هاشم صالح: ينبغي تطوير الفقه الإسلامي

هاشم صالح: ينبغي تطوير الفقه الإسلامي
Spread the love

حوار: د. ريتا فرج – باحثة لبنانية في علم الاجتماع، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث —

انشغل الكاتب والمترجم السوري هاشم صالح بــ”مشروع التنوير العربي/ الإسلامي”. سعى إلى تشخيص أمراض “مجتمعاتنا” وما أنتجته من ظواهر سلبية كالعنف الديني والأصولية والتطرف، مطالباً بمواجهتها بلا مواربة بغية الخروج من “الانسداد التاريخي” الراهن والتدرج نحو الحداثة.

آمن صاحب “معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا” بوجوب خوض “معركة الإصلاح الديني في الإسلام”. قد يشكل هذا التحدي إحدى أهم القواعد التي نظّر لها في مؤلفاته، لا سيما حين أجرى مقارنات جادة بين المسيحية والإسلام، إيماناً منه بأهمية الأخذ بالتجربة الريادية الغربية التي أخرجت أوروبا من عصورها الظلامية.

دعا صالح إلى “إسلام الأنوار” كما فعل المفكر الجزائري الفرنسي الراحل مالك شبل (1953-2016)، الذي كان أول من أطلق هذا المصطلح في اللغة الفرنسية. رأى أن دحر الإسلاموية الأصولية/ السلفية معركة لا بد منها من أجل إخراج المسلمين من الانغلاق الديني والتوثب نحو القيم الحداثوية؛ فهذه المغامرة اللاهوتية والفكرية لا مفر منها كما حدث مع “الأصولية الكاثوليكية” التي فككها كبار الفلاسفة الأوروبيين من أمثال: ديكارت، روسو، فولتير، كانط، هيجل، وسبينوزا.

ترافق صالح في مسيرته العلمية مع عالم الإسلاميات الجزائري محمد أركون (1928-2010) حيث عرَّب غالبية كتبه، وتحاورا معاً حول أفكار أساسية في مجمل مشروع “نقد العقل الإسلامي”.

في هذه الحوار مع هاشم صالح طُرحت قضايا جوهرية ترتبط بإشكاليات التنوير والتراث، والإسلام والحداثة، وإصلاح التعليم الديني، وقراءة النص القرآني وفق المناهج الحديثة. جاءت الأجوبة “غيضاً من فيض” نظراً لما يحمله هذا المفكر التنويري من هموم معرفية طبعت أفكاره.

وفي ما يأتي تفاصيل الحوار:

*ركزت في مؤلفاتك على “هم معرفي” أساسه تبني مشروع التنوير الديني والفلسفي لإخراج الإسلام من الماضي التراثي وأخذه بمبادئ الحداثة، كما حدث في أوروبا. وكما تلاحظ، وهذه ظاهرة ليست بجديدة، يقاوم “الإسلام” الذي يبدو كأنه كتلة صلبة، بطبقاته المختلفة الحداثة ويُترجم ذلك من خلال انهيار أو تفجر من داخل المنظومة الإسلامية نفسها عبر الانغلاق اللاهوتي والعنف الديني والتصادم مع العالم. كيف يمكن تفيكك هذه الكتلة؟

– أعجبني في السؤال تعبير الإسلام “ككتلة صلبة” في مواجهة الحداثة. كيف يمكن تفكيك هذه الكتلة؟ ينبغي العلم بأن الإسلام المرسخ على مدار القرون والمتغلغل كلياً في العقلية الجماعية يمثل منظومة فكرية عقائدية ضخمة وجبارة لا يستهان بها. وبالتالي فنحن لا نقلل من أهمية الإسلام التقليدي على الإطلاق. لماذا؟ لأنه يقدم الأجوبة الفيزيقية والميتافيزيقية على مختلف تساؤلات المسلمين حتى في أدق تفاصيل الحياة اليومية. وهو الذي يهدئ روعهم ويجعلهم يتحملون صعوبات الحياة اليومية. ومعلوم أن شعوبنا فقيرة بل وجائعة أحياناً وبحاجة إلى دعم وسند. إنها بحاجة إلى شيء راسخ تستعصم به وتستغيث. والإسلام هو الذي يقدم لهم الطمأنينة الراسخة التي لا تحول ولا تزول ويعطيهم قوة هائلة على مواجهة محن الحياة. والواقع أنه توجد في تراثنا الإسلامي قيم رائعة لا ينبغي التخلي عنها أبداً. لنفكر هنا بكل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبقية الكتب التراثية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق. وبالتالي فالأمر لا يتعلق بتفكيك القيم الجميلة التي يحفل بها تراثنا العربي الإسلامي. فمثلاً الآيتان القرآنيتان اللتان تقولان: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، سوف تبقيان إلى أبد الآبدين. وقس على ذلك.

-لماذا التفكيك إذن؟ لأن هناك مقولات أخرى في التراث معاكسة لذلك. وهي جبارة أيضاً وتسيطر على عقول الملايين. وأقصد بها المقولات الفقهية أو اللاهوتية التي تكفر الآخرين وتحتقر أديانهم وعقائدهم وتهينهم في كرامتهم الشخصية. وبالتالي فالشعار الذي يرفعه الإخوان المسلمون وسواهم من الأصوليين الماضويين عن “ازدراء الأديان” ينبغي أن يطبقوه على أنفسهم أيضاً. فهم أول من يزدري الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والكنفوشيوسية… إلخ. إنهم يعتبرونها محرفة أو مزورة أو وثنية وينعتونها بأبشع النعوت. فهل هناك من احتقار أكبر لأتباعها الذين يحبونها ويتعلقون بها مثلما نحب نحن تراثنا ونتعلق به؟ التفكيك القادم –إذن- سوف يتركز على الفتاوى اللاهوتية التكفيرية التي تسبب لنا الآن مشكلة مع دول العالم أجمع. إنها لا تسبب لنا مشكلة مع الغرب الأوروبي- الأميركي فقط كما يتوهم البعض، وإنما مع الشرق الأقصى أيضاً، ومع أمم ضخمة كالهند والصين واليابان… إلخ. وبالمناسبة تلاحظين أنهم يقصدون بازدراء الأديان منع أي دراسة علمية للدين الإسلامي. هذا هو مقصودهم وليس الدفاع عن الأديان الأخرى. هذه حيلة لا تخفى على أحد. هذا الشعار/ الألعوبة هو مجرد سلاح يرفعونه لمهاجمة كل من تسول له نفسه تطبيق المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على التراث الإسلامي. إنه شعار ردعي وقمعي بامتياز.

