كيف يعمل اللوبي الإسرائيلي في أميركا

كيف يعمل اللوبي الإسرائيلي في أميركا
Spread the love

تتحدث المقالة غن أسرار قوة اللوبي الإسرائيلي
شؤون آسيوية – د. هيثم مزاحم*

تقترب انتخابات الرئاسة الأميركيّة التي ستجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، حيث يتسابق المرشّحون الجمهوريّون والديموقراطيّون على خطب ودّ الكيان الإسرائيلي لكسب أصوات اليهود الأميركيّين الذين يصل عددهم إلى نحو 6.5 ملايين يهودي. ولعل دعم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للعدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يأتي في سياق إرضاء اللوبي الإسرائيلي من جهة، وكسب أصوات اليهود الأميركيين من جهة أخرى، لإعادة انتخابه لولاية ثانية. لكن ذلك ليس السبب الوحيد لموقف الولايات المتحدة المنحاز بشكل مطلق للكيان الغاصب، فهنالك تحالف بين الجانبين يظهر تعويل واشنطن على “إسرائيل” باعتبارها قاعدة متقدمة لها في المنطقة العربية-الإسلامية.
تقييم دور اللوبي اليهودي في الولايات المتّحدة
كيف نفسّر نفوذ اللوبي اليهودي في دوائر القرار الأساسية الأميركية وتأثيره في السياسة الخارجية الأميركية حيال الشرق الأوسط بينما لا يتجاوز عدد اليهود الأميركيّين الاثنين في المائة من مجموع الشعب الأميركي (6.5 مليون نسمة)؟
تعود قوّة “اللّوبي اليهودي” إلى ثلاثة عوامل أساسية هي: الصوت اليهودي، والتمويل اليهودي للحملات الانتخابية، والتنظيم الفاعل للّوبي.
1 – الصوت اليهودي: تكمن فاعلية الصوت اليهودي في كون السكّان اليهود الأميركيّين غير موزّعين بالتساوي بين الولايات؛ ففي نيويورك وكاليفورنيا ونيوجرسي – على سبيل المثال – تزيد نسبتهم على النسبة الوسطية (3 في المائة)، حيث يتكثّف وجودهم في المراكز المدنية من الولايات، هذه المراكز التي تُعتبَر أكثر المناطق أهمّية من الناحية السياسية. فعلى سبيل المثال: مدينة نيويورك هي موطن أكثر من (90 في المائة) من سكّان الولاية اليهود. لذلك نجد أنّ (12 في المائة) من السكّان المؤهّلين للاقتراع في نيويورك هُم من اليهود. كما أنّ نسبة الناخبين اليهود في كاليفورنيا تبلغ (3 في المائة)، وترتفع إلى (6 في المائة) في نيوجرسي. وهذه الولايات تتميّز بوزنٍ انتخابي يفوق الوزن الذي يتميّز به الكثير من الولايات الأخرى، نظراً لضخامة عدد ممثّليها الذين يشاركون في الانتخابات الرئاسية. ويتميّز اليهود الأميركيّون في كون (90 في المائة) منهم يدلون بأصواتهم في الانتخابات، في حين أنّ نحو (50 في المائة) من الناخبين الأميركيّين لا يكلّفون أنفسهم عناء الاقتراع، الأمر الذي يرفع نسبة أصوات اليهود بمعدّل (واحد في المائة) على الأقلّ، علماً بأنّ هكذا زيادة ترتفع نسبتها أكثر من الولايات التي تشهد وجوداً يهودياً أكثر كثافة حيث تبلغ بين 2 و6 في المائة في نيويورك. لكن أهمّية الصوت اليهودي تزداد في مرحلة الانتخابات الأوّلية، فنجد أنّ الناخبين اليهود يُشكّلون ربع الناخبين المشاركين في الانتخابات الأوّلية للحزب الديموقراطي في ولاية نيويورك، ونصف أولئك المشاركين في الانتخابات الأوّلية لهذا الحزب في مدينة نيويورك، مركز هذه الولاية. وبالتالي، فإنّ خيارات الناخبين اليهود في الانتخابات الرئاسية الأوّلية غالباً ما تُحدِّد اسم المرشَّح الديموقراطي الذي سيدخل المنافسة ضدّ المرشّح الجمهوري في الانتخابات النهائية.
يكتسب الصوت اليهودي قوّة إضافية لكون اليهود الأميركيّين يتّخذون مركز الوسط في بعض المنافسات ما يجعلهم يشكّلون “نسبة أصوات مُرجِّحة” لهذا المرشّح أو ذاك.
2 – تمويل الحملات الانتخابية: تقوم منظّمة إيباك، وهي اللجنة الأميركية – الإسرائيلية للشؤون العامّة(AIPAC) التي لا يحقّ لها قانونياً جمع التبرّعات من أجل تمويل الحملات الانتخابية، بتمويل الحملات الانتخابية عبر ” لجان العمل السياسي” (PACS). ويُظهِر اليهود الأميركيّون كرماً مثاليّاً في تمويل الحملات الانتخابية لمرشّحيهم المفضَّلين. ويمكن القول إنّ “لجان العمل السياسي” هي أفضل أدوات الضغط والنفوذ للمجتمع اليهودي الأميركي. وتصل قيمة مساهمات هذه اللجان في تمويل الحملات الانتخابية إلى عشرات ملايين الدولارات. كما يجري تخصيص بعض الأموال لمقاطعات تكاد تنعدم فيها أصوات الناخبين اليهود، وذلك بهدف إظهار أنّ تدخّل اللوبي اليهودي عبر استخدام الأموال يمكن أن يحلّ محلّ تدخّله عبر استخدام الأصوات، سواء لدعم مرشَّح أم لمعاقبة مرشَّح آخر.
3 – طريقة عمل اللوبي: أمّا كيف نفسّر تأثير اللوبي في رسم السياسة الخارجية الأميركية حيال منطقة الشرق الأوسط وإسرائيل؟ يُلاحَظ أنّ اللّوبي يمارس نفوذه وتأثيره في رسم السياسة الخارجية عن طريق الكونغرس المخوّل التصديق على المعاهدات ومبيعات الأسلحة والحروب، والإشراف على العمليات السرّية، وإقرار الموازنات (وبخاصة موازنتَيْ الدفاع والمساعدات الخارجية). كما بإمكان الكونغرس التأثير في عمل السلطة التنفيذية عبر عقْد جلسات الاستماع المتعلّقة بقضايا السياسة الخارجية، ومطالبته السلطة التنفيذية بتقديم تقارير حول هذه الموضوعات. ويوافق الكونغرس دائماً – بأغلبيّة ساحقة – على أيّ اقتراح يتضمّن إرسال المساعدات إلى الكيان الإسرائيلي. ويعتمد الكونغرس أسلوب ابتزاز الإدارة الأميركية في حال رفضت الموافقة على اقتراحاته المؤيّدة لـ”إسرائيل” بحيث يقوم بالتهديد بوضع القيود على بعض الموازنات أو معارضة بعض الصفقات التي يمكن أن تشلّ عمل الإدارة الأميركية.
