التكنولوجيا الحديثة تمزق الرسائل الأدبية

التكنولوجيا الحديثة تمزق الرسائل الأدبية
Spread the love

شجون عربية – بقلم: عثمان حسن |

هل من الممكن تخيل صدور كتاب يحتوي على رسائل أدبية وإبداعية رفيعة من «الإيميل» أو الفيسبوك، أو «التويتر»؟ الجواب بكل بساطة، لا يمكن ذلك، فقد أنهت التكنولوجيا الحديثة مثل هذا الأدب الرفيع، الذي أنتج نوعاً مميزاً من الكتابة خلال القرون الماضية.

«أدب الرسائل» أو «المراسلات الأدبية» التي صدر معظمها في كتب، لا تزال إلى الآن تشكل مرجعاً مهماً لكثير من الدارسين والنقاد والكتّاب، فهي من دون شك «ذاكرة لزمن جميل» نقرأها، فنستمتع بها كأجمل ما خلدته سيرة هذا الأدب، وما يمتاز به من رشاقة وحس جمالي وإنساني بديع.

القائمة تطول، لتسجل نخبة من الأسماء الأدبية في العالم، من مراسلات ديكارت والملكة إليزابيث الأولى، في القرن السابع عشر، وصولاً إلى مراسلات مكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، وسيمون دي بوفوار وسارتر، ومراسلات كافكا وميلينا التي جُمعت في كتاب بعنوان «رسائل إلى ميلينا».

أما عربياً، فثمة قائمة أدبية أخرى ثرية لأسماء خلدتها الذاكرة العربية، تحت باب «أدب الرسائل» ما بين شعراء وفنانين ازدهرت بما حوته من بُعد ثقافي وفكري، كما نجده في رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، ورسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، وغيرهم الكثير.

وثيقة فلسفية

نظر النقاد إلى مراسلات أبي الحداثة رينيه ديكارت مع الأميرة إليزابيث (1618 – 1688)، بوصفها شكلت مزيجاً مثيراً للاهتمام، بما تضمنته من تعليقات فلسفية عميقة، من جهتها أثارت إليزابيث في رسائلها لديكارت، أسئلة جدية جعلت ديكارت يتعمق في بحث قضايا الأخلاق، والانفعالات، والسياسة، هي 7 سنوات من المراسلات بين الطرفين، طورت العلاقة بينهما، وأغنتها بالحوار والإعجاب، كانت إليزابيث بالنسبة لديكارت مجرد تلميذة تحوز مفكراً كبيراً، وكانت مغرمة بدراسة الفلسفة، وتود بشغف البحث عن الحقيقة عن طريق المحاججة الفكرية مع هذا الفيلسوف.

في إحدى رسائل ديكارت إلى الأميرة في عام 1645 اقترح عليها قراءة كتاب سينيكا عن الحياة السعيدة؛ وذلك لمناقشة موضوع السعادة، وفي رسالة أخرى نوه بمؤلف «الأمير» لمكيافيلي، ليوجهها نحو إدراك أهمية الأخلاق في السياسة.

قدمت المراسلات بين دكارت وإليزابيث وثائق فلسفية يمكن من خلالها معرفة بداية تشكّل الاهتمام الفلسفي عند الأميرة، وامتازت بلغتها الراقية، وما فيها من حوار رشيق والتزام أخلاقيات الحوار.

حكمة

من بين المراسلات الأدبية الشهيرة في القرن التاسع عشر، لا بد من الإشارة إلى رسائل دوستويفسكي إلى زوجته، وما فيها من إبداع على تماس مع الحكمة والتركيز العميق في جوانب النفس البشرية.