-ما هي هذه الكتلة الصلبة؟ إنها بكل بساطة تلك السياجات اللاهوتية الدوغمائية المغلقة التي كان محمد أركون قد برع في وصفها وتفكيكها. وهي عبارة عن أنظمة لاهوتية مرسخة في عقليتنا الجماعية على مدار القرون، من هنا صعوبة مواجهتها وتفكيكها. ولكن أركون الراسخ في العلم والمحب لتراث الإسلام كان قادراً على ذلك، وبالتالي فنقد العقل الإسلامي كان يعني بالضبط تفكيك هذه السياجات العقائدية الدوغمائية المغلقة على ذاتها، والتي تقدم نفسها كحقائق مطلقة في حين أنها مجرد تركيبات بشرية. وهذه الانغلاقات الدوغمائية موجودة داخل الإسلام نفسه. فالأصوليون لا يكفرون فقط أتباع الأديان الأخرى، وإنما يكفرون المذاهب الإسلامية الأخرى. لنلاحظ كيف تكفر الحركات الإخوانجية والداعشية كل الطوائف الشيعية بحجة أنهم روافض. بل وسمعت أخيراً أن السلفيين الوهابيين في ليبيا أطلقوا فتاوى بتكفير الإباضيين، وهي بدعة جديدة ما كانت معروفة في ليبيا سابقاً، فالإباضيون هم مسلمون حقيقيون تابعون لمذهب الإمام عبدالله بن إباض، مثلهم في ذلك مثل المذاهب الشيعية التابعة لمذهب الإمام جعفر الصادق. الإسلام كان تعددياً على مدار التاريخ، فهناك المذاهب السنية والشيعية والإباضية الموجودة في سلطنة عمان أساساً أو في جبل النافوسة في ليبيا أو في ولاية غرداية بالجزائر، ولكن التكفيريين لا يعترفون بالتعددية وإنما بالنزعة الاستئصالية، وهم في الواقع الذين ينبغي استئصالهم لأنهم أصبحوا يشكلون خطراً على سلام العالم. وبالطبع فهم يشكلون بالدرجة الأولى خطراً ماحقاً على الوحدة في العالم العربي، إذ كيف يمكن أن تعيش مع شخص يعتقد في قرارة نفسه أنك كافر وأنه يحق له بل وينبغي عليه أن يتقرب إلى الله تعالى بذبحك؟ هذه مسألة لا يتوقف عندها المثقفون العرب كثيراً، بل ولا يعيرونها أي انتباه ما عدا قلة قليلة من كواكب الأنوار.

*كنت دائم الإصرار على ضرورة قراءة النص القرآني قراءة علمية تأخذ في الاعتبار المناهج الحديثة، وقد قدمت الأنتلجنسيا العربية إسهامات جادة في هذا الحقل وفي طليعتها عالم الإسلاميات محمد أركون الذي لك تجربة فكرية وإنسانية معه. لكن هذه الإسهامات بقي نطاق تأثيرها ضيقاً كما أن “الإسلام الرسمي” ينظر إليها بحذر شديد. لماذا يخشى حراس العقيدة على النص القرآني من المناهج الحديثة؟

– هذا السؤال حاسم ولا مفر منه. كنا نريد أن نتحاشاه نظراً لخطورته ولقداسة القرآن، ولكن بعد كل ما حصل أخيراً ولا يزال يحصل حتى الساعة فلا مفر منه. كنا نتمنى لو أن التفكيك اقتصر على فتاوى ابن تيمية وسواه من كبار الأصوليين مع توفير القرآن من ذلك. في الواقع أن القرآن على عكس ابن تيمية يحتوي على آيات تسامح وانفتاح عديدة ومدهشة. ولكنه يحتوي أيضاً على آيات تكفيرية وخصوصاً بحق اليهود والمسيحيين؛ وبالتالي فالتفكيك لن يتركز إلاّ على آيات التكفير والعنف. أما آيات السلام والسماحة والاعتراف بالتعددية فسوف نحتفظ بها بل وسنعض عليها بالنواجذ، وسوف نستخدمها كسلاح فاعل ضد كل أنواع التكفيريين المعاصرين، بمعنى آخر سوف نستخدم بعض التراث لتفكيك بعضه الآخر وتحييده. الإخوان المسلمون وبقية الأصوليين لا يركزون إلا على آيات العنف والقتال، ونحن سنركز على آيات التسامح والغفران التي يعتبرونها منسوخة! إذا لم تكن الآية تؤدي إلى سفك الدماء مباشرة فإنها لا تعجبهم. ولذا سندخل قريباً في معركة التفاسير والتآويل كما يقول بول ريكور. هم لهم تفسيرهم للإسلام ونحن لنا تفسيرنا. ولن نتركهم يصادرونه ويستولون عليه إلى ما لا نهاية. حاجة. يكفي. نحن سوف نعتمد في معركتنا التنويرية على آيات من النوع التالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أو {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} ولكنه لم يشأ. وبالتالي فالتعددية الدينية مشروعة بنص القرآن الكريم، وهناك طرق عدة تؤدي إلى الله لا طريق واحد، أو {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. هنا أيضاً نلاحظ أن التعددية مشروعة وبالتفصيل، فإيمان اليهود مقبول وإيمان المسيحيين مقبول، بل وحتى إيمان عبدة الكواكب أو الصابئين مقبول! إلى آخر الآيات البينات. وبالتالي فنحن عندنا سند في التراث لمقاومة التيار التكفيري الجارف.

-نعلم أن الإخوان اليهود والمسيحيين قاوموا تطبيق النقد التاريخي على نصوصهم المقدسة على مدار ثلاثة قرون متواصلة حتى استسلموا للأمر الواقع أخيراً بعد أن أصبحت المقاومة مستحيلة، ولم يستسلموا إلا بعد مجمع الفاتيكان الثاني الذي صالح المسيحية في نسختها الكاثوليكية مع الحداثة، هذا الشيء سوف يحصل في الإسلام عاجلاً أو آجلاً، طال الزمن أم قصر. ينبغي علينا التمييز بين الآيات الكونية في القرآن والآيات المحلية أو الظرفية العرضية المرتبطة بحيثيات الصراع العنيف الذي دار آنذاك بين النبي وأعدائه، وهو صراع فرض عليه فرضاً ولم يختره أبداً، بل وكانت حياته الشخصية مهددة من قبله، والدليل على ذلك أنه طيلة المرحلة المكية لم يرد على العنف بالعنف، بل تحمل كل أنواع الأذى والمضايقات من قبل القرشيين. ولكن عندما أصبحت الدعوة مهددة جدياً إبان المرحلة المدنية، اضطر إلى حمل السلاح وامتشاق السيف دفاعاً عنها لأنها كانت أعز عليه من روحه.

-هذه هي الظروف العرضية التي انتهت بانتهاء مسبباتها ولم تعد واردة أو مبررة بعد انتصار الإسلام. وهي ظروف حامية الوطيس وهي المسؤولة عن آيات القتال والعنف والتكفير، وبالتالي فهذه الآيات الحامية عندما نربطها بظروف وقتها في القرن السابع الميلادي وفي شبه الجزيرة العربية وإبان اضطرام الصراع، تفقد طابعها الكوني الإطلاقي ولا تعود صالحة لكل زمان ومكان. ولكن المشكلة هي أن الحركات المتطرفة بدءاً من الإخوان المسلمين وانتهاء بالدواعش لا يركزون إلا عليها ولا يأخذون إلا بها. وأكبر دليل على ذلك هو أن شعار الإخوان المسلمين مؤلف من سيفين متقاطعين وبينهما مصحف. بل ويقولون بأن كل آيات التسامح والسلم منسوخة من قبلها. لماذا؟ لأن آيات التكفير والقتال جاءت بعدها، هنا تكمن المشكلة الكأداء بيننا وبين المتطرفين. ولذلك قلت في كتابي الأخير “العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار؟”: لكم تراثكم ولي تراثي، لكم قرآنكم ولي قرآني.