لكن لا يجب أن نعتقد أن نفوذ اللّوبي اليهودي يمكنه أن يشلّ الإدارة الأميركية في كلّ الظروف، فإذا أراد البيت الأبيض أن يتحدّى الكونغرس، فإنّ الضغط المباشر الذي يستطيع الأوّل أن يمارسه على العديد من أعضاء الكونغرس يجعل منه (أي البيت الأبيض) اللّوبي الأقوى، كما أظهرت المعركة التي دارت حول صفقة بيع طائرات الأواكس إلى السعودية عام 1981، وتوقيع إدارة الرئيس باراك أوباما الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 برغم المعارضة الإسرائيلية الشرسة له. إذ عندما ترى الإدارة الأميركية أنّ المصالح الأميركية في خطر، فبإمكانها أن تتنكّر لأولويّات اللّوبي ورغباته بجهدٍ يسيرٍ نسبياً. أما إذا كان حجم الضرر الذي قد يلحقه نفوذ اللّوبي بالمصالح الأميركية غير واضح، فما من شيء يستطيع ترغيب صانعي القرار الأميركي بتحمّل التبعات الداخلية المترتّبة عن الضغط على “إسرائيل”. لكن هل يمكن أن نعتبر نفوذ “اللوبي” التفسير المناسب والصحيح للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية وأن ننسب إليه مجمل السياسة الأميركية المتعلّقة بالكيان الإسرائيلي؟
على الرغم من أنّ نفوذ اللّوبي يُسهِم إلى حدٍّ بعيد في تفسير هذه العلاقة، إلّا أنّ قوّة نفوذ اللّوبي لا يمكن تفسيرها بالقوّة المالية اليهودية والصوت اليهودي والتنظيم المُحكَم للّوبي فقط، لأنّ هذه العوامل الثلاثة – في رأي البعض – لا تمثّل بحدّ ذاتها الأساس الكافي لبناء هذه القوّة المُعتبَرة وتكوينها. ويرى بعض الباحثين أن التفسير الذي يُعطي دوراً جوهرياً للّوبي يمكّن القادة الأميركيّين من الإيحاء للعرب بأنّهم في حلّ من السلوك الموالي لإسرائيل الذي تنتهجه إدارتهم، ويتيح لهم مطالبة القادة العرب بتقديم التنازلات التي تساعدهم في نضالهم ضدّ اللوبي الإسرائيلي.
أمّا بالنسبة إلى القادة الإسرائيليّين، فإنّ إيمانهم بقدرة اللّوبي على فعل كلّ شيء يجعلهم يعتقدون أنّهم مهما فعلوا سيجدون، في واشنطن، دائماً أنصاراً ومدافعين قادرين على إبطال المحاولات التي تبذلها الإدارة الأميركية من أجل ممارسة الضغوط عليهم.
ويذهب بعض الباحثين إلى أنّ التفسير القائم على أساس قوّة اللوبي يفتقر إلى الصلاحية العلمية لأنّ البراهين التي يستند إليها عاجزة عن تفسير التنافس فوق العادي بين السيناتورات (أو النوّاب) بهدف إظهار ودّهم لإسرائيل، أو تفسير المزايدة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري عبر البرنامج الانتخابي الموالي لإسرائيل. لذلك، تحتاج قوّة اللّوبي نفسها إلى التفسير.
ولا يمكن تفسير هذه القوّة إلا بواسطة عوامل ثلاثة تسهم بدورها في تفسير العلاقة المميّزة بين إسرائيل والولايات المتّحدة. وهذه العوامل هي أولاً: المنزلة الرفيعة لـ”دولة إسرائيل”، حيث يستمد اللّوبي جزءاً من قوّته من المكانة المرموقة التي يتمتّع بها الكيان؛ ثانياً: دور القوّة العظمى الذي تلعبه الولايات المتّحدة، بحيث إنّ أيّ انتصار يحرزه اللّوبي في المعارك الداخلية الأميركية يُضاعَف مرّات عديدة عندما يُترجَم إلى السياسة الخارجية؛ ثالثاً: البُعد الإيديولوجي والثقافي للمجتمع الأميركي. إذ يعود نجاح اللوبي إلى كونه يلعب دور المناصر لإسرائيل والمدافع عنها باسم الانتماء الأميركي – الإسرائيلي المشترك. فنحو ثلاثة أرباع الأميركيّين يشعرون بالتزامٍ أخلاقيّ حيال مسألة “منع زوال الدولة اليهودية”.
ويحدّد الباحث الأميركي ميتشيل بارد الاعتبارات التي تجعل الولايات المتّحدة تشعر بالتزام أخلاقي تجاه “إسرائيل” على الشكل التالي: “عطفها على الشعب اليهودي لما عاناه في المحرقة النازية (الهولوكوست) ؛ الإرث الثقافي اليهودي – المسيحي المشترك؛ تشابه النظامَين الأميركي والإسرائيلي من حيث إنّ “إسرائيل” –على حد زعمهم- هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في منطقة تعجّ بالأنظمة الاستبدادية؛ عزلة الكيان الإسرائيلي (ذات المساحة الصغيرة والثمانية ملايين نسمة) بين 430 مليون عربي يفضّلون استئصالها من المنطقة؛ إيمان الأميركيّين بوجوب دعم حقّ الشعب اليهودي في العيش على أرضه التاريخية، بحسب بارد.
وقد لعبت “الصهيونيّة المسيحيّة” في الولايات المتّحدة دوراً كبيراً في تكريس “دعم إسرائيل” كأحد ثوابت القِيم الأخلاقية في المجتمع والثقافة الأميركيّتَيْن، وتعزّز نفوذها هذه بعدما استطاعت اختراق “اليمين المسيحي” في الولايات المتّحدة وهو الذي يشكّل الطرف الأقوى داخل الحزب الجمهوري. وتعود بدايات التحالف الصهيوني – الإنجيلي إلى أواخر سبعينيّات القرن العشرين عندما وضع حزب اللّيكود خطّة عام 1978 لتشجيع الكنائس الأصولية المسيحية على تأييد إسرائيل.
والمعروف تاريخياً أن معظم اليهود الأميركيين يصوّتون لمصلحة الحزب الديمقراطي ومرشّحه للرئاسة ومرشّحيه للكونغرس، لكن في بداية القرن الحادي والعشرين، بدأت أصواتٌ في اللوبي اليهودي تدعو اليهود الأميركيّين إلى التحوّل من دعم الديمقراطيّين إلى دعم الجمهوريّين في الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة.
تقليديا تتمتع إسرائيل بدعم واسع من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ولم تكن نصرتها أو اتخاذ مواقف مؤيدة لها في المحافل الدولية عنصر خلاف بين مرشحي الحزبين للانتخابات الرئاسية على مر العقود الماضية.

