سنة على المعركة الجديدة في قطاع غزة: أسلوب حماس؛ “معركة بين الحروب”

سنة على المعركة الجديدة في قطاع غزة: أسلوب حماس؛ “معركة بين الحروب”
Spread the love

بقلم: ميخائيل ميلشتاين – رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز دايان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا. عمل سابقاً كمستشار في الشؤون الفلسطينية وكمنسق لنشاطات الحكومة في المناطق، ورئيس الساحة الفلسطينية في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية —

في هذه الأيام تمر سنة على المعركة الدائرة على حدود قطاع غزة. خصائصها ومدتها الزمنية تختلفان في ماهيتهما عن الصراعات التي خاضتها إسرائيل في هذا القطاع في العقود الأخيرة. ونتيجة ذلك، يمكن اعتبارها “معركة جديدة” بدايتها بـ”مسيرات العودة” – احتكاك شعبي بحجم وقوة لم نشهدهما من قبل في قطاع غزة. لاحقاً، المعركة الجديدة المتمثلة في إرهاب الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، والمواجهات العسكرية المحدودة على طول الحدود؛ وذورتها – جولات التصعيد التي ذكّرت بالفترة التي سبقت عملية “الجرف الصامد”.
حتى نشوب المعركة الجديدة ركزت إسرائيل على التهديدات ذات الطابع العسكري من قطاع غزة، وعلى رأسها إطلاق صواريخ، حفر أنفاق، واحتكاكات في منطقة الحدود (هجمات قناصة، وضع عبوات ناسفة، رشق قنابل يدوية، وإطلاق صواريخ مضادة للطائرات). نموذج الكفاح الشعبي- الذي تميّزت به عامة الضفة الغربية، حيث الاحتكاك بين الجيش الإسرائيلي والجمهور الفلسطيني أوسع نسبياً – انتقل إلى منطقة القطاع، مع ملاءمته للظروف الخاصة بالمنطقة. كل هذا مع المحافظة على وتيرة مستمرة من مواجهة فرضت على إسرائيل تأهباً مستمراً، وتخصيص قوات كبيرة، وتحويل انتباهها عن التحديات الاستراتيجية المركزية التي تواجهها، وعلى رأسها الجبهة الشمالية.
المعركة الجديدة لم يكن لديها خطة تنفيذ منظمة، بل هي نتيجة “المحاولة والخطأ” اللذين قامت بهما “حماس” خلال السنة الأخيرة. الصراع الذي بدأ منذ آذار/مارس 2018 حدث في أساسه نتيجة مبادرات شعبية مستقلة، حظيت منذ البداية بحماية “حماس” التي حسّنتها وجعلتها تلائم حاجاتها وأهدافها. بالنسبة إلى “حماس”، الهدف من الصراع إنقاذها من الضائقة المتعددة الأبعاد التي تعانيها، من دون المخاطرة بمعركة عسكرية واسعة النطاق وكثيرة الأضرار من نوع “الجرف الصامد”. ويمكن نتيجة ذلك تسمية أسلوب عمل “حماس” “معركة بين الحروب”، مصطلح مأخوذ من المفاهيم التي طوّرها الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.
عشية المعركة الجديدة واجهت حماس “أمراً عسيراً” على مختلف الصعد. الاهتمام المركزي للحركة تركز على الضائقة المدنية الصعبة في القطاع، وكان اهتمامها الأساسي إيجاد وسائل للتخفيف من هذه الضائقة… كان الهدف من المعركة الجديدة، من جهة، الضغط على إسرائيل كي تسمح بتسهيلات مدنية إضافية في قطاع غزة؛ ومن جهة أُخرى – كان الهدف من الصراع صرف انتباه سكان القطاع عن مشكلاتهم الداخلية وتحويل الإحباط نحو إسرائيل. وكان من المفترض أن يساهم الطابع الشعبي لمعظم الأحداث – وخصوصاً “مسيرات العودة”، وأيضاً إرهاب الطائرات الورقية والبالونات – في تعبئة شرعية داخلية وخارجية، وبذلك منع إسرائيل من تحقيق تفوقها العسكري لدى مواجهتها التحديات الجديدة في منطقة القطاع.
