرالات ويخطب. والموضوع الأساسي هذا هو الجيش الإسرائيلي، وهذه هي إسرائيل ليست بيت عنكبوت”..
أضاف: “هذا واحد. اثنين، عقيدة بيت العنكبوت، هويّة بيت العنكبوت التي أرادوا باحتلال بنت جبيل أن يقضوا عليها، الشهداء والأبطال والمقاومون وأهاليهم في مربّع الصمود وفي كلّ جبهات المقاومة، ثبّتوا هذه العقيدة وثبّتوا هذه الهويّة. وبعد حرب تموز، الآن 13 سنة، الإسرائيلي يتحدّث عميقاً؛ في وجدانه، في وعيه، في مؤتمراته، في أبحاثه، يتحدّث عن مشكلة “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”.
هذه هي النتيجة التي أنتجها القتال في هذا المربّع وحفرت عميقاً في الوعي الإسرائيلي؛ في وعي جنوده وجنرالاته وشعبه وحكومته ورأيه العام. وطبعاً بُنِي عليه”.
وقد أعاد نصرالله التأكيد على عبارته التاريخية هذه بعد اندلاع معركة “طوفان الأقصى”، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023، بقوله: «طوفان الأقصى كشفت الوهن والضعف والهزال في الكيان، وأن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، مُشيرًا إلى أن الإسرائيليين باتوا يؤمنون أكثر من غيرهم بأن “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت.
نتنياهو وعقدة “بيت العنكبوت”
في خضم الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عدّة أشهر، ومُستنداً إلى التأثير الردعي (النفسي وليس الواقعي) للفظائع التي يرتكبها جيشه، قال بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، لجنوده على الحدود مع لبنان، في يناير/كانون الثاني الفائت: “لقد أخطأ حزب الله في تقديرنا عام 2006. وهو يرتكب خطأ كبيراً في تقديرنا حتى الآن”.
وأضاف: “ظنّ (حزب الله) أننا شبكة عنكبوت؛ وفجأة رأى أنه يا له من عنكبوت”، في إشارة إلى كلام أمين عام حزب الله في خطابات عدّة، أبرزها يعود لفترة “حرب يوليو (تموز) 2006″، قال فيه إن إسرائيل وجيشها “أوهن من بيت العنكبوت”.
وتابع: “هو (حزب الله) يرى هنا قوّة هائلة، وشعباً موحّداً، وإصراراً على القيام بكلّ ما هو ضروري لاستعادة الأمن في الشمال. وأنا أقول لكم: هذه هي سياستي”.
وكان نتنياهو قد ردّ بعبارات مشابهة على كلام السيد نصرالله في مناسبات أخرى سبقت الحرب الحالية على غزة، ما يؤكّد شدّة تأثير هذا الكلام في وعي القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية والأمنية، كما في وعي الجمهور الإسرائيلي الذي أرعبته -وتُرعبه- مواقف نصرالله دائماً!
فهل تمكّن نتنياهو فعلاً من فكّ عقدة “بيت العنكبوت” – التي زرعها خطاب السيد نصرالله عميقاً في وعي الكيان، مجتمعاً وجيشاً وقيادة، منذ الاندحار الإسرائيلي عن جنوب لبنان في العام 2000 – وثبّت نظرية الردع من جديد قبالة حزب الله، أم أن المسألة لا تتعدّى الأثر النفسي المحدود، والذي يحاول نتنياهو تضخيمه بُغية استثماره سياسياً في الداخل، ولتخويف قوى محور المقاومة في المنطقة، وردْعها عن الاستمرار في حربها “الإسنادية والاستنزافية” التي أطلقت شرارتها معركة “طوفان الأقصى”؟
ستُركّز السطور الآتية على أبرز انعكاسات “طوفان الأقصى” والحرب ضدّ غزة على المجتمع الإسرائيلي تحديداً، والذي لم يتعرّض منذ عقود لهكذا تحدي، والذي كشف عن هشاشة مفرطة له، يمكن البناء عليها للمواجهات المقبلة مع كيان الاحتلال، مع العِلم بأن تأثيرات “طوفان الأقصى” على الجيش وعلى الاقتصاد الإسرائيلي لا تقلّ أهمية عن تأثيراتها الخطيرة على المجتمع الإسرائيلي، والذي أظهر انكشافه بسرعة أمام تحدّي “طوفان الأقصى” أكثر من ركني الكيان الآخرين، أي الجيش والاقتصاد؛ وهما تمكّنا من التماسك (نسبياً) بفضل المساعدات الأميركيّة الهائلة التي تدفّقت على الكيان بعيد معركة “طوفان الأقصى”؛ وهي لا تزال متواصلة حتى اليوم.
