لوحة الفتى والسيدة العجوز

لوحة الفتى والسيدة العجوز
Spread the love

عُلقت وحيدا على أحد جدران متجر قديم قد نقلت إليه من مدة ليست ببعيدة،كنت ثمن صفقة مالية بين صاحب هذا المتجر وبين رسام هاو، بمجرد أن انتهى من رسمي وحتى قبل أن يجف دهان ألوانه، اتصل بصاحب المتجر واتفقا على السعر عبر الهاتف، في الواقع شعرت بفرح شديد إثر تخلصي من خشونة ريشته وهي تتحرك صعودا وهبوطا على سطح ورقتي البيضاء،كنت أكاد أموت اختناقا من كثافة الدخان المنبعث من سيجاراته المتتالية وهو يرسمني.
أما الآن فأنا أتخذ حيزا لي في وسط هذا الجدار بحدود إطاري الخشبي،أتنفس بعض الحرية مع مثيلاتي من اللوحات الفنية المتكدسة أمامي على الجدار المقابل لي،كانت مواضيع اللوحات متباينة بين صور عن الطبيعة ورسم تجريدي،إلا أنها تقوقعت على نفسها دون الترحيب بي،هل ربما أنني لازالت جديدا هنا في هذا المكان أم أن موضوعي مختلف عنهم؟ لا أدري كل ما أعلمه أنني أنتظر شارٍ لي حتى أنتقل إلى حيث يقيم، يا ليته يحسن اقتنائي ويهتم بي حتى أكيد هذه اللوحات اللئيمة!
مرت أيام دون مرور أي زائر هنا،لم أسمع سوى خطوات صاحب المتجر وهو يتجول بيننا،يندب حظه على عدم اهتمام الكثيرين بالفن تارة ويندد بالعواقب التي ستنعكس عليه إن لم يبيع أي لوحة تارة أخرى،كان يكتفي فقط بنفض الغبار عنا وبينما يقوم هو بذلك كنت أتمنى في أعماقي أن يقوم بإصلاح الجدار من خلفي! فالرطوبة المرتشحة منه أنهكتني حتى بدأت أشعر بها تتسرب إلى ورقتي بخبث مما زاد من ضجري هنا،ترى أين ذهب مقتنو اللوحات؟ هل شقت الأرض وابتلعتهم؟
وفي أحد الأيام وبعد أن فرغ من نفض بعض الغبار عنا،فتح باب المتجر ودخل منه رجل له هيبة واضحة من سيجاره الذي يضعه في فمه وبزته الفارهة،كان يجول في بصره بين جدران المتجر، وبينما هو يلقي نظرة سريعة علينا، كنا نتسابق فيما بيننا ونصرخ بصوت عال حتى يلتفت إلى إحدانا غير أنه لم يكن يسمعنا – كعادة البشر- واكتفى بنظرة باردة تجاه لوحة لمنظر شلال يضفي بهجة على ناظريه،ثم دار على عقبيه وشكر صاحب المتجر ورحل.
تبا! لماذا لم يلتفت إلي، فأنا رسمة “بورتريه” لفتى حالم! نعم، هكذا سمعت الرسام وهو يحدث صاحب المتجر عني،قال له سر هذه اللوحة وجمالها يتجلى في عمق نظرة عينين الفتى، فتخالها مرة أنها حزينة وتخالها مرة أنها شاردة في عالم خاص.
مرت أيام على حالنا هذا حتى شرع صاحب المتجر بعمل تخفيضات كبيرة على الأسعار لعله ينجح في بيع إحدانا،كنا قد أصابنا اليأس حتى شعرنا أن ألواننا ستبهت وتتحجر بين أركان هذا المكان دون أن يقتنينا أحد.إلى أن جاءت تلك اللحظة وفتح الباب،كانت خطوات نعليها خفيفة على الأرض لا تكاد تسمعها، كانت سيدة عجوز يمكنك التوقع أنها في نهاية السبعينيات من عمرها من غزارة البياض في شعرها ،تجولت بين أركان المتجر ثم توقفت أمامي،تأملتني من وراء عدستين سميكتين، ثم ابتسمت وأشارت بإصبعها اتجاهي وقالت بصوت خافت:” أريد هذه اللوحة من فضلك”، وما هي إلا لحظات حتى صرت متوشحا بورق تغليف بني اللون، وقد وضعت على المقعد الخلفي لمركبة هذه السيدة العجوز، لأبدأ رحلة جديدة مع مالك جديد، يا ترى هل ستكون سيدة طيبة وتعتني بي؟
علقت بعناية فائقة على جدار غرفة الجلوس، كانت اللوحة الفنية الوحيدة في هذه الغرفة،كانت غرفة صغيرة مكتظة بالأثاث ومقتنيات متناثرة هنا وهناك إلا أنها كانت تبدو عزيزة على قلب هذه العجوز. كان قبالتي مباشرة أريكة مختلفة عن بقية الأريكات في هذه الغرفة من حيث الحجم و اللون فقد كان لونها أزرق مخطط، ووضعت على مقربة منها منضدة سطحها دائري الشكل،كانت السيدة العجوز تبدأ يومها بالجلوس على هذه الأريكة محتسية كوبا من الشاي،وهي تتصفح الجريدة التي يحضرها إياها حارس العقار في كل صباح ،لا أظن أن كل مواضيعها تجذبها للقراءة،ربما تقرأ العناوين الرئيسية سريعا وتلقي نظرة جوفاء على زاوية الأبراج فلم يعد يهمها حظها في هذه الدنيا، فقد عاشت ما عاشته ورأت ما قسم لها من حلو ومر في أيامها، لكني متيقن أنها تتأمل الأسامي جيدا في صفحة الوفيات،تتمتم ببضع كلمات لا أكاد أسمعها قبل أن تضعها على المنضدة الدائرية جانبا،ربما أنها تدعو لهم بالرحمة أو أنها تسأل نفسها إن كان هناك من سيقرأ اسمها يوما ما على هذه الصفحة ويتذكرها بعد أن غاب عنها الأحباب وانشغلوا عنها بمتاعب الدنيا!
