أشرف العشماوي: اخترت مواجهة الزيف المجتمعي عبر تقنية جديدة في السرد الروائي

أشرف العشماوي: اخترت مواجهة الزيف المجتمعي عبر تقنية جديدة في السرد الروائي
Spread the love

أشرف العشماوي مدرسة متفرّدة في فنّ الرواية العربية في زمن ما بعد الحداثة

خاص شؤون آسيوية – القاهرة – حوار: فاتن يعقوب /

يغلبني الشعر في تقديم الرّوائي المصري أشرف العشماوي الذي فاز مؤخراً بجائزة كتارا لأفضل رواية عربية عن روايته “الجمعية السّرية للمواطنين”. باعتقادي الشخصي والنقدي، “الجمعية السرية للمواطنين” هي أجمل ما كُتب في الرواية العربية منذ عقود. استطاع أشرف العشماوي أن يجمع الحسّ الروائي المنفرد، الحبكة المتكاملة، الشخصيات المحكية بلغات متعددة تتغيّر بانسياب حسب الحدث، فنّ التشويق المتماسك في ظلّ الإطار الزمني الروائي الطويل نسبياً–لا يضيع أي تفصيل في الشخصية أو الحبكة من البداية إلى النهاية– بالإضافة إلى خفّة ظلّ ملوّنة بمشاهد كوميديا سوداء تُضحك القارىء وتبكيه في الوقت نفسه، وواقعية تحاكي زمن ما بعد الحداثة بل وتشكّل مدرسة جديدة يمكن وبكل سهولة أن يُطلق عليها وحصراً اسم “مدرسة أشرف العشماوي في فنّ الرواية العربيّة في زمن ما بعد الحداثة”. ولذلك، قصيدة تقدير لأدب أشرف العشماوي في نهاية المقال.

كان لي الحظ أن التقيت أشرف العشماوي في القاهرة الغالية على قلبي ومعه كان هذا الحوار:

*مبروك جائزة كتارا لأفضل رواية عربية عن روايتك “الجمعية السّرية للمواطنين” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية. بداية، دعنا نتكلم عن التقنية الفنية التي استخدمتها في تأليف الرواية. بعد قراءتي للرواية، استطعت أن أتصوّر أنها تؤسس لمدرسة جديدة في عالم الرواية أود أن أطلق عليها “مدرسة أشرف العشماوي في رواية ما بعد الحداثة”. برأيك، كيف يستطيع أدبك أن يثور على مشكلات المجتمع المتأصلة في الفساد والتخلف والجهل من خلال الشكل/التقنية الفنية كما المضمون؟