الحصيلة العامة لـ”حماس” بعد مرور عام على المعركة ليس باهراً. من جهة، أجبرت الحركة إسرائيل على معالجة ما يجري في قطاع غزة ونجحت في وضع الموضوع في مركز الخطاب الإسرائيلي، وأحرجت أحياناً المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل (“حماس” تعزو إلى نفسها “إنجاز” استقالة وزير الدفاع، أفيغدور ليبرمان، وتقديم موعد الانتخابات). بالإضافة إلى ذلك، حققت “حماس” إنجازات مدنية، أتاحت انفراجاً معيناً في وضع سكان القطاع في الأشهر الأخيرة، وعلى رأسها التوصل إلى تفاهمات شملت تنظيم الدفعات التي تمولها قطر لرواتب الموظفين في القطاع، ولاستهلاك الكهرباء (وهو ما أدى إلى مضاعفة ساعات التزود بالكهرباء في المنطقة من 4 ساعات إلى 8 ساعات أو أكثر).
لكن الانفراج المتحقق ظل إلى جانب مشكلات أساسية صعبة لم تستطع “حماس” إيجاد حلّ لها، وعلى رأسها البطالة (وخصوصاً وسط الشباب)، والوضع السيء للبنى المدنية، والقيود على الحركة إلى القطاع ومنه. وهذه كما تعرف “حماس” لم تختف، وهي تنطوي على احتمال انفجار داخلي دائم. بالإضافة إلى ذلك، اعتبرت التسهيلات التي تحققت لا توازي الثمن الإنساني الباهظ الذي دُفع في المعركة الأخيرة، وهذه حجة انتشرت في الحديث العام في القطاع، ومن حين إلى آخر تحظى بتعبير علني غير عادي.
تطرح المعركة الجديدة عدداً من الأفكار حيال الصورة الحديثة لـ “حماس”، وحيال توجهات أساسية في المعركة الفلسطينية:
الانفصال نظرياً وعملياً بين جزئي الإطار الفلسطيني. على الرغم من مقتل أكثر من 250 فلسطينياً في الاحتكاكات في منطقة الحدود في قطاع غزة في السنة الأخيرة، ظلت الضفة الغربية هادئة نسبياً من الناحيتين الشعبية والأمنية. وعلى الأقل حتى الآن، يبدو الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية مرتدعاً عن تشجيع خطوات شعبية (بما فيها خطوات دعم أخوانهم في قطاع غزة)، ويفضل الاستمرار في المحافظة على نسيج حياته وتطويره. يؤدي هذا إلى إحباط عميق لدى “حماس” التي تحاول، من دون توقف، “إشعال” الضفة الغربية من خلال المبادرة إلى هجمات، وتشجيع النضال الشعبي.
تتعمق النظرة الذاتية لدى “حماس” كطرف حاكم، بين أهدافه المركزية، وربما الأكثر مركزية، المحافظة على الحكم ومعالجة وضع المدنيين. كل ذلك من دون التنازل عن طابعها الأساسي كحركة، وعن أهدافها الاستراتيجية، وفي الأساس عن الأهمية التي توليها للمحافظة على قوتها العسكرية وتطويرها. الاعتبار المدني، كما في حالة “الجرف الصامد” موجود في داخل المعركة الجديدة، ويدل مرة أخرى على العلاقة المتينة في قطاع غزة بين الواقع المدني والواقع الأمني – ارتباط لم يكن مفهوماً جيداً في إسرائيل عشية “الجرف الصامد”.
تسعى “حماس” طوال الوقت لفهم طريقة التفكير الإسرائيلية، ومن الواضح أن زعامة الحركة تفهم جيداً الارتداع العميق- في الحكم والجيش ولدى الجمهور الإسرائيلي- من تصعيد “يتدهور” ويؤدي إلى احتلال القطاع. في ضوء ذلك، تدفع “حماس” قدماً بنموذج نضال يسمح لها بإظهار صورتها كتنظيم مقاوم، وأن تثبت أنه على الرغم من تحوّلها إلى حزب حاكم، ومن خوفها العميق من معركة واسعة، فإنها لن ترتدع مطلقاً عن الدفع قدماً بعمليات استفزازية حيال إسرائيل.
عودة إلى “زمن الجولات”. هذه الظاهرة تترافق مع خطر انزلاق الطرفين، حتى من دون تخطيط أو قصد، إلى معركة واسعة، كما حدث سابقاٌ في “الجرف الصامد”. التضافر بين الجرأة المتزايدة للفصائل المسلحة في القطاع، وارتداع “حماس” عن فرض إرادتها بالقوة عليهم، يشكلان وصفة للتدهور: يمكن لاحتكاكات محدودة أن تتطور إلى “تبادل ضربات” مع إسرائيل، وأن تتوسع لاحقاً إلى مواجهة واسعة.
