المفاجأة

المفاجأة
Spread the love

قصــــة قصيـــرة؛
المفاجــأة – بقلم محمد عبد الشّافي القُوصِـــي ء
على الرغم من حرصهِ على تفسير “سورة الإسراء” قبل انتهاء الشهر الفضيل، إلاَّ أنه رأى مِن الحكمةِ أنْ يُخصِّصَ درس ذلك اليوم عن “زكـــاة الفطـــر”!
أثناء شرحهِ لأحكامها، وشروطها، ونِصَابها، ومصارفها، ووقتها … اعترض أحد الشبَّان المُتشدِّدين، قائلاً: لابدَّ مِن إخراج الزكاة تمراً أوْ شَعيراً !
فتبسَّم الشيخُ ابتسامةً عريضة كابتسامة الخضْر عليه السلام، وقال: مهلاً يا بُنيّ، نحن لا نفرِضُ رأياً على أحد، ولا نتعصَّبُ لأيّ مذهب، بلْ نأخذ بالقاعدة الفقهية التي تقول: “حيثما كانت المصلحة فثمَّ شرعُ الله”. فالفقير في حاجةٍ إلى نقودٍ يشتري بها طعاماً أوْ ثياباً لأبنائه، وليس شَعيراً يعلِفهم به!
واستطرد الشيخُ قائلاً: ولوْ أخذ الناسُ بالرأي الذي تقول به؛ وانطلقوا في وقتٍ واحدٍ يشترونَ سلعةً بعينها؛ سيحدث احتكار شديد لها، ومِن ثمَّ يصبح صاع الشعير بمئات الدولارات!
ثمَّ مِن أين نأتي بالشعير في هذا العصر الذي صِرنا فيه نستورد الشعير والقمح والتبن والبصل والثوم من الصين وكوريا والهند؟ وكيف يتصرف ذلك الفقير في أطنان الحبوب التي ستُوضَع أمام بابه؟ أيتحول إلى تاجر حبوب .. ومِن ثمَّ نذهب لنشتريها منه؟!
فضَجَّ الحاضرونَ بالضحك دون توقف … وهم ينظرون إلى صاحبهم مِن طرفٍ خفيّ!
فنكَّسَ الشابُ رأسه، وأُصِيبَ بالحرج، ثمَّ انصرف مسرعاً!
فأشفقَ عليه الشيخ، ونادى عليه مراراً، فلمْ يستجب … فقال الناسُ: دعه -يا مولانا- ولا تُشغِل نفسكَ بأمثال هؤلاء المُتفيهقين!
* * *
بعدما فرغ الشيخُ من درسه؛ انطلق لمشاركة جيرانه في إعداد الموائد الرمضانية … وأثناء الطريق؛ سأله أبناؤه: متى سنُخرِج زكاة الفطر؟ فقال لهم: سنذهب بها إلى أخوالِكم في (غَـــــــزَّة) الذين انقطعتْ أخبارهم عنَّا .. فابتهج الأطفالُ بهذه الفكرة!
وبالفعل؛ في آخر يومٍ من رمضان، توجهوا إلى “غــزة” للاحتفال بالعيد هناك مع أبناء أخوالهم … وسارع الأطفالُ إلى شراء اللعب، والثياب، والحلوى، والنظّارات، والساعات، وبعض الأدوات المدرسية للعام الجديد، حتى أرهقهم حملها في الصعود والنزول، بسبب مشقَّة الصيام، وحرارة الجو، ووعثاء السفر.
وقد بلغ بهم الإعياء مبلغه، وبلغتْ المعاناة ذروتها؛ عندما وصلوا إلى معبر رفـــح، فلمْ يُسمَح لهم بالدخول، بسبب الحرب المُستعِرة هناك!
فظلُّوا عالقين على المعابر، لا يجدون ما يأكلونه عند السحور والإفطار، ولا يجدون مكاناً للنوم، ولا للصلاة … وأخذ طَفِقَ والدهم يتضرع بالدعاء، ويجأر إلى الله بالشكوى كيْ يُنفِّس أزمتهم، ويكشف كربتهم، فكان يقول: (يا مَن أجبتَ ذا النون في كَربه؛ ارحم عباداً كلهم ذو النون)! وقد كان هذا الدعاء على موعدٍ مع القدر … فإذا بسائق سيارة إسعاف يرقُّ لحالهم، ويأخذهم معه.
لكن مع ضراوة القصف، وتساقط القنابل العنقوديّة؛ توقف السائقُ عند “خــان يونس” معتذراً لهم عن مواصلة السير … فاضطروا أنْ يُكمِلوا مسيرتهم مشياً على الأقدام وسط ظلامٍ دامس، وهم يسيرونَ فوق أشلاء الموتى، حتى تبخرتْ مشاعر البهجة بالعيد الذي كان الأطفالُ ينتظرونه، ويُعدُّون له العدة، ويحسبونَ له الساعات والدقائق!
وبعد أوقاتٍ عصيبة من السير فوق أنقاض المنازل المنهارة، والمدارس المتهدِّمة .. وصلوا إلى بيت العائلة المُميّز بارتفاعه عن سائر المنازل، وكثرة أشجار الزيتون المحيطة به … وهنالكَ حدثتْ المفاجأة … فقد أصابهم انهيار عصبيٌّ مُباغت، وراحوا في نوبة إغمـاءٍ طويلة … إذْ رأوا المنزلَ الشاهق البنيان تحوّل إلى كومةٍ من الطوب والتراب، ثمَّ وجدوا خشبةَ الباب العتيقة، مكتوب عليها:
نعتذِر عن استقبال الضيوف؛ لأنَّنا ذهبنا جميعاً إلى الجَنَّـــــــــــــة !
* * *