مراكز التفكير.. لأجل سياسة عمومية مغربية ناجعة

مراكز التفكير.. لأجل سياسة عمومية مغربية ناجعة
Spread the love

بقلم يوسف أسكور —

لا يمكن أن نترك مستقبل المغرب مرتهنًا لمزاجية ساسته ولرعونة قراراتهم، التي أضاعت على هذا البلد فرصًا عديدة لبناء دولة القانون والمؤسسات بدل دولة الأشخاص.

ثلاثة عوامل أغوتنا لمعالجة موضوع مراكز التفكير ودورها في بناء سياسة عمومية ناجعة: خفوت دور الأحزاب، أزمة النخب السياسية، فشل النموذج التنموي. وهي عناوين عريضة تلح على كل مهتم بالشأن العام بالسؤال: لماذا عجز المغرب عن استكمال مسار الانتقال الديمقراطي؟ ولماذا مؤشرات التنمية الصادرة عن المؤسسات الدولية تجعل المغرب دائمًا في ذيل اللائحة؟

مراكز التفكير هي العمود الفقري لدولة المؤسسات، وأحد التعبيرات القوية على جدية الدولة في التعاطي مع رهانات التنمية، ورغبتها في استثمار عقول مفكريها ودفعهم دفعًا نحو المشاركة في عملية صنع القرار، ورسم السياسات والاستراتيجيات التي من شأنها الإسهام بشكل فاعل في حركة التنمية السوسيواقتصادية، بدل ممارسة الوصاية على التفكير وحصره داخل بضع مؤسسات لم ولن تكفي لتقديم إجابات جامعة عن سؤال التنمية المفقودة. الشيء الذي معه يزول الاستغراب حول إقرار ملك المغرب سنة 2017، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية، بفشل النموذج التنموي الذي تبناه المغرب منذ 19 سنة.

وتكمن أهمية مراكز التفكير في تقديم الرؤى والتصورات الاستراتيجية، ومقترحات السياسات العمومية الالتقائية تارة، والقطاعية تارة أخرى، والتي تعتبر حلولًا سياسية تبحث مصلحة المواطن -على اعتبار أن الفرد هو حلقة الارتكاز في كل البرامج والمشاريع- وبالتالي مصلحة الدولة، مع استحضار التحديات الداخلية والإقليمية والدولية، والتي تصب في تقييم السياسات المعتمدة وتقويمها بشكل يجعلها استراتيجيات تنحو نحو الدقة والتبصر، بدل الارتجالية وخبط العشواء الذي تتسم بها السياسات العمومية في المغرب، خصوصًا تلك التي لا تصنف ضمن خانة الأولويات، وعلى تشكيل الرأي العام، والذي يعتبر اليوم أحد أهم الاختصاصات البنيوية التي تشتغل عليها مراكز التفكير، يظل أمرًا غير متاح في المغرب على اعتبار أنه أمر موكول لمؤسسات تلعب هذا الدور بشكل يساهم في ترسيخ قيم الانصياع والتدجين الممنهج بدل قيم التفكير والمشاركة.

مراكز التفكير على مستوى الأحزاب
في علم السياسة يعتبر الهدف الرئيسي للأحزب ممارسة السلطة أو المشاركة فيها، إلا أننا نسجل تباينًا في فهم هذا الهدف بين الديمقراطيات التي تحترم نفسها، والتي ترى في ممارسة السلطة مسؤولية تقتضي تشخيصًا وفهمًا علميًّا للقضايا والإشكالات التي تواجه المجتمع والدولة والتعاطي معها حلحلةً وتجاوزًا، وبين تلك التي تجد في ممارسة السلطة هدفًا.

الممارسة السياسية الحزبية يجب أن تكون حمَّالة لكل مضامين النموذج الديمقراطي الجاد والطموح الذي تنادي به، بدل الاكتفاء بحمل يافطة الديمقراطية بشعارات لا تجاوز اللسان الذي ينطق بها. فاعتبارًا لكون الهدف الأساسي للحزب السياسي هو ممارسة السلطة، فإن هذا يقتضي أن تتوفر الأحزاب على بنيات مؤسساتية تراوح بين الممارسة الميدانية، والتنظير العلمي الذي ينهل من خصوصية التحديات المطروحة، وينفتح على تجارب مقارنة يمكن أن نبني من خلالها نموذجًا لسياسات عمومية تصيب كبد ما نحن في حاجة إليه، وما نشرئب لأن نصير عليه.

إذا كنا نسجل أن الأحزاب تعمل بتفانٍ عبر أذرعها الجمعوية والنقابية تارة، وعبر محاولاتها استقطاب رجال النفود والأعمال تارة أخرى، وذلك بغرض التأثير في قاعدة جماهيرية أوسع La masse، وبالتالي الوصول إلى السلطة، فإننا نسجل بالمقابل قدرًا كبيرًا من التراخي بخصوص تناول القضايا والإشكالات التي تواجه المجتمع والدولة بالدراسة والتحليل، وعلى هذا هو ما يفسر البرامج التي تقدمها الأحزاب عند كل محطة انتخابية، والتي تنسحب عليها جميعها ملاحظة واحدة؛ غير الواقعية والتكرار.