تفاقم مشكلة الجيل الشاب في المنظومة الفلسطينية بصورة عامة وفي قطاع غزة خصوصاً. الشباب الغزاوي هم القوة المحركة المركزية للنضال الحالي، ووزنهم كبير وسط جمهور المتظاهرين، وعلى حد سواء بين القتلى وفي الاشتباكات. تدرك “حماس” طبعاً، الإحباط العميق وسط جمهور الشباب الذي لا أفق لديه، ويشعر جزء كبير منه بأن ليس لديه ما يخسره، وهي تحاول توجيههم إلى العمل ضد إسرائيل. في المستقبل يمكن أن يتوجه انفجار غضب الشباب ضد “حماس”، ويمكن أن يدفع الحركة إلى المبادرة إلى القيام بخطوات عسكرية محدودة ضد إسرائيل، بهدف تحويل الانتباه العام عن المشكلات الداخلية.
يُعتبر قطاع غزة الساحة الأكثر قابلية للانفجار بين الساحات التي تواجهها إسرائيل حالياً. صحيح أنه ليس لدى أي من الطرفين مصلحة في التصعيد حتى موعد الانتخابات في إسرائيل، لكن كما في الماضي، يمكن أن يحدث تدهور أيضاً بخلاف رغبة الطرفين، نتيجة احتكاك مستمر يرافقه خطأ في الحسابات. يبدو أن “حماس” تشعر في المرحلة الحالية بعدم الرضا عن حجم ووتيرة تنفيذ التفاهمات مع إسرائيل، وبناء على ذلك من المفيد بالنسبة إليها الاستمرار في نموذج المعركة الجديدة لمراكمة إنجازات مدنية إضافية. ويبدو في هذه المرحلة على الأقل أن إطلاق سلاح 4 نشطاء من الذراع العسكرية لـ”حماس”، كانوا معتقلين في مصر منذ 2015، والذي بدا كمحاولة من القاهرة لضمان عدم إقدام “حماس” على التصعيد، لم يترجَم بتقليص الاحتكاك في منطقة الحدود. بل على العكس، استمرار الهجمات من خلال البالونات والطائرات الورقية الحارقة خلال الأيام الأخيرة، بالإضافة إلى “الازعاجات الليلية” وهدفها المس بنسيج حياة سكان غلاف غزة (وخصوصاً تفجير عبوات بالقرب من السياج) كل ذلك يجر إلى هجمات إسرائيلية ويوفر خلفية في وقت قريب لاحتمال حدوث تدهور لا يمكن السيطرة عليه. وفي الخلفية انتهاء الشتاء وبدء موسم الربيع وبداية أيام الذكرى الوطنية في المنظومة الفلسطينية (من “يوم الأرض” وحتى “ذكرى النكبة” في 5 حزيران/ يونيو)، وخلالها يمكن الدفع قدماً بأحداث احتجاجية شعبية بمشاركة جماهيرة واسعة بسهولة نسبية.
الواقع الأمني في قطاع غزة سيظل مرتبطاً بالوضع المدني في المنطقة. الدفع قدماً بخطوات مدنية من جانب إسرائيل، ولو بحجم محدود نسبياً – مثل تسهيلات في مجال الحركة، وتحريك مشاريع بنى تحتية (وخصوصاً في مجالي المياه والكهرباء) وكذلك تشجيع المساعدة الخارجية – يمكن أن يساعد في الزمن القريب في تهدئة التوتر في القطاع. كما في إمكان هذه الخطوات أن تخفف إلى حد ما من الإحباط العام وتزيد حوافز “حماس” لفرض سيطرتها. ما يجري الحديث عنه هنا هو قرار معقد يطرح خيارين نقيضين على إسرائيل: من جهة الدفع قدماً بتسهيلات مدنية حيال قطاع غزة، تستغلها “حماس” وتنطوي على اعتراف بحكمها (وذلك من دون الدفع قدماً بموضوع الأسرى والمفقودين)؛ ومن جهة ثانية – زيادة احتمال الدخول في مواجهة عسكرية واسعة، من الصعب التنبؤ بالطريقة التي ستنتهي فيها.

المصدر: مجلة مباط عال الإسرائيلية، مباط عال”، العدد 1145، 7/3/2019، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية