القضيّة الفلسطينيّة في ظل الأوضاع العربية الداخلية

القضيّة الفلسطينيّة في ظل الأوضاع العربية الداخلية
Spread the love

بقلم: د.محمد عبدالرحمن عريف — البعض يبدى تفاؤله بتأثير الثورات إيجاباً على القضيّة الفلسطينيّة على المدى البعيد، بعد استقرار الأوضاع في تلك البلدان، ما يدفع بالقضيّة الفلسطينيّة إلى تصدر المشهد، وحصولها على اهتمام أكبر، لا سيما وأنها القضيّة المركزيّة للعرب. وذلك بتفعيل الحراكات الفلسطينيّة وتنظيمها، والضغط من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة، والتمسك بالحقوق والأهداف الوطنيّة الفلسطينيّة باعتبار ذلك الحجر الأساس في بناء موقف عربي داعم للخيارات الفلسطينيّة. فلا يمكن الحكم على الأحداث من خلال فترة زمنيّة قصيرة، وإذا كان تأثيرها على القضيّة الفلسطينيّة على المدى المباشر سلبياً، لانشغال البلدان العربيّة بهمومها الداخليّة، وهذا الأمر ساهم في تهميش القضيّة الفلسطينيّة.
السياسيّون والأكاديميّون الفلسطينيّون يبحثون في عديد اللقاءات تداعيات الثورات والانتفاضات العربيّة على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة، وعلى الأهداف والحقوق الفلسطينيّة المتمثلة بحق تقرير المصير والعودة وإقامة الدولة وعاصمتها القدس، وهنا يبدون خشيتهم من تأثير الثورات، في المَديينِ القريب والمتوسط، علىّ المشروع الوطني الفلسطيني، وعلىّ ملف إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة، خصوصاً في ظل تغير المحاور والتحالفات، ومرور البلدان التي حصلت فيها ثورات بمرحلة انتقاليّة ستكون منشغلة فيها بترتيب أمورها الداخليّة وإجراء الاستحقاقات الانتخابيّة، وفي ظل ضبابيّة ما يجري في البلدان التي شهدت ثورات.
في محاولة للسعي إلى مقاربة أثر “الثورات” و”الانتفاضات” على القضيّة الفلسطينيّة، وبمقاربة نظريّة حول الثورات والحركات الاحتجاجيّة من خلال عرض بعض النماذج وتحليلها وربطها بالسياق العربي؛ والخطابات الاجتماعيّة المتداولة في الحياة اليوميّة وتغيرات الخطابات الأيديولوجيّة في الساحات العربيّة المختلفة؛ وتأثير هذه الثورات على القضيّة الفلسطينيّة وانعكاساتها المختلفة على المستويات الرسميّة وعلى الحراكات الاحتجاجيّة الفلسطينيّة المختلفة. قد لا توجد رؤية فلسطينيّة واحدة، رسميّة وشعبيّة، بل توجد رؤى مرتبطة بالخطابات الأيديولوجيّة وبالتحالفات والمصالح وعلاقات القوة لفرقاء إدارة الصراع الداخلي الفلسطيني “فتح” و”حماس” بنظرائهم في سلطات دول ما بعد 2011 أو مع سلطات الدول التي لم يمسها “الربيع العربي”.
الواقع أن تأثير الثورات العربيّة على القضيّة الفلسطينيّة يتمثل في أكثر من محور، أولها بقاء الصراع العربي- الإسرائيلي صراعاً فلسطينياً- إسرائيلياً، حيث ما زال الصراع العربي- الإسرائيلي يعمل وفق الأسس التي سبقت “الثورات” و”الانتفاضات العربيّة”، أي إبقاء حالات “اللاحرب” لبعض الدول العربيّة، واتفاقيات “السلام”. أما المحور الثاني، فيتمثل في العلاقات الفلسطينيّة مع الأنظمة العربيّة بعد عام “الربيع العربي” 2011، فمصر ما زالت لاعباً أساسياً في العلاقات الفلسطينيّة– الفلسطينيّة، وحتى في فترة ما قبل نهاية يونيو/ حزيران 2013 لم تتغير قواعد اللعبة في المنطقة، حيث بقيت اتفاقيّة “كامب ديفيد” كما هي، ولم يفتح معبر رفح نهائيا رغم التخفيف الجزئي للحصار عن قطاع غزّة، الأمر الذي أبقى الوضع الفلسطيني عما كان عليه قبل تنحي مبارك.
أما في موضوع المصالحة، فلم تتقدم لعدة أسباب تتعلق بقضايا داخليّة مصريّة وصراعات فلسطينيّة– فلسطينيّة. وتعاظم أدوار جديدة لدول جديدة في المنطقة وفق محاور تحالفات جديدة، مثل قطر التي تظهر أكثر فأكثر كلاعب جديد يحاول أن يؤثر في السياسيّة الداخليّة الفلسطينيّة، وفي مسار القضيّة الفلسطينيّة، الأمر الذي يجعل الثنائيات في المشهد الفلسطيني أكثر وضوحاً.