ومع ضمان دعم الحزبين للكيان الإسرائييل، انتقل اليهود الأميركيون للتركيز على قضايا داخلية تهمهم في تحديد هوية المرشح الذي ينال أغلبية أصواتهم. وعادة يصوت أغلب اليهود الأميركيين لصالح الحزب الديمقراطي ومرشحه للبيت الأبيض، ويعود ذلك بالأساس لمواقفهم الليبرالية من القضايا الداخلية مثل الإجهاض أو حق حمل السلاح أو الرعاية الصحية وحقوق المثليين.
ومع أن الرئيس الأسبق دونالد ترامب عدّ أكثر الرؤساء الأميركيين انحيازا لـ”إسرائيل”، تبين كل المؤشرات أن أغلبية اليهود الأميركيين قد صوتوا لصالح منافسه الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية عام 2020.
وطبقا لتلك الاستطلاعات فإن ترامب، ورغم تطرفه في دعم إسرائيل، كما ظهر في صفقته لسلام الشرق الأوسط والتي تم على أثرها قطع العلاقات والدعم المالي عن الفلسطينيين، ونقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، والاعتراف بسيادة “إسرائيل” على الجولان السوري ودعم التطبيع الخليجي الإسرائيلي، فإن ذلك لم يغيّر من نمط تصويت اليهود الأميركيين.

*د. هيثم مزاحم رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية