رواية جاكوفا .. الصراع بين الشخصية الصهيونية واليهودية

رواية جاكوفا .. الصراع بين الشخصية الصهيونية واليهودية
Spread the love

خاص شؤون آسيوية –
بقلم: غنوة فضة*/

تنطلق الكاتبة اللبنانية رجاء نعمة (1942) في روايتها الأخيرة “جاكوفا ابنة المنزل اليهودي” من نقطة الخداع الذي مارسته الحركة الصهيونية على اليهود العرب لحثهم على الهجرة إلى إسرائيل، وتدخل في صميم المجتمع اليهودي، ولكن بعيداً عن التسييس المتعمد، إذ تستعين بالواقع مدعوماً بالخيال، لتجسد من مذكرات ابنة عائلة يهودية المصير الذي آلت إليه أحوال أفرادها جراء التعقيدات السياسية وسطوة السلطة الدينية.
تقول الكاتبة: “هل في التاريخ الحديث من تزويرٍ أعتى من أن يُقال لشعبٍ: هذه الأرض ليست لك، هذا ليس وطنكَ وعليك أن ترحل؟”
من تلك المقولة الكبرى، تذهب الكاتبة في روايتها الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر (بيروت) لتتصدى لتأسيس وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، وتفككُ همجية قيام دولة إسرائيل. نقعُ هنا على كاتبةٍ وضعتها الصدف أمام فتاةٍ يهودية اسمها جاكوفا؛ عاشت في لبنان وتحلم في نشر مذكراتها. إذن نحن أمام كاتبةٍ يُطلبُ منها أن تكتب حكاية غيرها؛ أي أن تكون كاتبة ظلّ، وحين تعترض على الفكرة، تقنعها الفتاة بجمالية الكتابة التي تتناول أحداثاً وأحوالاً لم نعشها. وفي هذا إمعانٌ من الكاتبة في زج الواقع بالمتخيل، ذلك أن قراءة المذكرات تجعلَ الكاتبة فريسة الحكاية نفسها، لتتساءل عما إذا كان المكتوب واقعاً أم متخيلاً، وهو فضاء أسريّ لمجموعة يهودية فريدة من نوعها.
“كيف لن أشعرَ بالتميز عن زميلات الكنيس وورائي تاريخ مدهش وتاريخهن أملس؟”. نقع هنا على حكاية يائيل؛ جد العائلة الأكبر، والجواهريّ المعروف في إسطنبول. نراه حائراً في نقل إرثه من السبائك الذهبية إبان سقوط الدولة العثمانية. وهو الجواهريُّ الذي قصدته زوجة الإمبراطور الألماني “غيوم الثاني” حتى أضحى أشهر صائغ في البلاد،. نجده في مطلع الحكاية هارباً مع أسرته إلى مدينة حلب، ومنها ينتقل إلى بيروت ويبني ما سمي لاحقاً أجمل تحفة معمارية مطلة على صخرة الروشة. حيث يشادُ منزل آل يعقوب موطن أحداث الرواية.
تأخذ الكاتبة من الحرب أداة لزج أبطالها في مصائر غير متوقعة، ذلك أن جاكوفا؛ صغرى بنات سليم بن يائيل، تعيش في منزلٍ يؤلِّهُ الصبي “جاكوب” باعتباره الذكر الوحيد. وهنا تتجه الرواية لرصد سياقٍ ترفضه البطلة، إذ نراها تنكفئ عن عائلةٍ تفضل الذكور على الإناث. هو ما يتبلور في المشهد الذي تُضرَبُ فيه وتُعاقب لمجرد لمسها رداء الصلاة. من تلك النظرة الدونية، تندفع الطفلة نحو الظل، وتنكفئ باعتبارها طفلة منبوذة لأسرةٍ انتظرت ذكرها الثاني وفوجئت بالمولودة الأنثى. تمسي طفلةً هزيلة ومستوحدة، ما خلا تلك اللحظات التي عاشتها مع مربيةٍ خففت من توجسها قبل أن تهاجر إلى بلدٍ يهيئهُ العالم لليهود.
تمضي الحكاية راصدة أثر الجماعة في قمعها للفرد، وتبحث في المسوغات التي تدفعه ليحيا ساخطاً عليها. إذ تمضي جاكوفا حياتها ساخطة لارتدائها ملابس أخيها الافتراضي، لكن دخولها المدرسة وتنقّلها من الدير إلى المدارس العلمانية في لبنان، يسمح بمنحها كياناً فكرياً استثنائياً. ومع الوقت نجدها واقعة في هوى الماركسية، لكنها تتلقى الأذى من أبيها. تُحبَسُ على مجاهرتها بأفكارها، ويساندنها أخوها في الخفاء؛ الأخ الذي تأثر بطرد الأب لعمته، لا يرغبُ بتكرار المأساة مع أخته الصغرى، نراه غاضباً من محاولات الأب في جعله نسخة عنه، الأمر الذي يدفعه للتحرر من الطائفة والانتساب إلى مجموعة من المثقفين المعادين لإسرائيل.
“ما أيسرَ أن تهجّرَ امرأةً من بيتها، وشعباً من بلاده!”