*ما الشروط الأساسية للقيام بورشة إصلاح دينية في الإسلام في العالم العربي لا سيما على مستوى مناهج التربية الإسلامية؟

– هذا هو سؤال الساعة. لقد أصبح إصلاح برامج التعليم العربية أولوية الأولويات. أولاً: ينبغي الاعتراف بأن مادة التربية الدينية أصبحت الآن أخطر من مادة الفيزياء الذرية! فإذا ما بقيت على حالها فسوف تفجرنا وتفجر العالم كله كما هو حاصل حالياً، وإذا ما تم إصلاحها فسوف يؤدي ذلك إلى تصالحنا مع أنفسنا ومع العالم كله أيضاً. نحن على مفترق طرق: إما هذا وإما ذاك. لإيضاح فكرتي أكثر سوف أقول ما يلي: قبل أيام أو أسابيع قلائل توفيت الممثلة الهندية الشهيرة سريديفي كابور في مدينة دبي التي هي بمثابة نيويورك العرب. لقد توفيت بحادث مفجع عندما غرقت في الحمام. فماذا كان رد فعل الجمهور عندنا على هذا الحادث المؤلم حقاً؟ لقد راحوا يتساءلون: هل يجوز الترحم عليها أم لا؟ لاحظوا أين نحن؟ أين هو مستوانا بالضبط؟ شخصية رائعة تستحق كل احترام وتقدير، تموت عندنا ولا نجد شيئاً آخر نفعله إلا أن نطرح هذا السؤال التافه وغير اللائق على الإطلاق! ماذا سيقول العالم عنا؟ بعضهم قال: لا يجوز الترحم عليها لأنها هندوسية أو بوذية كافرة خلقة. من هؤلاء البعض نذكر الفنانة أحلام التي ما كنا نعلم أنها عالمة في الدين وراسخة في العلم إلى مثل هذا الحد! لقد فاجأنا موقفها كل المفاجأة بل وصدمنا. ورحنا نتساءل: كيف تحولت هذه الفنانة فجأة إلى ابن تيمية العصر الحديث؟ شيء مضحك أكثر مما هو مزعج وخصوصاً أنها استشهدت بآية قرآنية لا علاقة لها بالموضوع. بصراحة كدت أموت من الضحك وأنا أردد بيني وبين نفسي: شر البلية ما يضحك. لحسن الحظ فإن الدكتور تركي الحمد موجود وقد ردّ عليها قائلاً ومدافعاً عن الممثلة الهندية المغدورة. قال بالحرف الواحد: “رحمها الله الذي وسعت رحمته كل شيء من الحجر إلى الشجر فكيف لا تجوز على البشر؟ كفانا تنطعاً لا يجلب لنا إلا بغضاء العالم”. هذا مفكر سعودي عربي كبير يستحق كل احترام وتقدير. هذا مفكر يعرف كيف يخاطب العالم، ذلك أننا نعيش في عصر العولمة الكونية وكل كلمة تُقال تتردد أصداؤها بسرعة البرق في كل أرجاء القارات الخمس.

لماذا ضربت هذا المثل الحي الذي عشناه بكل جوارحنا قبل أيام أو رأيناه بأم أعيننا؟ ليس من أجل النيل من فنانة كبيرة كأحلام، وإنما من أجل توضيح إشكالية كبرى في ثقافتنا المعاصرة. فالفنانة المذكورة هي جزء من هذه الأمة، وقد تربت على برامج التعليم السائدة في مدارسنا أو جامعاتنا، ناهيك عن كليات الشريعة والمعاهد الدينية التقليدية، وثقافتنا التقليدية كلها تقول بأن البوذي أو الهندوسي شخص وثني كافر خلقة، فكيف يجوز الترحم عليه؟ إنه شخص مارق وقد فطس كالبهيمة لا أكثر ولا أقل. إنه ليؤلمني ترداد هذا الكلام لأن الهند بلد روحاني من أعظم ما يكون. ولكن لا توجد في مدارسنا ولا جامعاتنا كلية واحدة لتعليم مادة تاريخ الأديان المقارنة. لو وجدت لاتسعت آفاقنا ومداركنا ولما كفرنا ثلاثة أرباع المعمورة. لو وجدت لما ازدرينا أديان الآخرين وعقائدهم وتراثاتهم، لو وجدت لما احتقرنا الآخرين في شخصهم وكرامتهم. فالفنانة الهندية الكبيرة لها كرامة أيضاً. لذلك أقول بأن تغيير برامج التعليم في العالم العربي أصبح ضرورة ملحة، لا أدعو إلى حذف ابن تيمية وسواه من برامج التعليم، ولكن أدعو إلى تعليم ابن عربي أو ابن سينا مقابله، لا أدعو إلى حذف الإمام الغزالي ولكن أدعو إلى تعليم الفارابي وابن سينا معه أو مقابله في كل الثانويات والجامعات العربية، لا أدعو إلى حذف محمد عمارة المرتد عن العقلانية التنويرية والحداثة وإنما أدعو إلى تدريس محمد أركون مقابله… إلخ، لماذا أدعو إلى كل ذلك؟ لكي يدرك الطالب العربي أن تراثه العظيم الكبير له سفحان أو وجهان: الوجه المنغلق المتعصب/ والوجه المنفتح المتسامح، الوجه المشرق/ والوجه المظلم. ولكن تغيير برامج التعليم لا يكفي، وإنما ينبغي نشر الثقافة التنويرية على أوسع نطاق في كل المحافل العربية، فإذا لم ينتصر إسلام الأنوار يوماً ما على إسلام الإخوان، فلن ينجح تغيير برامج التعليم؛ وبالثقافة التنويرية لا أقصد فقط تدريس مؤلفات أعلام الفكر والأدب العربي، كالجاحظ والتوحيدي وابن المقفع والمعري والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد وعشرات غيرهم في الماضي والحاضر على حد سواء. وإنما أقصد أيضاً تدريس أفكار ونظريات وأطروحات كبار فلاسفة التنوير الأوروبي، الذين بنوا على فلاسفتنا في البداية ولكنهم تجاوزونا بما لا يقاس لاحقاً، ففلاسفتنا ما عادوا كافين على الإطلاق لأنهم على عظمتهم ينتمون إلى مناخ العصور الوسطى. هذا في حين أن فولتير وديدرو وروسو وليسنغ وكانط وسواهم قطعوا كلياً مع عقلية العصور الوسطى اللاهوتية. وبالتالي فالحركة ينبغي أن تكون عامة شاملة أو لا تكون، وبخصوص إسلام الأنوار أحيل إلى مؤلفات المفكر الفرنسي عبدالنور بيدار، التي ينبغي أن تترجم فوراً إلى اللغة العربية لكي يعرف الجمهور العربي نوعية الفرق بين إسلام الأنوار/ وإسلام الظلام. والباحث المذكور من أب مغربي وأم فرنسية اعتنقت الإسلام في صورته الصوفية الروحانية السمحاء، بمعنى آخر ينبغي أن تحصل القطيعة الإبيستمولوجية، أي المعرفية العميقة، بين عقلية القرون الوسطى التكفيرية الإرهابية/ وعقلية العصور الحديثة التنويرية، بعقلية العصور الوسطى، أقصد عقلية جماعات الإخوان المسلمين والقاعدة والنصرة وداعش وما أشبه. تأويلهم للإسلام ينبغي تفكيكه وتجاوزه بأسرع وقت ممكن. فالدين حمال أوجه والإسلام أكبر منهم بألف مرة؛ التراث العربي الإسلامي العظيم بحر متلاطم الأمواج من التيارات والشخصيات والثقافات والعوالم الفكرية. ولا يمكن اختزاله إلى تيار واحد فقير أخلاقياً ومدقع فكرياً كتيار الإسلام السياسي السائد حالياً.

أخيراً أضيف ما يلي: كل برامج التعليم التي تدعو إلى تكفير غير المسلمين ينبغي تغييرها فوراً. وهناك دعاة ظلاميون كثيرون ينبغي على الدولة أن تضرب على أيديهم وتمنعهم من بث سمومهم في أوساط الطلاب أو الجمهور بشكل عام، فبعض رجال الدين يطالبون من على شاشات الفضائيات العملاقة بقتل المسيحيين واليهود، بل وحتى أبناء الطوائف الإسلامية الأخرى من شيعة وعلوية ودرزية وإسماعيلية وإباضية، ولا نجد أحداً يتحرك للرد عليهم وإسكاتهم. فأين هو ما يدعى بالإسلام المعتدل؟ في الواقع أنه لا يوجد أي فرق بين الإسلام المعتدل/ والإسلام المتطرف من حيث الاعتقاد الديني. هناك فرق فقط من حيث التصرف السلوكي. فالمعتدل لا يتهور ولا يغامر بنفسه عن طريق ارتكاب التفجيرات أو الاغتيالات، وذلك على عكس المتطرف. ولكنه من حيث الاعتقاد يشاطر المتطرفين إيمانهم واعتقادهم.