الملاحظ أيضًا أن فئة عريضة من «حملة الشواهد العليا» و«الأكاديميون» داخل الأحزاب، يقيمون فصلًا منهجيًّا بين الحزب والمعرفة العلمية، بحيث إن تواجدهم داخل الأحزاب يُختزل في سعيهم الدؤوب لممارسة السلطة، دونما اعتبار للحزب بوصفه مكونًا حيويًّا في الحياة الساسية للدولة، وأهمية أن يساهم في التنظير العلمي الآني والمستقبلي للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذا الفصل غير المؤسس يفضي بالضرورة إلى أزمة النخب السياسية، وينتهي في الآن نفسه بالأحزاب إلى أرقام مطواعة تُضرب وتُقسم وتُجمع لتساوي الصفر.

وكما هو معروف في متون أدبيات السياسة، فإن قيمة الأحزاب لا تقاس بعدد المنخرطين والمتعاطفين، بل بقدرتها على الانصراف إلى الإشكالات التي يتخبط فيها المجتمع والدولة وحتى تلك التي قد تواجهها مستقبلًا في محاولات دؤوبة مسترسلة لاحتواء المطروح؛ فهمًا واستيعابًا وتحليلًا ونقدًا، بغرض البناء الرصين للحلول. إذ لا يعقل أن تظل الأحزاب المغربية حبيسة تثمين الخطب الملكية ومباركتها، بل يجب أن تضطلع بدورها وتقدم حلولًا جادة للإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تواجه المغرب، وهذا لن يتحقق إلا بأن تكون للأحزاب مراكز تفكير تستغرق في الإشكالات الحقيقية، وتؤمن أكثر من أي شيء آخر أن العلم والتخطيط هما دفتا البناء والتنمية.

هكذا يمكن أن تكون الأحزاب مؤسسات منتجة؛ أولًا لمعرفة علمية، ثانيًا لنخب سياسية تسترشد بالمنهج والنظرة العلمية في تدبير الشأن العام. الشيء الذي وبكل تأكيد سيجسر الهوة الحاصلة بين المواطنات والمواطنين والأحزاب.

على مستوى الحكومة
بديهي أنه ما دامت الأحزاب لا تنحو نحو البناء العلمي الرشيد والمستبصر، أن نجد حكومة عاجزة، لا تجاوز حد تطبيق التعليمات الفوقية سواء تلكم الداخلية أو الخارجية، على اعتبار أن القوة السياسية للجهاز التنفيدي للدولة لا يمكن أن تنشأ دون خلفية تستند على مؤسسات حزبية راسخة سياسيًّا.

تظل المؤسسات الدستورية (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي…) تلعب دور مراكز تفكير قطاعية، إلا أنه لا يمكن أن نقيس عليها أو أن نشبهها بمراكز التفكير كما هي عليه في الدول التي صارت فيها هذه المراكز مكونًا أساسيًّا في عملية صنع القرار، وأضحت قناة أساسية لتقديم نخب جديدة، ذلك أن عملية التفكير يجب ألا تظل مقرونة دائمًا بمؤسسات الدولة، بل يجب أن يكون الأمر متاحًا لكل من يلمس في نفسه القدرة على المشاركة، والشرط الأساسي الآخر هو أن لا تخضع مراكز التفكير للوصاية والرقابة؛ إذ إن هذين العنصرين لا يمكن معهما التفكير والتقدم.

يبقى حجر الزاوية في الموضوع، هو أن مراكز التفكير هي ثقافة دولة وتَوَجه يعكس مدى تبني الدولة للتشاركية في تدبير الشأن العام، والعقالة في اتخاد القرارات الحاسمة، وذلك عن طريق إعطاء ثقة أكبر للمؤسسات التي تعنى بالتفكير والدراسة حتى يجد المفكر والخبير نفسه مشاركًا في صيرورة البناء دون الحاجة الى المداهنة، أو الخوض في مناكفات سياسية تضيع معها القضايا الكبرى للدولة. الأخد بما تقدمه مراكز التفكير والدراسات هو اعتراف وإقرار بأهميتها، ودعوة مفتوحة إلى التفكير والتخطيط والمساهمة في بناء التنمية.

حينما تقوم الدولة على غير مبادئ الديمقراطية والحكامة الجيدة والتخطيط الجاد والاستراتيجي؛ فأنى لدولة هذا شأنها أن تنجح في مسار التنمية!

المصدر: ساسة بوست

Optimized by Optimole