بعد الفراغ من قراءة الجريدة تنهض العجوز بهدوء وتدخل غرفة المطبخ تعد وجبة طعام خفيفة تتناولها وحدها على أريكتها المفضلة وسط هدوء قتلني أنا أكثر منها،فما أن تفرغ من وجبتها حتى تتمدد على سريرها تأخذ قيلولتها المعتادة،وتغيب عني بضع ساعات،فأبقى وحدي بين مقتنيات هذه الغرفة الصامتة.
لا أنكر أبدا أنني بدأت الاهتمام بتفاصيل حياة هذه السيدة مع مرور الوقت هنا،وأنني أشعر بخوف طفل تركته أمه وحيدا، مجرد أن تدخل غرفتها أو أن تخرج خارج البيت تتبضع من السوبرماركت،هل هو مجرد شعور بالفضول أم أنني أريدها أن تشاركني أيضا تفاصيل حياتي الضيقة في إطاري الخشبي هذا؟..لا أعلم! لكن ما أعلمه جيدا أنني بدأت أشعر بشيء ما يجذبني تجاهها.
كانت سيدة طيبة، اهتمت بنفض الغبار عني كل يوم، وتعديل إطاري الخشبي إن مال قليلا، كنت أشعر بالسعادة عندما كانت تطيل النظر إلي،وأشعر أن الحياة دبت في فجأة وأني أكاد أقبل أناملها عندما كانت تلمس ورقتي،لكني كدت أذرف الدموع عندما بكت أمامي وهي تتأملني يوم تذكرت ابنها المتوفي في ذكراه السنوية،يبدو أنني كنت أشبهه قليلا، وهذا سر اقتنائها لي،كم وددت لو أني أستطيع احتضانها يوما لأهون عليها قليلا.. ،يا ليتني كنت بشرا مثلك أيتها السيدة العجوز.
مرت أسابيع على ذلك اليوم، وفي أحد الأيام الذي بدأ يوما روتينيا كمثيل أيامها إلا أنه تميز أن العجوز كانت متوترة بعض الشيء،خاصة بعد إنهائها لمكالمة هاتفية كانت منزعجة في نهايتها ولم أعلم السبب،كان التوتر قد بدا واضحا من تكسر فنجان الشاي خاصتها وهي تضعه على المنضدة،كانت تمشي في أرجاء منزلها شاردة الذهن،مرت أمامي عدة مرات ولم تعرني أي نظرة كما اعتادت،حتى مقتنياتها لم ترتبها أيضا.
أمضت بقية اليوم صامتة،تناولت غداءها في صمت،وحتى عندما حل المساء،كاد الصمت يطبق على المكان ويبتلعه،لولا دقات ساعة الحائط التي كانت تكسر هذا الصمت قليلا،وما هي لحظات حتى نظرت العجوز صوبي أخيرا!كدت أرقص فرحا،كم أحب نظرتها الدافئة،نظرت صوبي مطولا ثم رسمت ابتسامة خفيفة على شفتها وعندها أغمضت عينيها وأراحت رأسها على الجانب الأيمن من الأريكة،ثم نامت كطفل بريء.
وفجأة رن هاتفها النقال وقد كان نادرا ما يرن في مثل هذا الوقت،رن مطولا دون أن يتسبب في إيقاظها،تعجبت أولها لكنني ظننت أنها نامت في سبات عميق،لكني قلقت فجأة عندما رن حارس العقار جرس شقتها ولم تستيقظ وهي دوما ما كانت تشكو من علو صوت الجرس عندما يقرع. شعرت وكأن لي قلب ينبض بشدة،بدأت بشعور وكأن شيئا غريبا قد حدث في هذا المكان،ففجأة توقفت عقارب ساعة الحائط ودوى صوت لكتاب سقط على الأرض من على رف المكتبة القديمة،بدا كل شيء أمامي مبعثر ومتناثر، رن هاتفها المتنقل مجددا،والسيدة لاتزال على حالها دونما حراك.. صرت أضرخ فيها طالبا إياها أن تستيقظ،لكنها لم تسمعني،ترى ماذا حل بك أيتها الطيبة؟
مرت بضع دقائق على حالنا هذا،أنظر صوب العجوز،قبل أن أرى هالة من النور تخرج منها وتطير صوبي تاركة جسدها المتكوم على الأريكة خلفها، كانت الهالة تتجسد على هيئة السيدة العجوز كانت بنفس نظراتها الدافئة وابتسامتها الرقيقة، وقفت أمامي برهة وكأنها تستأذن دخول إطاري الخشبي قبل أن أمد لها يدي مساعدا إياها في الدخول،كنت في قمة سعادتي أنها ستشاركني هذا الإطار الخشبي وتؤنس وحدتي في حياتي الضيقة التي لا تتخطى حدود هذا الإطار،كنت متحمسا أنني سأبذل كل جهدي في إبقائها مبتسمة وأزيل عنها رتابة الأيام التي عاشتها، فقمت بإدخالها فورا لتسكن معي وكأنها كانت العنصر الناقص في رسمتي،فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أقبل يدها بكل حنان، وهكذا تبدلت الرسمة من بورتريه لفتى حالم إلى لوحة “الفتى والسيدة العجوز” الذي سيظل تحولها سرا أبديا لا يعرفه أحد غيري وغير هذه السيدة الطيبة.