إن التعليم الديني القديم واحد سواء في الأزهر أو المؤسسات الدينية الأخرى وبعض المدارس في العالمين العربي والإسلامي. إنه تعليم ظلامي قروسطي لم يدخله شعاع واحد من النور بعد، نقول ذلك ونحن نعلم أن العالم اللاهوتي السويسري الشهير هانز كونغ يفرق بين ثلاثة أنواع من الأنماط الإيمانية أو من الباراديغمات اللاهوتية بحسب تعبيره، فهناك أولاً: الباراديغم اللاهوتي للقرون الوسطى، وهو تكفيري ظلامي في المسيحية كما في الإسلام، وهناك ثانياً: الباراديغم اللاهوتي للإصلاح الديني اللوثري الذي ظهر إبان القرن السادس عشر وعصر النهضة. وهناك ثالثاً: الباراديغم التنويري الفولتيري الكانطي الذي ظهر في القرن الثامن عشر. وهناك رابعاً: باراديغم المسيحية الليبرالية أو باراديغم الحداثة الذي ظهر في القرن التاسع عشر. والآن أصبحوا يتحدثون عن الباراديغم اللاهوتي لما بعد الحداثة. ولكن المشكلة هي أن الإسلام لا يزال غاطساً كلياً في الباراديغم اللاهوتي التكفيري للقرون الوسطى. وهذا يعني أن شيوخ الإسلام لم يسمعوا حتى الآن بالإصلاح الديني، ناهيك عن التنوير الديني ولاهوت الحداثة وما بعد الحداثة. هذا التأخر المريع في فهم الدين هو سبب كل المشاكل التي نعاني منها حالياً؛ هذا الانغلاق اللاهوتي داخل أقفاص عقائدية عفَّى عليها الزمن هو سبب صدامنا مع العالم كله حالياً. وبالتالي فإذا عرف السبب بطل العجب كما يقول المثل.

هناك شخص أردني يدعى أمجد قورشة نال شهرة واسعة في السنوات الأخيرة بسبب تطرفه وعدوانيته. ولو كان شخصاً عادياً لما ذكرناه. ولكن المشكلة هي أنه أستاذ في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية ويصول ويجول على الفضائيات. بل إنه دكتور متخرج في جامعة برمنغهام في بريطانيا ومتخصص بمقارنة الأديان! فافهم إذا كنت قادراً على الفهم أيها الغبي، فلا نعرف كيف يمكن لشخص متخصص بتاريخ الأديان المقارنة أن يتفوه بمثل هذه السخافات؟ لا نعرف كيف عاد من الجامعة الإنجليزية الشهيرة أكثر تعصباً وانغلاقاً. هذا الشخص متعاطف مع داعش والنصرة وبقية الحركات التكفيرية، بل ويهاجم الحكومة الأردنية لأنها تحارب الجهاديين، هذا الشخص يكفر النصارى والأقباط والصليبيين ويدعو إلى تحريم معايدتهم في أعيادهم، بل وربما حتى إلقاء التحية عليهم. كما أنه يكفر العلمانيين والليبراليين ويعتبرهم أعداء للإسلام، وهم بالفعل أعداء له ولكن بحسب مفهومه الظلامي له لا بحسب المعنى النبيل والعالي والسمح لكلمة إسلام. كما أنه يحرم الفن الفولكلوري الشركسي الجميل. بل ويعتبر مهرجان جرش للثقافة والفنون مهرجاناً للخزي والذل والعار، وعندما سجنته الحكومة الأردنية لبضعة أيام فقط هاجت هوائج الإخوان المسلمين وطالبوا بالإفراج عنه فوراً واعتبروه ضحية تكميم الأفواه وحرية الرأي! لاحظ: الإخوان المسلمون أصبحوا يدافعون عن حرية الرأي! بل وحتى عن الديمقراطية! حقاً إنها بدعة ما بعدها بدعة!. يحصل ذلك كما لو أن التعصب الديني أو احتقار الآخر وإهانته في كرامته ومعتقده هو مجرد حرية رأي! يحصل ذلك كما لو أن تكفير الآخر بل والدعوة إلى قتله علنا حرية رأي! في البلدان المتقدمة ممنوع منعاً باتاً أي ترويج للأفكار الطائفية والعنصرية، ومن يفعل ذلك يقع تحت طائلة القانون. ولكن ليس عند الإخوان المسلمين، فحرية الرأي بالنسبة لهم هي فقط للتعبير عن الأفكار الطائفية وبث سمومها في المجتمع.

*في كتابك “العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل لإسلام الأنوار؟” طالبت بالقطيعة الإبيستمولوجية مع العديد من «الثوابت» الفقهية أو الدينية التي تكبل حركية الإسلام وتطوره. كيف يمكن إحداث هذه القطيعة وما مستوياتها؟

– كيف يمكن إحداث هذه القطيعة؟ البعض يعتقد أنه لا ينبغي المس بالثوابت لأنها مقدسة. هل تريدون أن تفككوا ثوابت الأمة؟ ويحكم أفلا تعقلون؟ ولكن بعد كل ما حصل باسم الإسلام من فظائع ودواعش تطير الثوابت. فاليقينيات التراثية المطلقة أصبحت على محك التساؤل والشك وسوف تدفع الثمن باهظاً بسبب ما ارتكب باسمها. كان نيتشه يقول ما معناه: ليس الشك وإنما اليقين هو الذي يقتل. وقد صدق. لولا رسوخ اليقينيات اللاهوتية القديمة في العقلية الجماعية منذ مئات السنين لما تجرؤوا على كل هذا القتل والذبح والتفجيرات العمياء التي تصيب المارة بشكل عشوائي كيفما اتفق. إن التنوير العربي يتحقق عبر الحفر الأركيولوجي في أعماق التراث الإسلامي. هنا تكمن المنهجية التحريرية والمحررة.

هذا وقد أصبح واضحاً لكل ذي عينين أنه لا يمكن أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة إن لم نفكك هذه الثوابت الراسخة في العقلية الجماعية رسوخ الجبال. من هنا خطورة ما يحصل حالياً وضخامة المهمة المطروحة على المثقفين العرب في السنوات القادمة؛ إنها مهمة ثقيلة، ضخمة، تكسر الظهر، فنحن مدعوون لتدمير أنفسنا لا أكثر ولا أقل. استخدمت كلمة قاسية عن قصد (التدمير) بغية توضيح المهمة، ولكن ديكارت كان قد استخدمها قبلنا عندما دعا إلى تدمير كل الأفكار الخاطئة قبل البدء بالبنيان الجديد، فالبيت التراثي القديم لم يعد صالحاً على الإطلاق. وهو في كل الأحوال ابتدأ يتشقق ويتصدع وينهار من كل النواحي سقوفاً وجدراناً. ونحن لكي نبني بيتاً عربياً جديداً نظيفاً مفتوحاً على الهواء والشمس مضطرون لتفكيك البيت القديم وتهديمه، وإلا فسوف ينهار على رؤوسنا ويقبرنا معه. لا ريب في أنه غالٍ علينا وعزيز جداً لأننا تعودنا عليه منذ مئات السنين، ويصعب علينا الافتراق عنه وإحداث القطيعة المرة معه. ولكن لا بد مما ليس منه بد.