“طوفان الأقصى” يصدم المجتمع الصهيوني
يقول الكاتب الإسرائيلي ران أدليست، في صحيفة “معاريف”، بعد مرور أسابيع على معركة طوفان الأقصى، وبمضمون مؤيّد (بحسرة) لكلام السيّد نصرالله وناقد (بشدّة) لقادة الكيان، إنه “بعد الانسحاب من لبنان، ألقى (السيّد) نصر الله خطاب “خيوط العنكبوت”، الذي قدّر فيه بأن إسرائيل في الطريق إلى التفكّك. وقال إن إسرائيل تبدو قويّة من الخارج، لكنّها سهْلة على الهدم والهزيمة، مثل خيوط العنكبوت؛ تبدو قويّة كأنها قوّة عسكرية عظمى بتفوّق تكنولوجي؛ لكن المجتمع الإسرائيلي لن يصمد أمام هجمات إرهاب وعمليات وكاتيوشا. فقد تَعِب من الحروب، وفَقَد المتانة والمناعة للصمود في صراع دموي وتكبّد الإصابات”.
وتساوق كتّاب إسرائيليون كثيرون مع تحليل هذا الكاتب، قبل وأثناء “طوفان الأقصى”، خاصة لناحية الإقرار بأن المجتمع الإسرائيلي غير مستعد لتحمّل خسائر كبيرة أو فادحة، على الصعد البشرية والاقتصادية والاجتماعية تحديداً، خلال أي حرب داخلية أو خارجية، مهما بلغت درجة “مشروعيتها” أو ضرورتها لحماية الكيان.
لقد اعتمد الإسرائيليون دوماً على “جيشهم الذي لا يُقهر”، من أجل الدفاع عنهم وتقليص الخسائر البشرية في صفوفهم، مقابل تدفيع “العدو” خسائر بشرية ومادية هائلة، وذلك منذ قيام كيان الاحتلال في العام 1948، إلى تاريخ “نكبة الكيان الأولى” في السابع من أكتوبر الماضي، حين تكبّد المجتمع والجيش الإسرائيلي معاً خسائر “فادحة” على حين غرّة، بفعل هجوم “حماس” على مستوطنات “غلاف غزة”؛ وبما أثبت صحّة فكرة السيد نصرالله حول هشاشة المجتمع الصهيوني وجيشه في آنٍ واحد حين يواجهان تحدّيات حقيقية.
وحسب المعطيات الإسرائيلية بشكلٍ رئيس، يمكن الاستنتاج بأن مجتمع الكيان قد تلقّى صدمتين كبيرتين خلال الأشهر الأخيرة؛ صدمة هجمات السابع من أكتوبر، و”غياب الجيش الإسرائيلي (والأجهزة الأمنية) عن السمع” لساعات طويلة، وصدمة فشل هذا الجيش في “سحق” حركة حماس بسرعة، وإزالة خطرها الداهم و”الوجودي” على المجتمع الصهيوني “المرعوب”.
أما الجيش الإسرائيلي، فهو عدا عن صدمته من هجوم “حماس” على مستوطنات غلاف غزة، والذي كشف غفلته ووهنه وعجزه عن خوض مواجهات مباشرة ومباغتة، بات عالقاً في “مستنقع غزة”، وعاجزاً عن تحقيق الحسم أو “النصر المبين” -حسب تعبير نتنياهو- على الرغم من فقدانه لآلاف الجنود، كقتلى وجرحى، أو كمُعاقين، جسدياً أو نفسياً، و”خارجين من الخدمة”.
