الحذاء

الحذاء
Spread the love

قصة قصيرة** بقلم: أسامة محمود اليوسف* |

تسللت أشعة الشمس إلى غرفته معلنة ميلاد يوم جديد ، الشمس ما تزال ترسل أشعتها وترسم لوحات على جدار الغرفة ، تململ جسده النحيل المرتمي تحت اللحاف ، فتح عينيه بتثاقل وتثاؤب ، تحسس معدته الخاوية وتمتم حياة كريهة . ما أصعب الحصول على القوت ، الجوع كافر عبارة رددها وهو ما يزال في فراشه. بدت الغرفة مهجورة موحشة كجدران زنزانة لا يزينها شيء سوى صورة للوحة يتوسطها صحن من الفاكهة .نهض من فراشه وقف أمام المرآة ، فبانت نحافة جسده وسفرة وجهه الباهتة التي امتدت إلى وجنتيه الضامرتين وعينيه الغائرتين كامتداد السهل إلى الجبل خفض رأسه وانسل من أمام المرآة دون أن ينبس بكلمة ، رائحة غرفته مقززة أشعل نصف سيجارة متبقية في المنفضة فزادت في صفير معدته الخاوية ، تناهت إلى سمعه حركة طقطقة صحون في المطبخ أصغى بتوجس ، عرف أنها محاولة فاشلة لقطة تحوم على الصحون الفارغة بلا أمل ، فتثير تلك الأصوات المزعجة فتح باب الغرفة ولج إلى المطبخ وبسرعة وضع إبريق الشاي على الموقد غسل وجهه وسرح شعره الطويل الأشعث المنسرح على كتفيه بقوة وتمرد، حضر لفافة من الزعتر والزيت أخذ الابريق وكأسا ولفافة الزعتر العريضة المتكسرة جلس على بساط اخضر رقيق ، قشعريرة سرت في جسده ،صب الشاي في القدح التهم لفافة الزعتر بنهم شديد،أخذ يفكر في طعام العودة نبتت في ذهنه فكرة، سأدهن قليلا من معجون الأسنان على رغيف الخبز ،تراجع عن فكرته، صحيح أن طعمه شهي لكنه مل هذه الأكلة، نظر إلى ساعة الحائط ، أنها لاتزال السادسة تماما فكر ماذا سيفعل أمامه متسع من الوقت أفكاره مشوشة غاص طويلا نعم سأقوم بتنظيف الحذاء من وحل البارحة، الحذاء لم يعد يصلح للانتعال أبدا. تذكر أن لديه أحذية في الحديقة سارع إليها جمع أحذيته القديمة المتراكمة التي يعلوها الغبار والرطوبة ووضعها أمامه. صرصار صغير خرج من الكيس تبعه عنكبوت صغير شرس، حذاءه اهترئ وبات كالسلحفاة البطيئة عند ارتدائه، المطر والماء والزمن هاجمه فانفتح فمه الأمامي، وظهرت أصابع قدميه منه لاينسى ذلك اليوم حينما انفتح فمه وسط السوق وظهرت أصابعه ، فدهس على قطعة زجاج فانجرحت أصابع قدمه أمام جمهرة من المارة. خمسة أحذية قديمة لاجدوى من إصلاح احدها، إنها كحذائه فهو لايترك حذاء ويشتري آخر إلا وقد اهترئ من جميع جوانبه، لابد أن يصلح احدها لن يقبض راتبه الشهري إلا بعد خمسة عشر يوماً. تناول بعض المواد اللاصقة يضمد الأماكن التي اهترأت ويطرق بالمسمار فوق الأماكن التي التصقت. آه ثلاث أهات صدرت من فمه أردفها بتنهيدة ثم استرد بعد أن ضرب إبهام يده
اليسرى فاحمر إبهامه وآلامه، انتعل الحذاء بعد جهد طويل كانت محاولة فاشلة فقد انفتح الحذاء كأنه لم يصلح من شانه أبداً في تلك اللحظات شعر أن جبالا من الأحزان تجثم فوق صدره، قهقهات أصدقائه في العمل مستغلين فرصة غيابه عن غرفة العمل (انه شبيه بحذاء أبي القاسم الطنبوري) كانوا يختلسون النظرات والضحكات خلسة، مديره في العمل كل يوم يبدل حذاء ويرتدي طقماً جديداً ليصعد على المنصة فيتباهى في منجزات الشركة الوهمية. الديون تقف إليه كالصياد مختلسة معاشه الشهري الذي يذوب كالملح، ديون للأصدقاء وأجرة الغرفة وديون البقال وديون كثيرة حمل همها عندما ترك قريته وجاء ليعمل في المدينة الأسعار الباهظة التي يطرحها تجار الأحذية أمام واجهات محلاتهم والتي لا قدرة له على شراء حذاء منها.
عاد إلى حذاء أخر قال في سره هذا سيكون أفضل من سابقه، هيأ بعض الخيوط النايلون القوية المتينة وإبرة كبيرة وبفضل قارضة مقبضها من البلاستيك ورأسها من حديد أنهى اخاطة الحذاء بعد وخزات عديدة ضربت يده وأسالت الدم منها كانت محاولة ثانية فاشلة فلم يدخل الحذاء في قدمه أبدا حاول جاهدا ولكن لاجدوى تململ في مكانه جمع الأحذية في كيس كبير وقد أضاف حذاءه ووأدها في ركن من الحديقة.
جلس منقبضا واجما مشحونا بتوتر مكبوت وأصابعه تتداعب ذقنه المرتجفة الشعثة، أخذ يضحك في سره حتى دمعت عيناه.

*القصة فازت في المركز الخامس مشاركة في مسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة.

**قاص سوري.

Optimized by Optimole