سوف أضرب هنا مثلاً محسوساً على مفهوم القطيعة الإبيستمولوجية مع العقلية التراثية، أي مع ثوابت الأمة ومقدساتها. كان المسيحيون يرددون على مدار القرون المقولة اللاهوتية التالية: “خارج الكنيسة المسيحية الكاثوليكية البابوية الرسولية لا مرضاة عند الله ولا نجاة في الدار الآخرة”، وهي مقولة تكفيرية بامتياز. لماذا؟ لأنها تعني أن أديان الآخرين كالإسلام واليهودية والبوذية… إلخ غير مقبولة عند الله وبالتالي فأصحابها لن يحظوا بجنة الفردوس. بل ليس فقط الأديان الأخرى مدانة ضمن هذا المنظور اللاهوتي الكاثوليكي الانغلاقي، وإنما المذاهب المسيحية الأخرى مدانة أيضاً، وخصوصاً المذهب البروتستانتي. فهو معتبر بمثابة مذهب الزنادقة والهراطقة، وعليه فأتباعه لا أمل لهم بالنجاة في الدار الآخرة، هذه الفتوى الكاثوليكية سيطرت على العالم المسيحي طيلة قرون وقرون، حتى جاء مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) وتخلى عنها. هل تعتقدون أنه تخلى عنها بسهولة؟ أبداً لا. فقد كانت تشكل جوهر العقيدة الكاثوليكية، ولكن الحداثة العلمية والفلسفية الصاعدة في أوروبا أجبرت الكاثوليكيين على إحداث هذه القطيعة المُرة مع أحد ثوابتهم العقائدية الأساسية. وهذا يعني أن الثوابت يمكن أن تتغير وتتعدل.

ونحن في الإسلام نقف الآن في مواجهة الإشكالية العويصة ذاتها. فهناك فتاوى فقهية أو لاهوتية تكفر جميع الأديان الأخرى، بل وحتى جميع المذاهب الإسلامية الأخرى، ما عدا مذهب أهل الفرقة الناجية. كلهم في النار ما عدا واحدة، كلهم عقائدهم مرفوضة وغير مقبولة عند الله. ولن يخرج الإسلام من ورطته الحالية إلا بعد أن يتخذ قراراً جريئاً وخطيراً لا يقل أهمية عن قرارات مجمع الفاتيكان الثاني الذي صالح المسيحية مع الحداثة. ينبغي أن يجتمع كبار رجال الدين الإسلامي في مكة المكرمة أو المدينة المنورة ويتخذوا القرار التالي ويعلنوه على رؤوس الأشهاد: نحن لا نكفر أحداً من خلق الله. نحن نحترم عقائد الآخرين وأديانهم سواء أكانت مسيحية أم يهودية أم بوذية أم هندوسية… إلخ. هذا ما ينبغي أن يحصل يوماً ما، إذا ما أردنا أن نخرج من الورطة الرهيبة التي وقعنا فيها حالياً، فنحن أصبحنا نعيش في عصر العولمة الكونية التي ربطت القارات الخمس ببعضها. وكل أنظار العالم تتركز علينا. وفي كل يوم قد نحتك بيهودي أو بوذي أو مسيحي عربي الذي هو منا وفينا، فكيف يمكن أن نتعامل معهم إذا كنا نكفرهم في أعماق نفوسنا. نعم ينبغي تطوير الفقه الإسلامي بل وإحداث القطيعة مع الجوانب الانغلاقية المظلمة فيه. وينبغي على أنقاض الإيمان التكفيري الضيق القديم أن ينهض إيمان إسلامي جديد واسع مستنير. وهذا هو الرهان الأكبر لما يحصل حالياً، وهذا الإيمان الجديد هو الذي سينقذنا من الورطة التي وقعنا فيها. ذلك أن الإلحاد ليس حلاً وأنا لست من مؤيديه. بالطبع يحق للتيار الإلحادي أن ينوجد ولكنه سيظل نخبوياً على الأقل في المدى المنظور. أما التيار المرشح للنمو والاتساع فهو تيار الإيمان الجديد القادر على تحقيق المصالحة الكبرى بين الإسلام والحداثة. ولكن هذا الإيمان الجديد لن ينبثق إلا بعد تفكيك الإيمان القديم الراسخ الجذور. هكذا تلاحظون أن المسألة ليست سهلة على الإطلاق. ولن تحصل في يوم أو يومين. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. نحن الآن على أبواب مرحلة تاريخية جديدة. على مدار أكثر من قرن كان صراعنا موجهاً أساساً ضد الخارج: أي ضد الاستعمار والصهيونية والإمبريالية… إلخ. كان صراعاً أيديولوجياً بامتياز وكانت له مبرراته ومشروعيته. ولكننا الآن دخلنا مرحلة جديدة بمعنى أن الصراع أصبح بالدرجة الأولى ضد الداخل لا الخارج. كيف؟ سوف ندخل في صراع رهيب مع كل القوى الارتكاسية والظلامية فينا، وهذا ما أدعوه بمعركة المعارك أو أم المعارك، وهي أخطر من المعركة ضد الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. بمعنى آخر ولكي أوضح الأمور أكثر: ينبغي أن نغربل تراثنا الديني اللاهوتي فنطرح منه كل ما يتعارض مع روح الأزمنة الحديثة، ونبقي على ما تبقى. وما تبقى لا يستهان به. نذكر من بينه -على سبيل المثال لا الحصر- هذه الأبيات الخالدة لابن عربي، والتي ينبغي أن تكون هادياً ومرشداً لكل برامج التعليم العربية:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/ إذا لم يكن ديني إلى دينه دان

وقد صار قلبي قابلاً كل صورة / فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت/ ركائبه فالحب ديني وإيماني

هذا هو الإيمان الجديد الذي نحلم به، وهو الذي سيحل محل الإيمان الإخوانجي التكفيري القديم عندما تنهض الشعوب العربية وتتعلم وتتثقف وتستنير. كل تاريخ الأديان المقارنة مُكثف ضمناً في هذه الأبيات الرائعة التي لا تكاد تُصدق، قلت لا تكاد تصدق لأنها قيلت قبل أكثر من سبعمئة سنة وليس اليوم أو البارحة. ولكنه موجود أيضاً في أبيات أخرى خالدة لزعيم آخر من زعماء التنوير العربي: عنيت أبا العلاء المعري:

في اللاذقية ضجة/ ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق/ وذا بمئذنة يصيح

كل يؤيد دينه/ يا ليت شعري ما الصحيح

هذا أيضاً تاريخ أديان مقارنة، من يتجرأ على الاستشهاد بهذه الأبيات الآن في مسقط رأسه: معرة النعمان؟ بل من يتجرأ على ذكر اسمه؟ لقد قطعوا رأسه أو رأس تمثاله. ويقولون لك بأن هذه ثورة! الثورة الوحيدة التي أؤمن بها هي الثورة التنويرية القادمة، نقطة على السطر. الثورة الوحيدة التي سيكون لها معنى: هي تلك التي ستطيح بلاهوت التكفير الظلامي من أوله إلى آخره، لا ثورة سياسية بدون ثورة فكرية تحتضنها وتضيء لها الطريق. الثورة الفرنسية جاءت بعد فولتير وديدرو وجان جاك روسو وبقية فلاسفة الأنوار لا قبلهم. وهذا هو سبب النجاح المذهل للربيع الأوروبي والفشل الذريع للربيع العربي.

أضيف بأن المعري فضح التدين السطحي الذي كان سائداً في عصره وفي عصرنا أيضاً عندما قال:

توهمت يا مغرور أنك دين/ علي يمين الله ما لك دين

تسير إلى البيت الحرام تنسكاً/ ويشكوك جار بائس وخدين

وهذا يعني أن التقى أو التدين الحقيقي ليس الشعائر والطقوس، وإنما التضامن مع الفقير والمحتاج بالدرجة الأولى. هذا هو جوهر الدين في نظر المعري، من هنا حملته العارمة على قشور الدين ومظاهره التي لا معنى لها. من هنا نقده العنيف للشيوخ والدعاة المتاجرين بالدين، وكلامه هذا ينطبق بالطبع على معظم شيوخ الفضائيات في عصرنا الراهن. وبعضهم كما نعلم من أصحاب الملايين وسكنة الفيلات التي تشبه القصور. هذا في حين أن النبي الأكرم مات ولم يخلف وراءه شيئاً يذكر من عرض الحياة الدنيا وثرواتها.