لقد أثّرت مظاهر نجاح الهجوم “الحمساوي”، كما عكست ذلك الفيديوهات التي بثّتها “كتائب القسّام”، والتي وثّقت عمليات الاقتحام والتسلّل والسيطرة على المواقع وأسْر الجنود والمستوطنين ونقْلهم إلى عمق قطاع غزة، على الوعي الجمعي للمجتمع الإسرائيلي بأسره، ومسّتْ بمعنويات الإسرائيليين. وتكرّس انطباع لدى المراقبين في تل أبيب أن “حماس” حقّقت انتصاراً مُبكراً، بغضّ النظر عن النتائج النهائية للحرب التي أعلنتها “إسرائيل” على غزة في أعقاب الهجوم.
المستوطنون يتسلّحون..وينهارون
تسبّبت معركة “طوفان الأقصى” في إثارة الرعب والخوف الشديد بين شرائح واسعة من الإسرائيليين، وليس فقط بين أولئك الذين يعيشون بالقرب من الحدود أو في المستوطنات بالضفة الغربية والقدس المحتلّتين.
وفي ظل انعدام الأمن والأمان، شجّعت الأذرع الأمنية الإسرائيلية على إقامة 600 فرقة حراسة مدنية بالبلدات اليهودية البعيدة عن مناطق الأعمال الحربية؛ وهو ما حفّز الإسرائيليين على التسلّح والتقدّم بطلبات للحصول على رخصة لحمل السلاح.
ووفقاً للتقديرات التي استمعت إليها لجنة الأمن، فإن اللوائح الجديدة تعني أن حوالي 400 ألف إسرائيلي إضافي سيكونون قادرين على التقدّم بطلب للحصول على رخصة سلاح.
وفي المجال النفسي الموازي، كشفت دراسة نُشرت في مجلة “ذي لانسيت” الطبيّة البريطانيّة، بتاريخ 5 يناير/كانون الثاني الماضي، أن كلّ سكّان “إسرائيل” تعرّضوا بطريقة أو بأخرى لتداعيات هجوم “طوفان الأقصى” غير المسبوق من حيث “النطاق وهول الصدمة النفسية”.
ويعيش المجتمع الإسرائيلي أزمة صحية نفسية غير مسبوقة وقلقاً بشأن “الرهائن” (لدى فصائل المقاومة)، حسب الدراسة، التي تطرّقت إلى “صدمة نفسية وطنية جسيمة” نظراً لعدد الأعراض التالية للصدمة وحالات الاكتئاب والكرْب، ما يشير إلى “أثر ملحوظ” في الصحة النفسية للإسرائيليين.
وأكّدت شيري دانييلز، المسؤولة في خط الطوارئ “عران” للإسعافات النفسية، أن عدد الاتصالات التي تتلقّاها هذه المنصّة الهاتفية والإلكترونية تضاعف منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي..
وكشف المدير العام لوزارة الصحة، موشيه بار سيمان طوف، أن من أصل السكّان المقدّر عددهم بـ9.7 مليون نسمة، تعرّض منهم 100 ألف لحوادث قد تسبّب صدمة نفسية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
بدوره، اعتبر وزير الصحّة، أوريئيل بوسو، أن دولة إسرائيل، التي أعلِن إنشاؤها سنة 1948 تواجه بكلّ بساطة “أكبر أزمة صحّة نفسيّة في تاريخها”..
وفي ظلّ الحاجات المتفاقمة والنقص الفادح في الاختصاصيين النفسيين، أعلنت الحكومة الإسرائيلية حملة للتوظيف، وقرّرت في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي منح موارد إضافية لقطاع الصحّة النفسيّة بقيمة 1.4 مليار شيكل (أكثر من 350 مليون يورو).
وفي السياق، كانت صحيفة “هآرتس” قد كشفت النقاب عن ظاهرة هجرة الأطبّاء النفسيين من “إسرائيل” إلى بريطانيا، بحثًا عن ظروف معيشية ووظيفية أفضل، ممّا قد يهدّد بانهيار النظام الصحي النفسي في دولة الاحتلال، خاصةً في ظل الطلب المتزايد على خدمات الصحة النفسية بعد الحرب على غزة.
مستوطنو غزة و”الشمال” يرفضون العودة
في إطار التداعيات النفسية أيضاً لمعركة “طوفان الأقصى” والحرب الشعواء التي تلتها، والتي لم تحسم الأمور مع “حماس” حتى الآن، كما خطّطت “إسرائيل”، فقد أعرب عدد كبير من المستوطنين في غلاف غزة عن مُعارضتهم الشديدة لفكرة “العودة”، بالرغم من مغريات الحكومة الإسرائيلية.
ووفقاً لموقع “والا” الإسرائيلي، أعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها ستُقدّم تعويضات مالية لسكّان التجمّعات المحيطة بغزة كي يعودوا إلى منازلهم. لكن الكثير منهم ما زالوا يشعرون بأن المنطقة لا تزال غير آمنة، منذ هجوم 7 أكتوبر.
وانتقد يارون صميمي، أحد سكّان منطقة “موشاف شوكدا” في غلاف غزة، الحافز المالي. وبحسب قوله، فإن عودة السكّان ستؤدّي إلى نهاية الحرب وعودة الروتين الذي كان يحدث منذ ما قبل 7 أكتوبر. وقال صميمي للموقع: “إنه نوع من الرشوة، لأنه بالنسبة لكثير من الناس المبلغ يمثّل الكثير من المال؛ لكننا لن نتوصل إلى قرار بشأن “حماس” إذا عاد السكّان. سنعود مرّة أخرى لمزيد من الجولات. لسنا مستعدّين للعودة.. لسنا بحاجة إلى المزيد من جولات الحرب”.
والحال نفسها تنطبق على مستوطني شمال فلسطين المحتلة، الذين يرفض معظمهم العودة إلى منازلهم قبل “حلّ قضية قوات الرضوان التابعة لحزب الله”، التي زرعت الرعب في قلوب هؤلاء المستوطنين من جرّاء عملياتها العسكرية الناجحة ضدّ مواقع الجيش الإسرائيلي وأجهزة التنصت والحماية التي أنشأها على الحدود مع لبنان طيلة سنوات؛ هذا الجيش الذي يقف عاجزاً حتى تاريخه عن إبعاد قوات حزب الله عن الحدود، أو استعادة ثقة المستوطنين به، على الرغم من الهجمات التدميرية التي يُنفّذها ضدّ القرى الجنوبية الحدودية منذ عدّة أشهر.
فقد أرسل رؤساء المستوطنات في الحدود الشمالية رسالة إلى رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، يوآف غالانت، يطالبون فيها بمنع تقليص القوّات العسكرية في المنطقة. وقال هؤلاء ، في رسالتهم، إنهم يودّون “إبلاغ وتنبيه أصحاب القرار”، وعلى رأسهم رئيس الوزراء ووزير الأمن، بـ “أننا لن نسمح لإسرائيل بتحويل بلداتنا، التي تم إخلاؤها، إلى منظومة إنذار وإغراء لمقاتلي الرضوان وقوّات حزب الله”.
وأضافوا: “في مثل هذا العمل، ستضطر مجموعات الجاهزية، المكوّنة من سكّان القرى التعاونية والكيبوتسات، إلى القتال من دون مساعدة عسكرية. وبسبب هذا سيتحوّلون إلى بط في حقل الرماية من دون قدرة عدديّة”.
وذكر الإعلام الإسرائيلي أنّ مستوطني الشمال لن يعودوا إلى منازلهم إذا ما تحقّق الردع مع حزب الله. كما أشار إلى وجود حالة إحباط في مستوطنات الشمال، بسبب استمرار عمليات المقاومة في لبنان.