الحركات الاحتجاجيّة الفلسطينيّة التي ترافقت مع الثورات العربيّة، وتمثلت بخروج الآلاف في 15 مارس/ آذار 2011 و15 مايو/ أيار من العام نفسه، للمطالبة بإنهاء الاحتلال وإنهاء الانقسام وإلغاء “اتفاق أوسلو”، وإلى الاحتجاجات المطالبيّة من قبل النقابات، وكذلك إلى الاحتجاجات والحراكات التي ترافقت مع الحرب على غزة، والتضامن مع الأسرى، وبناء القرى مثل “باب الشمس”، والحراك ضد مخطط “برافر”، حيث أعطت هذا الحراكات، خصوصًا الشبابيّة، روحًا جديدة للمجموعات الشبابيّة، قبل أن يتم احتواؤها ومأسستها من قبل السلطة الفلسطينيّة. نعم الحراكات الشبابيّة والمطلبيّة الاحتجاجيّة لم تنجح في تغيير الخارطة الاحتجاجيّة الفلسطينيّة، التي تراوح مكانها منذ أكثر من خمس سنوات، وذلك لعدة أسباب، منها: أن هذه الحراكات إما ذات طابع نخبوى/ جيلي في حالة عام 2011 وضيقة ومحصورة برام الله وغزة، أو مرتبطة بأجندات حزبيّة في الحالة الأخرى، لذا لم تنجح في تشكيل حاضنة أو رافعة اجتماعيّة؛ مع تنامي حالة الفشل والشعور بالإحباط والعزوف عن ممارسة السياسة بمعناها الواسع نتيجة الهوة المتعاظمة جراء المشروع الذي تقوده السلطة الفلسطينيّة غير واضح المعالم والمتخندق حول إستراتيجيّة التفاوض؛ إضافة إلى فقدان الثقة في المؤسسات والأحزاب السياسيّة؛ وتعاظم الانقسام الداخلي الفلسطيني بين طرفي النزاع “فتح” و”حماس”؛ وكذلك عدم وجود ميادين عامة تشبه “ميدان التحرير” فى القاهرة؛ وتعاظم أزمة الخطاب الوطني الفلسطيني.
نعم قد ينتقل الخطاب الحالي من دوائر التهميش والإقصاء الى دوائر الحضور والقدرة على الانتقال من المجال العام الافتراضي إلى الواقع والتحرك ضد عدو اجتماعي؛ ونظرًا لوقوع فلسطين تحت الشرط الاستعماري، فإن أولويّة الحركات الاجتماعيّة ستكون في التحرك ضد الاستعمار ومؤسساته الاستعماريّة ومستوطنيه وجيشه، وقد يصاحب ذلك احتجاجات ضد السلطة السياسيّة الفلسطينيّة وبعض رموزها.
تتباين وجهات النظر الفلسطينية لما يجري في المنطقة العربيّة، فالبعض يعتبرها “ثورات” قامت بها الشعوب ضد سياسات الفقر والظلم والاستبداد والتبعيّة، وتجسدت بفتح الباب أمام الشعوب لاستلام قرارها بيدها لتختار من يحكمها، وأن هذه الثورات ستؤثر لاحقًا بشكل إيجابي على القضيّة الفلسطينيّة لتكون قضيّة العرب المركزيّة، التي ستحظى بالاهتمام لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وحقوقه في إنهاء الاحتلال وتقرير المصير والعودة والاستقلال وإقامة الدولة؛ لأن هذه الدول في مرحلة انتقاليّة، وهي منشغلة في الوقت الحالي بإعادة ترتيب الساحة الداخلية.
إن تهميش حضور القضيّة الفلسطينيّة آنيًّا كقضيّة مركزيّة للعرب قد يتغير خلال السنوات القادمة لصالح إعادة الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة باعتبارها قضيّة العرب الأولى، ولكن قد لا يحدث هذا إلا بالتوازن مع القضايا الخاصة بكل بلد، وذلك لأن عناصر الصراع مع الدولة الاستعماريّة إسرائيل لن تزول. فبحكم طبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني، وطبيعة إسرائيل الاستعماريّة وحاجتها التوسعيّة الدائمة، فإنه من المرجح أن تتوسع رقعة النقمة ضدها مستقبلًا، ما قد يدفع بالخطاب “العروبي” الجديد إلى الواجهة ويدفع جماعات عربيّة ضاغطة لإعادة الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة. فحدوث تحرك اجتماعي أكبر يتطلب إعادة الاعتبار لمكونات الشعب الفلسطيني كأطراف أساسيّة فاعلة ومشاركة في صناعة القرارات الجماعيّة؛ والحد من مظاهر التهميش لصالح سكان فلسطيني الضفة الغربيّة وقطاع غزة، وإعادة إحياء مؤسسات منظمة التحرير على أسس جديدة؛ وصياغة مشروع وطني جديد بعد إنهاء الانقسام، يقوم على إعادة التفكير في أسس الصراع مع إسرائيل، أي العودة إلى المربع الأول باعتبارها دولة استعماريّة، وما يتطلبه ذلك من إعادة صياغة الإستراتيجيات الوطنيّة الفلسطينيّة المقاومة للمشروع الاستعماري.
تم ذلك كله خلال حلقة نقاش نظّمها مركز مسارات في مقرّه بمدينة البيرة، لاجتماعات ضمت سياسيّين وأكاديميّين لبحث تداعيات “الربيع العربي” على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة ومشروعها الوطني.

Optimized by Optimole