ينبغي ألا ننسى أن المعري كان يعيش في عصر الانحطاط، وأن التدين السائد في عصره كان منافقاً في معظمه ويشبه التدين السائد في عصرنا. ولذلك شن عليه هجومه الساحق، بل وغامر بنفسه عندما هاجم المذاهب والطوائف وسماها بالاسم، ودعا فقط إلى اتباع العقل وتمجيده. يقول مثلاً:

كذب الظن لا إمام سوى العقل/ مشيراً في صبحه والمساء

إنما هذه المذاهب أسباب/ لجذب الدنيا إلى الرؤساء

ويقول:

إن الشرائع ألقت بيننا إحَناً/ وعلمتنا أفانين العداوات

من ينظر إلى العالم العربي الراهن يدرك مدى إسهام شيوخ الفضائيات في تأجيج الأحقاد المذهبية والطائفية بين الناس، ويتذكر كلام المعري هذا الذي قيل قبل أكثر من ألف سنة! لم يتغير أي شيء. ما أشبه الليلة بالبارحة! الانحطاط متواصل ومستمر على مدار القرون، والحزازات المذهبية تشعل الحرائق في كل مكان في هذه اللحظة بالذات وتكاد تدمر العرب تدميراً. وكلنا حطب التاريخ الذي لا يرحم، كلنا وقوده. لم تبق عائلة واحدة إلا وفيها قتيل أو جريح. وهذا الانحطاط يشمل العرب والإيرانيين والأتراك والباكستانيين… إلخ، لماذا هرب فضل الرحمن من إسلام آباد وذهب إلى جامعة شيكاغو في أمريكا؟ لكي يتابع أبحاثه الرائدة عن الإسلام بكل حرية بعيداً عن ضغط الشارع وزمجرات الأصوليين. ولولا ذلك لما أتحفنا بكتب من نوع: “الإسلام والحداثة”، و”الموضوعات الكبرى في القرآن”، و”الإحياء والتجديد في الإسلام”… إلخ. وقل الأمر ذاته عن الجزائري محمد أركون، هل كان بإمكانه أن يدشن مشروعه الكبير “نقد العقل الإسلامي” في جامعة الجزائر؟ مستحيل. وحدها السوربون كانت قادرة على احتضانه، وقس على ذلك.. الجميع مضطرون للهجرة إذا ما أرادوا أن يفتحوا فمهم ويقولوا كلمة واحدة لها معنى عن الدين. لهذا السبب نقول بأن نقد الدين -كما قال ماركس- هو أساس كل نقد وبدايته، ولا معنى لأي ثقافة إن لم تتجرأ على نقد موروثها الديني الدوغمائي. وأصلاً لا يمكن أن تنهض الثقافة العربية إلا بعد تفكيك الانغلاقات الدينية من طائفية ومذهبية.

قد يقولون: ولكن المعري يتهور هنا، إنه يدين الجميع. ولكن هذا التهور كان ضرورياً لكي يستيقظ الناس من غفلتهم، من هذا التدين الطاغي الذي يعمي القلوب ويلغي العقول. ومع ذلك فلم يستيقظوا حتى الآن، حتى بعد ألف سنة لم يستيقظوا! بل إنهم الآن أكثر عمى وظلامية من أي وقت مضى، وهذا دليل على مدى ضخامة المهمة الملقاة على عاتق المثقفين العرب في السنوات القادمة. إنها حقا تكسر الظهر.

هل نسينا تلك المقولة الشهيرة لابن الجوزي؟ زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري. وأشرهم على الإسلام التوحيدي لأنهما صرحا وهو مجمجم لم يصرح. ولكن كان ينبغي أن يضيف إلى القائمة اسم الكندي، الفيلسوف العربي الأول الذي جلدوه خمسين جلدة على ظهره في زمن المتوكل، الذي قام بأكبر انقلاب في التاريخ العربي على المعتزلة والمأمون والفكر العقلاني، وانتصر للحنابلة والفكر الظلامي، ومنذ ذلك الوقت لم تقم لنا قائمة حتى الآن. وكان ينبغي أن يضيف أيضاً اسم أبي بكر الرازي، والفارابي، وابن سينا، الذي كفره الغزالي، وعشرات غيرهم. هكذا نلاحظ أن معركة التنوير العربي كانت موجودة سابقاً ولكنها انتهت بهزيمة التنويريين والانتصار المطلق للأصوليين من أمثال الغزالي وابن القيم وابن الجوزي، وبالطبع ابن تيمية الذي أصبح قائداً لكل الحركات الأصولية الحالية من القاعدة إلى داعش إلى النصرة. ولكني أعتقد أنه إذا كانت معركة التنوير العربي قد أحبطت وهزمت سابقاً نظراً للدخول في عصر الانحطاط والتكرار والاجترار، فإن معركة التنوير العربي الجديدة لن تنهزم، على العكس فإن الأصولية هي التي ستُهزم، وهذه المرة بالضربة القاضية!

*تبدو في العديد من أفكارك متفائلاً إذ تراهن على أن الانفجارات التي يشهدها العالم العربي سيتبعها تحولات إيجابية. تفاؤلك هذا يستند إلى إيمانك بالخلاصة الهيغيلية حول مكر العقل في التاريخ. هل لك أن تفصل لنا وجهة نظرك؟

– أولاً أنا مفجوع بما يحصل حالياً. ولا ينبغي الاعتقاد بأني مرتاح، على العكس قد تطبق علي الكوابيس السوداء من هول ما يجري في المشرق العربي خصوصاً. وأحياناً كثيرة لا أستطيع مشاهدة الفضائيات بل ولا أشاهدها على الإطلاق خوفاً من رؤية مناظر الموت والدم والدمار. وبالتالي فلا ينبغي التوهم بأني متفائل بالمعنى الساذج أو السطحي للكلمة. على المدى القريب لست متفائلاً، ولكن على المدى البعيد لا أستطيع إلا أن أكون متفائلاً، وإلا فلا معنى للبحث والكتابة والتعب والعناء. إذا كنا نعتقد مثل شوبنهاور بأن البشر سيظلون كما هم أنانيين وأشراراً ومتعصبين، وأنه لا يوجد أي تقدم في التاريخ البشري، فينبغي أن نلقي سلاحنا فوراً ونغلق كل مراكز البحوث والدراسات، لا معنى لأي جهد بشري ضمن هذا المنظور الأسود الحالك التشاؤمي إزاء الطبيعة البشرية. ولكن بما أني من أتباع عدوه هيغل وأستاذ الجميع كانط، فإني أؤمن بإمكان التقدم والتطور. وبالتالي فكل شيء يعتمد على فلسفة التاريخ التي نتبناها: هل هي كانطية –هيغلية أم شوبنهاورية- نيتشوية عدمية؟ نقول ذلك باعتبار أن نيتشه من تلامذة شوبنهاور وإن كان قد تجاوزه، ولكنه ظل مثله معادياً لقيم الحداثة من مساواة وحرية وديمقراطية وحقوق إنسان… إلخ. وإذن بما أن فلسفة كانط وهيغل وتلميذهما هابرماس حالياً تؤمن بإمكان تحسن الجنس البشري نحو الأفضل فإني متفائل. فالبشر عندنا لن يبقوا أصوليين مكشرين عن أنيابهم، ولا إخوان مسلمين يكفرون أربعة أخماس البشرية. المعركة الجارية حالياً في العالم العربي والإسلامي كله هي بين الإيمان القديم/ والإيمان الجديد الذي سينهض على أنقاضه طال الزمن أم قصر. الإيمان القديم لم يعد قادراً على الاستمرار على الرغم من مشروعيته التاريخية الضخمة وانغراسه في العقلية الجماعية منذ مئات السنين. حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب وابن لادن والظواهري والقرضاوي وعشرات غيرهم، سوف يتم كنسهم مستقبلاً عندما تطل شمس التنوير على العرب والمسلمين، وعندما تحصل المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والحداثة. ولكن المعركة ستكون رهيبة وقاسية. سوف تكون ضارية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. وأنا لا أستهين بها على الإطلاق، إنها فعلاً معركة المعارك، أم المعارك. فليس من السهل تفكيك ما هو راسخ على مدار ألف سنة متواصلة! الماضي معهم بكل ثقله التاريخي، ولكن المستقبل معنا إضافة إلى أن حركة التاريخ ضدهم.