الهجرة العكسية في تصاعد
أسهمت معركة “طوفان الأقصى” التاريخية في فتح باب الهجرة العكسية من “إسرائيل” كنتيجة مباشرة لفقدان الأمن وتراجع أداء الاقتصاد، حيث كشفت صحيفة «ذي ماركر» الإسرائيلية أن «أكثر من 230 ألف مستوطن غادروا إسرائيل منذ بدء الأزمة. ويُتوقّع ارتفاع أعداد المغادرين مع استمرار العدوان على قطاع غزة»؛ وهو ما يفتح النقاش حول مستقبل الدولة اليهودية «فكرة زوال إسرائيل». فلطالما شكّلت الهجرات اليهودية إلى فلسطين، سواء المنظّمة أو الفردية، ركناً مركزياً في ثنائيّة احتلال فلسطين واستعمارها حتى يومنا الراهن.
بالموازاة، وبحسب بيانات “وزارة الاستيعاب الإسرائيلية”، فقد هاجر(إلى الكيان) حوالي ألفي شخص خلال الفترة الممتدّة من 7 تشرين الأول حتى 29 تشرين الثاني، بمعدّل ألف شخص شهرياً، مقابل ما معدّله 4500 شخص شهرياً منذ بداية عام 2023 حتى اندلاع الحرب؛ وهو انخفاض يزيد عن 70% في نطاق الهجرة.
في السياق، ومن أجل لجْم الهجرة العكسية الخطيرة، وفي مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، “نصحت سلطات كيان الاحتلال المستوطنين بإعادة النظر في السفر إلى الخارج، في ظل تزايد ما سمّته “حالات معاداة الساميّة”.
وقالت وزارة الخارجية ومجلس “الأمن القومي” الإسرائيليين، إنه “نظراً لحجم حوادث العنف ضد الإسرائيليين، يتعيّن على الإسرائيليين إعادة تقييم ضرورة السفر إلى الخارج”، ونصحتا المسافرين إلى الخارج بعدم إظهار أي رموز إسرائيلية.
أيضاً، في أواخر العام الماضي، ووفقاً لموقع “فلايت رادار 24″، فإن معدّل الرحلات المغادرة لمطار بن غوريون بلغ 120 رحلة يومياً؛ وهو المعدّل الأكبر المسجّل في المطار على مدى الأشهر والسنوات الأخيرة، بمعدّل 24 ألف مسافر يومياً.
وإذا أضيف للرحلات المغادرة من مطار بن غوريون، رحلات مطاري إيلات (جنوب) وحيفا (شمال)، والمغادرين عن طريق البحر من ميناءي حيفا ويافا (وسط)، فإن المجموع يُصبح نحو 40 ألف مسافر مغادر يومياً.
وبناءً على هذه التقديرات، يُعتبر “رقم مليون من الهجرة العكسية في هذه الفترة (11 نوفمبر ـ 11 ديسمبر) منطقي جداً”.
وفي هذا الإطار، تبدو لافتة إشارة السيّد حسن نصرالله إلى أنّ “”إسرائيل” كيان مصطنع، وصلة شعبها بهذه الأرض قائمة على الأمن. وعندما يفتقد الصهاينة الأمن ينتهي الأمر ويجمعون حقائبهم ويرحلون؛ وهذا هو المشهد الآتي”. ويتابع: “طوفان الأقصى، وما يجري على كلّ الجبهات، أسقط مفهوم الملجأ الآمن للصهاينة الذي على أساسه تقوم هجرة ملايين اليهود إلى إسرائيل؛ وقد بدأت الهجرة المعاكسة”.
خلاصة
في قراءة فاحصة للمواقف والمعطيات الآنفة الذكر، وتحديداً مواقف أمين عام حزب الله ورئيس حكومة الكيان الإسرائيلي، حول فكرة “بيت العنكبوت”، وبعد مضي أكثر من أربعة أشهر على معركة “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية الوحشية التي تلتها على غزة، وتأثيراتها العميقة في المجتمع الصهيوني، يمكن الاستنتاج بأن الإرهابي بنيامين نتنياهو قد فشل حتى تاريخه في إسقاط تلك الفكرة، ولو أنه يدّعي عكس ذلك، لأن مظاهر الضعف والخوف والقلق على المصير، والتي تُترجمها بالخصوص النسب المتصاعدة للهجرة المعاكسة من الكيان، وحالات تسلّح المستوطنين الهستيرية، والأوضاع النفسية المتدهورة لغالبية هؤلاء، تؤكّد على أن “إسرائيل” قد انكشفت تماماً أمام “أعدائها” في السابع من أكتوبر -وما تلاه- مجتمعاً وجيشاً وقيادة سياسية متطرفة.
إنّ التماسك النسبي والهش الذي أظهره مجتمع الكيان خلال أشهر الحرب على غزة (في ظلّ الخسائر البشرية المحدودة التي مُنِي بها حتى تاريخه) لا يدلّ على أنه بات مجتمعاً “حديدياً” وعصياً على الكسر، كما توحي تصريحات نتنياهو وأركان حكومته ووسائل إعلامه، وقادة جيشه الذي يدفع أثماناً باهظة كلّ يوم في قطاع غزة. فهذا التماسك المصطنع والمؤقّت ناتج عن عوامل خارجية (الدعم الأميركي والأوروبي- السياسي والعسكري والمالي المفتوح) بالدرجة الأولى، وعن حالة التوحّد الطارئة التي فرضتها تداعيات معركة “طوفان الأقصى” الخطيرة على مستوطني الكيان، والذين كانوا حتى الأمس القريب يتصارعون فيما بينهم حول ما سُمّي الإصلاحات القضائية وقضايا مصيرية ترتبط بأفق الصراع مع الشعب الفلسطيني وهويّة الكيان العنصري ومسارات النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيه.
وهنا لا يمكن التهوين من دلالات فعاليات الاعتراض “العنيفة” التي يقوم بها أهالي “الرهائن” الإسرائيليين لدى المقاومة في قطاع غزة، ضد حكومة نتنياهو؛ وكذلك مواقف المستوطنين الرافضة للعودة إلى مستوطنات غلاف غزة وشمال فلسطين إلّا بعد القضاء على “التهديدات” بشكل كامل، وبما يؤشّر على تعمّق حالات القلق الشعبي وعدم الاستعداد لتحمّل تكاليف أي مواجهة مفتوحة مع المقاومة، كما كانت الحال في السابق، وربما بشكل أسوأ.
وبالتالي، فإن طرح “بيت العنكبوت” الذي أطلقه السيّد حسن نصرالله في العام 2000، لم يزل قائماً؛ لا بل متجذّراً في وعي أو لا وعي الكيان، مجتمعاً وجيشاً وقيادة ونُخَباً، لأن “انتصارات” أو “إنجازات” هذا الكيان المحدودة في غزة، عدا عن حملات القتل والتدمير والتهجير الممنهجة -حيث سقط حتى الآن أكثر من 30 ألف شهيد فلسطيني، وتمّ تهجير وتجويع مئات الآلاف من الفلسطينيين- لم تستطع استعادة قوّة الردع التي فقدتها “إسرائيل” في السابع من أكتوبر؛ وقد لا تستطيع استعادتها أبداً. وهذا ما ستُثبته الجولات أو الجولة المقبلة (وربّما الحاسمة) من الصراع بين الكيان الإسرائيلي (وحُماته في الغرب) وقوى محور المقاومة في فلسطين والمنطقة، بعد انتهاء الجولة الحالية، والتي لن تشهد بالتأكيد هزيمة “حماس” وفصائل المقاومة، على الرغم من الجراح العميقة التي أصابتها وأصابت الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية المحتلة بفعل العدوان الإسرائيلي – الأميركي غير المسبوق.

*باحث لبناني