أشرف العشماوي: أشكرك وأنا حقيقة سعيد جداً بفوزي بجائزة كتارا للرواية العربية وعن تلك الرواية تحديدًا فهي لها مكانة خاصة في عقلي وقلبي. وبالنسبة لتأسيس فكرة في رواية ما بعد الحداثة فالأمر لم يكن سهلا. الآن أغلب الروائيين في العالم تخلصوا من الأساليب القديمة للكتابة السردية الروائية وهيمنة فكرة السرديات الكبرى التي أسّس لها الأدب الروسي بشكل ملحوظ وتأثر بها الكثيرون، وأصبح الشاغل الفني الآن استبدال هذه التقنيات القديمة بسرديات مرحلية متجددة. حيث باتت الرواية الآن ذات فضاء مفتوح وحر عن ذي قبل، منفتحة على التجريب والتجديد بلا حدود، شكلا ومضمونا. وبالتالي أغلبنا الآن يستخدم تقنيات كتابة تعتمد التشظي وتقسيم النص وتفتيت الزمن والمحاكاة الساخرة وغيرها من حيل وطرق السرد. وسواء كتبنا فانتازيا صريحة أو واقعية مذهلة تقترب من حافة الفانتازيا ولا تتخطاها فالأمر لابد أن لا يخلو من الدهشة ليحدث صدمة للقارئ في البداية تجذبه حتى منطقة آمنة من النص. في روايتي “الجمعية السّرية للمواطنين” اخترت مواجهة الزيف المجتمعي من خلال تقنية روائية تعتمد على محاكاة مهنة بطل الرواية ذاته. البطل عندي فنان تشكيلي بارع في تقليد اللوحات وابتكارها وفي الوقت ذاته مأزوم يتخفى وراء آخر عديم الموهبة ويرسم باسمه من أجل المال، وهو يرسم لوحة لأهل منطقته – بقية أبطال الرواية – ويبدل فيها ويعدل منها بعد انضمامهم للجمعية السرية التي شكلها منهم برئاسته لا لشيء إلا لكي يعيشوا فقط بنقود مزيفة. والحياة هنا تشمل الفن والمأكل والمشرب والملبس والتعليم .. إلخ وكأنهم حكومة موازية من أجل رفاهية أهل منطقتهم الشعبية التي يعيشون فيها. اخترت أنا رسم لوحة موازية بالكلمات لكل ابطال النص يظهرون في نصفه الأول بشخصياتهم الحقيقية وفي النصف الثاني بالشخصيات المزيفة التي اختاروها لأنفسهم وبرعوا فيها، وكأن الزيف هو الحقيقة من فرط ما تمادوا فيه، واخترت تقنية الراوي العليم المحدود أو راوي الكاميرا الملتصقة بكتف بطل الرواية، تدور معه وتنقل عنه لنرى الحياة من خلاله أغلب الأوقات ولو كنت كتبت هذه الرواية بصورة نمطية أو كلاسيكية لما كانت حققت أي صدى في ظني. التقنية مهمة جداً في نقل الأفكار التي نودّ الوصول بها للقارئ.

* لطالما كانت الفنون وخاصة فن الرواية انعكاسا للمجتمع: في بعض المواقف تعبّر الرواية بواقعية كبيرة عن المجتمع الذي تنشأ عنه أو فيه وفي مواقف أخرى تشكّل حركة ثقافية قائمة على التغيير والثورة على المفاهيم التقليدية التي لا تستطيع مواكبة الزمن الجديد وتقلباته. برأيك، ما هي أبرز المفاهيم التقليدية التي آن لها أن تختفي وهل لفنّك نصيب في تحقيق ذلك؟

أشرف العشماوي: الحقيقة أنّ غالبية المفاهيم التقليدية للفن يجب أن تختفي ويحل محلها التقنيات الجديدة ولا أظن أن أحدا اليوم يريد الكتابة بتقنية تقليدية ويتوقع نجاحا بعدها. التقليدية تعني التقريرية واللغة الخبرية والمباشرة طوال الوقت وتعني الرواية التي تحمل مضامين الخير الذي ينتصر في النهاية على الشر وتقسيم الشخصيات إلى أبيض وأسود وهو أمر مخالف تماما لواقع الحياة. لا أحد كذلك على الإطلاق. الكتابة تدفق مشاعر وفي الوقت ذاته تجدد في الأسلوبية طوال الوقت، لا يمكن أن يتفق ذلك مع الاستسهال والمباشرة. ثم إن القيمة الجمالية لا تأتي من الفكرة بقدر ما تأتي من تجديد أسلوب السرد والبعد عن النمطية واعتماد الخط الزمني المتصاعد أو السرد المستقيم الذي لا يؤدي إلا إلى نتائج معروفة مسبقا تقتل دهشة القارئ من الصفحات الأولى . الأدب التقليدي تعليمي يقوم على النصح والإرشاد ورسم خطوط فاصلة بين الخير والشر ومحاولة إجابة على أسئلة وهو عكس معنى الفن الحقيقي. والحقيقة أن من يغوص في النفوس البشرية يكتشف أن كل ما سبق غير موجود في الواقع أو مجرد قشرة لو نزعت سنكتشف طبقات كثيرة تحتها جديرة بالتأمل والدراسة تستحق الكتابة عنها بشكل فني. وهذا التجديد بالضرورة ينسحب أيضاً على حوار الرواية فلابد أن يدفع الحدث للأمام لا مجرد نقل خبر أو فكرة كما في السابق. وأخيراً على كل فنان وروائي أن يعي جيداً هدفه وهو تقديم فن جديد مغاير كل مرة. الفنان ليس مطالب بتقديم حلول ولا وضع روشتة نجاح. الفن حياة موازية في تقديري. وأتمنى بالطبع أن يكون لفني نصيب في التعبير عن مجتمعي وعن أفكاري التي أطرحها عبر رواياتي .