ما معنى مكر العقل في التاريخ؟ معناه أن السالب ضروري لحصول الموجب، والشر ضروري لتحقق الخير، ولا بد دون الشهد من إبر النحل كما يقول المتنبي. وبالتالي فقد سبق هيغل إلى هذه الفكرة، فلكي نتوصل إلى خير أكبر في التاريخ ينبغي أن نمر بالشر وأن ندفع الثمن الباهظ أولاً. معناه أيضاً هو أن داعش هي أكبر حظ لنا حالياً! فداعش هي التي سوف تسرع من حركة التاريخ العربي. لولا العيب لقلت: شكرا داعش! لكأن العقل الكوني بكل مكره ودهائه أوجد داعش لتسريع حركة الأنوار في العالم العربي. لولا داعش كلها لما تجرأنا على طرح أي سؤال ولو بسيط على التراث الموروث المجلل بالقداسة كله من أوله إلى آخره، لولا فظاعات داعش وأفعالها التي تجاوزت النازيين والفاشيين بما لا يُقاس لما تجرأنا على نقد الأيديولوجيا التوتاليتارية للإخوان المسلمين الذين خرجت من أحضانهم. وهي آخر أيديولوجيا توتاليتارية في العالم بعد سقوط النازية والفاشية والشيوعية الستالينية. نعم لولاها لما تجرأنا على طرح بعض الأسئلة البسيطة جداً على الأيديولوجيا الإخوانجية التي تحكم عقلية العالم العربي وكل برامج التعليم بشكل أو بآخر. هذا ناهيك عن الفضائيات والبيوت والجوامع وحتى الجامعات، لولا داعش والقاعدة من قبلها لما كان هناك أي مبرر لنقد العقل الإسلامي وتفكيك الانغلاقات اللاهوتية القديمة التي تخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية في عز القرن الحادي والعشرين. وبالتالي {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} كما يقول القرآن الكريم. لا يمكن للأنوار العربية أن تنتصر ولا للأنوار التركية أو الإيرانية أو الباكستانية والأفغانية قبل المرور بكل هذه الحركات الظلامية. هذا هو مكر العقل في التاريخ بالمعنى الإيجابي لكلمة مكر لا بالمعنى السلبي. إنه يستخدم الشر لتحقيق الخير بعد أن يقلبه على ذاته. إنه يستخدم الظلمات لتحقيق الأنوار بعد أن يعكسها ضد ذاتها. لنقل إنه دهاء العقل الهادف إلى تحقيق مصلحة البشر على هذه الأرض. فالناس بعد كل ما حصل من فظائع على يد حركات التطرف لن يعودوا يحترمونها كما في السابق. ونحن كباحثين أصبح بإمكاننا مهاجمتها أو تفكيك أيديولوجيتها. وما كنا بقادرين على ذلك قبل فظائع داعش والقاعدة وبوكو حرام والنصرة وسواها من تسميات. أتذكر أنه كان يصعب على أحدهم نقد فكر الإخوان المسلمين قبل ذلك. وكان المثقفون يتهيبون هذا ويعدون على الأصابع العشرة قبل أن يفعلوه. وبالتالي فرب ضارة نافعة. هذا هو مكر العقل في التاريخ.

ومعلوم أن هيغل كان يعتقد أن العقل يحكم التاريخ وأن مسيرة التاريخ عقلانية في المحصلة النهائية، على الرغم من كل الشرور والمجازر والحروب الأهلية التي قد تحصل في التاريخ. فالمهم هو المحصلة النهائية: أي تخلص البشر من الجهل والطغيان والظلامية الدينية، المهم في نهاية المطاف هو انتصار العقلانية والأخلاقية والحرية، المهم هو انتصار الفهم الأنواري للدين على الفهم الظلامي التكفيري. هذا هو المهم. هذا هو الأساس والباقي تفاصيل. المهم هو انتصار دولة الحق والقانون على دولة التعسف والاعتباط. المهم هو انتصار الديمقراطية على الديكتاتورية. المهم هو انتصار القيم الكونية للحداثة وفي طليعتها: الاعتراف بحرية الضمير والمعتقد وعدم ترهيب أي شخص بسبب معتقداته الدينية أو أفكاره الشخصية. وهذا ما تحقق في أوروبا الغربية بعد زمن هيغل وكانط بقرن واحد فقط؛ فقد تحولت أوروبا إلى جنة الله على الأرض وإلى أكبر فضاء ديمقراطي في العالم. ولكنها لم تتوصل إلى كل ذلك إلا بعد المرور بمرحلة الحروب الطائفية والمذهبية الرهيبة التي نذوق طعمها المُر نحن العرب والمسلمين حالياً. لماذا لا يمكن لأوروبا أن تعود إلى مرحلة الحروب المذهبية الكاثوليكية – البروتستانتية التي فتكت بهم فتكاً ذريعاً طيلة قرون؟ لأنها اكتوت بحر نارها ودفعت الثمن باهظاً؛ التنوير أيضاً في أوروبا لم يحصل إلا بعد تلك المجازر المرعبة التي أدمتهم على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل وحتى القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين فيما يخص بعض المناطق، وإن يكن بشكل أخف بكثير. وهي حصدت نصف سكان ألمانيا وحدها طيلة حرب الثلاثين عاماً الشهيرة (1618-1648). والآن يعيش العالم العربي اللحظة التاريخية نفسها التي عاشتها أوروبا من قبل. ولذلك أقول بأن التنوير العربي آت لا ريب فيه، وسوف يكنس كنساً كل العقليات الطائفية والمذهبية أكثرية كانت أم أقلية، سنية أم شيعية. ولكن لا يزال آخر النفق بعيداً للأسف الشديد. لماذا أقول ذلك؟ هل تريدون مثلاً محسوساً؟ قبل فترة قصيرة توفي فنان محترم في الكويت يدعى عبدالله الباروني عن عمر صغير لا يتجاوز (44) عاماً. فماذا قالت عنه الأوساط الإخوانجية والسلفية؟ قالت: لا يجوز الترحم عليه لأنه شيعي! هذه ليست صهيونية ولا إمبريالية ولا استعماراً، هذا شيء أشد وأدهى، هذا شيء منا وفينا. هذه علة داخلية بحتة لا علاقة لها بالخارج أبداً. وبالتالي فكفانا أدلجة وديماغوجية. ينبغي أن يعترف المثقفون العرب بالعلل الداخلية التي تنخر في جسد المجتمعات العربية، وإلا فلن نخرج من المغطس الذي وقعنا فيه حتى بعد ألف سنة. وهذا ما فعله فولتير في وقته، فلم يتردد عن إدانة تعصب الأغلبية الكاثوليكية على الرغم من أنه كان هو ذاته كاثوليكياً أباً عن جد. ومعلوم أنها كانت تكفر أبناء الأقلية البروتستانتية، وتدعو إلى ذبحهم واستئصالهم بصفتهم زنادقة، تماماً كما تفعل الأصولية السنية المتشددة حالياً تجاه ما يدعونه بالأقليات. لا يمكن فهم ما يجري حالياً إلاّ إذا موضعناه داخل ما يدعوه المؤرخ الكبير فرنان بروديل بالمدة الطويلة للتاريخ. فتاوى التكفير قديمة جداً في الإسلام وليس ابن تيمية أول من قال بها وإن كان الأشهر، ولهذا السبب فهي راسخة في العقلية الجماعية رسوخ الجبال. ولولا ذلك لما تجرأ أحد على الدعوة إلى منع الترحم على فنان موهوب وطيب السمعة كالراحل عبدالله الباروني. نعم إن الحركات التكفيرية هي المسؤول الأول عن ضرب الوحدة الوطنية في العالم العربي، وإذا ما حصل تقسيم لا سمح الله فسيكون بسببها لأنها هي التي تمنع التعايش بين فئات المجتمع كافة أو مكوناته. ولولاها لكان هناك وئام وسلام في سوريا ولبنان والعراق والخليج العربي… إلخ. فهي التي تشعل الحروب الأهلية في كل مكان بسبب تعصبها البغيض وانغلاقاتها اللاهوتية القروسطية التي عفَّى عليها الزمن. وسوف يستمر الحال على ما هو عليه حتى ينتصر التنوير العربي على الظلامية العربية. بانتظار أن يحصل ذلك يوماً ما فإن المجازر سوف تستمر، ولا تزال شعوبنا تدفع الثمن باهظاً. إنها حطب التاريخ أو وقوده، فقطار التاريخ لكي يتقدم إلى الأمام بحاجة إلى حطب أو وقود. قد تكون هذه الفكرة جهنمية أو مرعبة وربما اعتذرت عنها. ولكن لا أجد تعبيراً آخر عن الواقع الراهن. على أي حال فإن جيلنا سوف يدفع الثمن الباهظ لكي تنعم الأجيال العربية القادمة بحياة أخرى أكثر سعادة وحرية وطمأنينة. نحن جميعاً حطب التاريخ حالياً ووقوده، ولكن الأجيال القادمة سوف تنعم بتضحياتنا وتعيش حياة رغيدة على أنقاضنا. هذا ما حصل في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وكل الأمم المتحضرة. فولتير نفسه كان يقول: “أنا أزرع لكي تقطف الأجيال القادمة الثمار اليانعة. أنا شخصياً لن أرى ثمار جهدي وعملي ولن أتنعم به. ولكن هذا لن يمنعني من تسخير كل ما أوتيت به من قوة لدحر الظلامية المسيحية”.