لقد وصف دوستويفسكي مشاعر الحب الراقية بين الرجل والمرأة، خاصة بعد أن توفيت زوجته الأولى، فبدأ يشعر بالفقد والوحدة، واستمر ذلك لوقت طويل إلى أن قابل فتاة أحلامه التي أصبحت زوجته الثانية وأم أبنائه، في رحلته العلاجية التي استمرت طويلاً كتب دوستويفسكي الكثير من الرسائل إلى زوجته، ولم يتم نشرها إلا بعد وفاته بفترة طويلة. في مراسلات شهيرة ما بين مكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، تكاد تتشابه الحالة مع سابقتها فتشيخوف قرأ كتاباً لتلميذه الشاب غوركي، فأثنى على أسلوبه، وتبادل الاثنان رسائل تتسم بالحماس، من جانبه يقر غوركي بفضل معلمه، مع استمرار تشيخوف بتشجيعه حتى يهذب كتابته، ويطور أسلوبه بشكل أكبر.

بطبيعة الحال تطورت علاقة الصداقة بين الاثنين لتتجاوز حدود التلميذ والأستاذ، نحو مستوى رفيع من النقد الرصين والبناء الذي قدم صورة حقيقية عن أدب تشيخوف.

من الناحية الأدبية الصرفة، فقد كشفت الرسائل، عن جانب مهم له علاقة بفن كتابة القصة القصيرة، في الوقت الذي كان فيه غوركي قد بدأ للتو يكتب قصصه الأولى، وهذا جانب مهم في الثراء الأدبي والفكري بين الاثنين.

موهبة

تجاوزت مراسلات الكاتبين الفرنسيين الشهيرين سارتر وسيمون دي بوفوار، حدود الصداقة والحب إلى مستوى أكبر يتصل بالإبداع والانسجام الفكري وتقاسم الرؤية حول العالم، وهو بحسب الخبراء ما أدى إلى استمرار هذه العلاقة، على الرغم مما صاحبها من مخاطر، فقد عرفا بموهبتهما العالية وذكائهما المتوقد، الذي طبع القرن العشرين ببصمتهما الخاصة ونتاجهما الفكري الغزير، وما تبنياه من موقف واضح لاعتناق الحرية كقيمة إنسانية مطلقة، وضرورة تبنيها وتمثيلها على أرض الواقع.

من أبرز الكتب التي يمكن إدراجها تحت باب «أدب الرسائل» ما جمع تحت عنوان «رسائل إلى ميلينا» للمؤلف إلياس كانيتي، الذي يكشف مراسلات الألماني كافكا مع صديقته ميلينا، الذي يعترف من خلاله بأجمل سنوات حياته معها، بدأت مراسلات كافكا وميلينا في خريف 1919، في مقهى في براغ؛ حيث اقترحت عليه مباشرة ترجمة أعماله من الألمانية التي كان يكتب بها إلى اللغة التشيكية، والجدير أن كافكا كتب نحو 149 رسالة وبطاقة بريدية لميلينا، منها 140 رسالة كتبت خلال فترة لا تزيد على 10 شهور.

أساليب بديعة

عرف تاريخ المراسلات الأدبية نوعاً فريداً من الحوارات بين اسمين بارزين في تاريخ الأدب العربي، هما: جبران خليل جبران ومي زيادة، كما هي الحال بالنسبة لمراسلات غسان كنفاني وغادة السمان التي ألقت الضوء على جانب مهم من الأساليب البديعة في كتابة الرسائل من الناحية الأسلوبية والبيانية، وما قاربته من مستوى يليق بمفاهيم الحب والجمال.

إبداع مميز

كانت الرسائل الأدبية حالة فريدة من الإبداع يؤمن بها كبار الأدباء من حيث كونها قادرة على الاحتفاء بالمشاعر وتوصيلها إلى الآخر في أبهى صورها. وفي الشرق العربي عرفت المراسلات في القرن التاسع الميلادي تحت اسم أدب المكاتبات، وكانت تقسّم إلى ثلاثة أقسام، المراسلات الأدبية، والمراسلات الأهلية التي تعرف برسائل الأشواق التي تدور بين الأصدقاء والأقارب، والمراسلات العلمية. وقد انتقل هذا الفن من الشرق إلى الغرب عن طريق إسبانيا – الأندلس- بعد القرن الثاني عشر الميلادي.

المصدر: صحيفة الخليج