هكذا يطلق جاكوب أفكاره كشابّ مثقف وحرّ. يرمي الأسئلة التي تمس الطائفة، لكنه يمسي سجين الإرث، ويقع في مواجهة بين العالم وأبيه. نجده في أثناء دراسته الجامعية يتساءل عن تلك الأسرار في بيتهم، في وقت تتزوج فيه الأخت الكبرى “إيفا” من يهودي هارب إلى أميركا ومتعصب لقيام دولة اليهود. تظهرُ هنا الشروخ الفكرية في العائلة؛ ويبرز الخلاف بين الانتماء إلى اليهودية وبين التمثلات الصهيونية التي بدأت الحركة في فرضها على اليهود العرب. ذلك أن جاكوب غير منجذب لزوج أخته، ويراه طامعاً في كنوز آل يعقوب. وجاكوفا ترى في العريس الجديد ما يسرّ أختاً لا تعرف عن العالم سوى النظر إلى المرآة. هكذا يُزرَعُ الشقاق بين أفراد الأسرة. بينما تقف الأم حائرة، ذلك أن وجودها لا يتعدى الانكفاء تحت سلطة زوج صارم، ما جعلها غير قادرة على مواجهة تساؤلات جاكوب حيال عُقَد الطائفة، وحيال رعبٍ سيّرَ تاريخها وجعلها تختلقُ أكذوبة التفردِ عن باقي الطوائف والأعراق في العالم: “آخرون يطارهم شبحُ نبوخذ نصر، وبعد آلاف السنين التي مرت على السبي ما زالت صورته محفورة في نفوسهم، كما الاعتقاد الملتبس الذي قادهم إلى النبذ والتنابذ”.
بين تدين الآباء وعلمانية الأبناء، يحاول سليم استمالة ابنه وصدهِ عن أفكاره بكشف كنوز العائلة، لكن أثرها على جاكوب لا يتعدى أثر الماء على الزجاج، ذلك أن رفضه لعقيدة الطائفة تشعب إلى درجة السخرية من معتقدات تفردهم عن الجميع. ويؤجج ذلك التمرد هربُ أخته جاكوفا وزواجها من شاب غير يهودي، ليُسهِم الحدث في إرباك الجميع، وهو ما تضجّ به المدينة. إذ تقيم العائلة مراسم عزاء على من منحتهم الدنس بحسب اعتقادهم؛ يأتي المسافرون، ويُجبر جاكوب على قراءة سفر الموتى على أخته الحيّة؛ ومن نقطة الموت المزور تلك، يصاب الشاب في صميم أفكاره ويوقظ ما طال ركوده. يلوذ بالفرار، وهو فرارٌ فكريّ أكثر منه مكانيّ. إذ يؤسس مقالاته في كشف الدور الذي لعبه اليهود في توجيه السياسة العالمية. وهنا تضلع الكاتبة بكشف حوادث تاريخية شهيرة، كدور الثري روتشيلد في جذب القوى العظمى للحصول على وعد بلفور، وتجهيز هرتزل ومن بعده الروسي حاييم وايزمان لتهجير الفلسطينيين ومنح بيوتهم وأراضيهم لليهود القادمين من جميع أنحاء العالم.
هكذا تخرج شخصيات الرواية عن مسارها، مثلما خرج شباب السبعينات عن الموروث، ونرى صاحبة المذكرات تقطع صلتها بماضيها بينما نجد كاتبة الظل واقعةً في غرام الحكاية. يصاب سليم الجواهري بالإحباط من ابنيهِ، لذا يفرّ إلى عالم جديد، هو عالم فريدا رفول؛ وهي سيدة مجهولة النسب فتحت صالوناً في بيروت، وتوقع الجميع في حبها، ومن بينهم سليم الذي يغرق في عوالمها وسهراتها، لكن العلاقة بينهما لا تمتد بسبب اكتشاف أجهزة الأمن شبكة تجسس لصالح العدو، وإعلان فريدا امرأة دخيلةً ويمسي كلُّ من كان له علاقة بها متهماً.
يُثقل اعتقال سليم حياة جاكوب، ويزداد أساهُ عندما يغلو الأب ويصرّ على براءة فريدا، ولا يُفرَج عنه إلا بعد وساطة جيش من المثقفين في لبنان. تتشكل هنا فضيحة كبرى في العائلة، وبينما يهاجر سليم إلى ابنته في أميركا، لا يبقى لجاكوب سوى أخته الوسطى إستر. تتأثر بأفكارهِ، وتسانده في كتابه الذي عنونه “فلسفة الشيطان”. يراها الناس تلقي المواعظ وتبشر بعودة الفلسطينيين إلى بلادهم. تحمل شعار سقوط إسرائيل، وتسافر إلى الأراضي المحتلة لتنشط ضد الكيان نفسه، بينما يلمع اسم جاكوب بعد نشر كتابه وتدمير منزل آل يعقوب بعد الاشتباه بما حوله، وبعد وقوع الكاتبة في غرام جاكوب، بما يرمي الظلال على الحكاية برمتها، ويدفعنا للتساؤل حيال الخيال الذي نسجت فيه جاكوفا قصتها، وذهب بدوره ليصنع الواقع بيد كاتبة الحكاية.

كاتبة وروائية سوريّة

Optimized by Optimole