أشرف العشماوي يتسلم جائزة كتارا للرواية العربية

*في مقابلات سابقة، ذكرت أنك
تتناول التأليف كعمل روتيني تواظب عليه حتى ينضج ويصبح رواية، ولكن كيف تأتي اللحظة الأولى؟ لحظة “وجدتها” أو “في روايتي سأتناول كذا وكذا”؟

أشرف العشماوي: اللحظة الاولى مدهشة، أشبه بومضة عابرة لابد من الإمساك بها في حينه وإلا تختفي للأبد، أظن أنها منحة من الله هكذا اعتقد. صحيح الروائي يقرأ كثيراً وأيضا يبحث في أرشيفات و تشغله هموم عامة وخاصة ويقابل شخصيات متعددة ويسافر أحيانا وكلها وسائط تساعد على الكتابة، لكن تلك الومضة التي تحمل على أجنحتها الصغيرة فكرة حديثة الولادة أظن أنها منحة ربانية بحتة. أنا شخصياً يحدث معي الأمر بصورة أقرب للجنون. أشعر أن صوتاً يهمس في أذني بفكرة ما وأتتبعها بخيالي وأجد أنني أراها تكتمل مع الوقت وخلال ساعات أكون حصلت على تيمة لها شكل لكنها غير واضحة الملامح بعد. هنا أقول وجدتها وأبدأ في التخييل والبحث وراء هذه الفكرة حتى تكتمل بشخوصها وعوالمها بصورة واضحة ووقتها فقط أقول سأتناول كذا وكذا .

* من هو ناقدك الأدبي الأول المحرّر أو القارئ؟

أشرف العشماوي: ناقدي الأول والأخير هو أنا بالطبع، أكتب ما أحب وما أريد دون قيد. الكتابة خلاف النشر لابد أن تتحرّر من كلّ قيد أولًا حتى تولد سليمة. لكن ما بعد الكتابة وقبل النشر هناك أشخاص أهم مني بالنسبة لروايتي ورأيهم فارق لي، عين أخرى محايدة، عين ترى الخطأ بحجمه وترى النجاح في حدوده ،هؤلاء هم من يدفعوني إلى الأمام دوما. أولهم محرري الأدبي بدار النشر وابني الأكبر وأصدقاء لي محدودين للغاية لكني أعتبرهم عين ودودة تقرأ معي المسودة الأولى للعمل وتبدي لي ملاحظاتها وأهتم جداً برأيهم وأحرص عليه في كل رواية. بعد النشر أهتم للغاية برأي القارئ وأحرص على الرد على الجميع قدر الممكن. أنا أعمل بمفردي وليس لدي فريق عمل وبالتالي الأمر يكون شاقاً في بعض الأحيان مع زيادة قاعدة القرّاء.