*ثمة تراجع تشهده مسيرة الحداثة في أوروبا نلاحظه اليوم مع عودة الخطاب الديني المتشدد وظهور اليمين المتطرف وانغلاق الدول الأوروبية في وجه “الآخر الغريب”. ألا تعتقدون أن التاريخ لا يتخذ دائماً خطاً تقدمياً وأنه قد يدخل في انتكاسات فجائية؟

– أولاً لا توجد عودة للخطاب الديني المتشدد في أوروبا، فالأصولية المسيحية انتهت نهائياً وكذلك محاكم التفتيش. ويا ليت أن الدين يعود بالمعنى الروحاني الصافي الإنجيلي المثالي للكلمة. أوروبا مشكلتها أصولية أخرى من نوع خاص: هي الأصولية المادية التي حولت كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى بالفلوس. هذه الأصولية الرأسمالية، المادية، الإباحية، المفرغة من كل نزعة إنسانية أو من كل روحانية، هي التي تهدد أوروبا والغرب بأسره وليس الديانة المسيحية. أكاد أقول يا ليت! هل نعلم بأن الأطفال أصبحوا يُشترون بالفلوس في بلاد الحضارات الراقية؟ فالشواذ الذين يدعونهم تشريفاً بالمثليين لا يستطيعون إنجاب الأطفال بطبيعة الحال فماذا يفعلون؟ إنهم يستأجرون بطون الأمهات الفقيرات لمدة تسعة أشهر بمبلغ يتراوح بين الخمسين والستين ألف دولار. من يصدق ذلك؟ ويشترطون على الأمهات المحتاجات تسليم “الطفل – السلعة” فور ولادته لكيلا يتعلقن به! هنا تكمن أصولية لا دينية بالمرة. ولكنها لا تقل خطورة ورعباً. وهذا لا يمثل فقط تراجعاً في مسار الحداثة أو عن مسار الحداثة الحقة، وإنما يمثل أيضاً انحرافاً خطراً وتطرفاً في الاتجاه المعاكس. فنحن نتطرف في اتجاه وهم يتطرفون في الاتجاه المضاد، نحن نعاني من الغلو في الدين أي من الأمراض والتشوهات التي تصيب الدين، وهم يعانون من الأمراض والتشوهات التي تصيب العقل وتحوله إلى مجرد أداة نفعية استئصالية. فكما أن الأصوليين عندنا يتطرفون في اتجاه التزمت والتقوقع والحجر على المرأة والتمسك بالممنوعات والمحظورات، فإن أصوليي الرأسمالية الفاجرة يتطرفون في اتجاه الإباحية المطلقة والتحلل من كل القيم الأخلاقية والإنسانية لكيلا نقول الروحانية. هنا تكمن مشكلة الغرب أو أزمة الحضارة الغربية. وهي تشغل حكماءهم وفلاسفتهم وتقض مضجعهم.

ولكن إذا لم تكن هناك عودة للأصولية المسيحية، فهناك انتعاش للأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة في كل أنحاء أوروبا الغربية، بل وأمريكا الشمالية أيضاً. وهنا معكم الحق. هنا يمكن القول بأن التاريخ لا يتخذ خطاً مستقيما من حيث التطور، وإنما قد يدخل في انتكاسات فجائية مدهشة ومزعجة. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه بعد 11 سبتمبر (أيلول) وما تلاه من تفجيرات في عواصم الغرب، فإن قوة اليمين المتطرف ازدادت أضعافاً مضاعفة. وهذا يعني أنه يوجد تحالف موضوعي بين الأصولية الإسلاموية من جهة، وحركات اليمين المتطرف الأوروبي والأمريكي من جهة أخرى. كلاهما تتغذى من الأخرى. ولكن تبقى القوى التنويرية راسخة في أوروبا، ولا يمكن التراجع عن المكتسبات التي تحققت بعد الثورة الفرنسية قبل أكثر من مئتي سنة. لا يمكن التراجع عن دولة الحق والقانون، ولا عن العلمانية والديمقراطية، ولا عن حرية الاعتقاد/ أو عدم الاعتقاد، ولا عن الثقافة التنويرية بمجملها. وهي ثقافة مضادة للطائفية والعنصرية بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض. ولهذا السبب فلم تحصل مجازر ضد الجاليات العربية والإسلامية في الغرب، على الرغم من كل التفجيرات القاعدية والداعشية التي حصلت. وكنا ننتظرها ونخشاها ونضع أيدينا على قلوبنا. ولكن أثبت الشعب الفرنسي أنه شعب ناضج وحضاري ولا يستسلم لردود الفعل الغرائزية بسهولة. وقل الأمر ذاته عن الشعب الإنجليزي والألماني والإسباني وبالطبع الشعب الأمريكي الكبير. وكل هذا يدل على أن التنوير مر من هنا. التنوير ليس مزحة تتبخر من أول صدمة؛ إنه راسخ رسوخ الجبال في العقلية الجماعية للشعوب المتحضرة. وبقدر ما أن الأصولية راسخة عندنا فإن التنوير راسخ عندهم. وهذا ما يميز حالتنا عن حالتهم للأسف الشديد.

المصدر: موقع مركز المسبار