* في مقابلة سابقة ذكرت أنك نشرت أول رواية بعد 12 سنة من الكتابة وأنّك تراجع وبقسوة كل ما تكتب قبل أن تنشر الرواية. هل أصبحت أقل حدّة مع نفسك كناقد ومحرّر مع كل الخبرة والشهرة ومحبة القرّاء التي اكتسبتها في السنين الماضية؟

أشرف العشماوي: أنا أراجع بقسوة بالفعل كل ما أكتبه وأصل أحيانا إلى أكثر من ثماني مسودات للرواية الواحدة. أحذف وأضيف وأبدل واغير طوال الوقت، وللأسف لم أصبح أقل حدة مع نفسي بل صرت أكثر قسوة. الخبرة تفيد لكن الشهرة تشعرني بالمسؤولية، ومحبة القراء أشعر أنها تراكمت بسبب الحرص على تقديم أفضل ما عندي، ولابد من الحدة في المراجعة لأقصى درجة للحفاظ على المكانة التي وصلت إليها. أنا لازلت أخاف من القارئ إلى الآن وأشعر بمسؤولية تجاهه وأفكر وقت النشر فيما إذا كان العمل سيلقى قبولا لديه أم لا. والحقيقة أن تلك الفترة هي أسوأ مراحل ما بعد الكتابة، انتظار النتيجة وهو أمر مرهق نفسياً بالنسبة لي، انتظار لرأي قراء تختلف ذائقة كل منهم عن الآخر، ومراهنة على مجهول كل مرة بسبب تنوع الأعمال والأفكار وطريقة التناول، ومهما تعبت في عملي وكتابتي فالقارئ لا يعنيه ذلك كله، إنما سيحكم على ما بين يديه. الأمر بالنسبة لي إلى الآن مخيف وكأنه العمل الأول كل مرة.

* في جميع الروايات التي قرأتها لك، للفترة الزمنية أهمية بالغة في تحديد الإطار العام للأحداث ورسم الشخصيات. في وقتنا هذا، ما هو الموضوع الذي يشغلك بقوة فيما يخص الرواية التي تعمل عليها؟

أشرف العشماوي: الفترة الزمنية مهمة جداً في تشكيل الحدث وبلورة الفكرة التي أعمل عليها، لا يمكن مثلا أن أتحدث عن صالات المزادات في مصر كما فعلت في رواية صالة أورفانيللي دون العودة لبدايات القرن العشرين، إلى حارة اليهود، إلى اليهود المصريين المسيطرين على هذه الصالات، إلى نوعية الطبقات الاجتماعية التي ارتادتها وهكذا. الفكرة عادة تقود إلى الزمن والتيمة تقود إلى عصر معين أكثر من غيره لأنّ الروائي يجد أنه مناسب لوصول فكرته بصورة أسلس للقارئ. منذ شهور بدأت العمل على رواية لكني لم أكن مرتاحا لها بعدما قطعت فيها شوطا، لا أعرف السبب إلى الآن لكن أظن أن ذهني كان مشغولاً بفكرة أخرى أحببتها أكثر والروائي لابد وأن يكتب ما يحب حتى يحب القارئ ما يكتبه. عدت إلى ما أحببت، حالياً أكتب نوفيلا، رواية قصيرة عن فكرة أقرب للفانتازيا تدور تيمتها الأساسية عن خداع الصورة. ولو اكتملت كما هي في ذهني الآن أظن أنني سأكتب المزيد منها، لكن حتى الآن هي مجرد محاولة خاصة أنني أول مرة أكتب نوفيلا، أي لابد من الابتعاد عن قماشة الرواية العريضة الواسعة والتفاصيل الكثيرة، لست أدري ما إذا كنت سأنجح أم لا لكني أحب المغامرة والتجربة كل مرة.

انتهى الحوار.

*****************
تتقنُ افتعال الحياة
وتنجو من سكونها بحذر،
تضحك مع قصة جنونها
وبين كلماتك تترنّح بخدر،
تنزع عن السّطح وجوهها
وتُلبس عابريها قبّعة البطل،
توزّع على القاصي كما الدّاني
تذكرة يشتري بها وهم الأمل.
وبين أصابعك تشبك الخيوط
وتغزل حكايا
تطبعها
قبلةً
على جبين القدر،
وتجالس من كان للرأي صاحبه
وتشاهد من عُلِيٍّ
قانون التكوين والشذز.
فاتن يعقوب