سيد قطب و”معالم في الطريق”

سيد قطب و”معالم في الطريق”
Spread the love

بقلم: د. محمد يسري* — يُعد كتاب سيد قطب، “معالم في الطريق”، بما تضمنه من مفاهيم الجاهلية والحاكمية والاستعلاء، وضرورة البعد عن المجتمعات الكافرة، بمثابة الدليل الفكري والمرجع التنظيري الأول للجماعات “الجهادية” المتطرفة، لما فيه من أفكار مؤسسة لا غنى عنها في مسار هذا الفكر المتطرف. ويلاحظ، أن الكتاب يحمل بين طياته تصورات عمومية ورؤى فكرية شاملة، ولا يهتم بالخوض في التفصيلات الفقهية الدقيقة، وهو الأمر الذي ساعد على انتشاره بين الكثير من الجماعات الأصولية والتكفيرية برغم ما يوجد بينها وبين قطب من اختلافات وتباينات في وجهات النظر والآراء.
في هذا الكتاب تحديداً، تظهر الأفكار الثورية واضحة في كتابات قطب، عندما يبدأ في عرض أفكاره حول الكيفية التي يخرج بها المجتمع من الحالة الجاهلية التي يعيش فيها، وكيف يستطيع هذا المجتمع أن يحقق نموذجه الإسلامي المتفرد.
يرى قطب أنه يجب أن تتوافر نخبة أو طليعة ثورية تمتلك من العزيمة والبأس ما يمكنها من أن تشق طريقها في سبيل تحقيق أهدافها وسط خضم الجاهلية الضاربة في شتى جنبات المجتمع. تلك الطليعة يجب أن تسترشد ببعض المعالم والإشارات المهمة التي ستلقاها في طريقها.
وكما أكد قطب على أن الدعوة الإسلامية ليست في حقيقتها دعوة قبلية أو قومية، فإنه يؤكد أيضاً على إنها لم تكن (دعوة اجتماعية)، فالرسول لم يثر حرباً ضد الأشراف والطبقة الأرستقراطية، ولم يتعصب للفقراء والمساكين، ولم يقم برد أموال الأغنياء على الفقراء. وهو يؤكد أن الدعوة الإسلامية لم تكن دعوة اصلاح خلقي، فرغم أن الكثير من الأخلاق الفاسدة كانت منتشرة في تلك الفترة التاريخية، إلا أن الله أرتضى طريقاً آخر، تكون فيه العقيدة هي الباعث على الاستقامة الأخلاقية.
وتظهر دعوة قطب لتطبيق الشريعة الإسلامية في قوله: (والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب نظام وأن يصوغ تشريعات للحياة… بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه… الذين يريدون من الإسلام هذا، لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة… كما يريد له الله).
ويؤكد قطب على أن هدف الدعوة الدينية على مدار التاريخ، كان منحصراً في (تعريف الناس بإلههم الواحد، وربهم الحق، وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق).
ويرى قطب أن جميع الناس محكومون بقوانين فطرية لا يمكن الحيود عنها أو استبدالها، فيما يخص النشأة والنمو والصحة والمرض والحياة والموت، وأنه ينبغي أن يعمل الأفراد على تنفيذ الشق الأخر من القوانين الإلهية، التي تختص بـ(الجانب الإرادي) في حياتهم، وذلك عن طريق تحكيم شريعة الله في جميع الأمور، فعن طريق ذلك سوف يحدث تنسيق وانضباط ما بين الجانبين (الفطري والإرادي)، وهو ما سوف يؤدي بالتبعية لسعادة البشرية وخيرها. وهو يعتبر أن المسلمين في العالم المعاصر، ما هم إلا مسلمون من الناحية النظرية فحسب، فشهادة لا إله إلا الله، لا يمكن تأكيدها إلا بواسطة الامتثال التام والطاعة المطلقة لأوامر الله ونواهيه والاحتكام لشريعته، وما دون ذلك ليس أكثر من (هوية نظرية مجردة). ولهذا يرى قطب ضرورة إقامة (تجمع عضوي حركي) منذ اللحظة الأولى التي تعمل فيها الطليعة على تطبيق النموذج الإسلامي.
فقطب كان يرى ضرورة الانخراط في نشاط الجماعات الإسلامية، وهو لم يقصرها على كونها جماعة أو فرقة سياسية أو حزبية تصطبغ بالصبغة الإسلامية، بل أنه حتم أن تكون تلك الجماعة تغطي معظم الأنشطة التي تدور في المجتمع الجاهلي، وذلك حتى تكون صالحة فعلاً لأن تحل بديلاً عنه. من هنا نفهم أهمية جماعة الإخوان المسلمين في الفكر القطبي، فرغم اختلافه عن أهم منظريهم في العديد من الأفكار والرؤى، إلا أنه كان ينظر إلى مفهوم (الجماعة) كونه حجر أساس في الدعوة لتطبيق النموذج الإسلامي.
ويقوم قطب عبر صفحات كتابه، بتلخيص أحكام الجهاد في الإسلام، فيخلص إلى أن جميع من في الأرض إنما يندرجون تحت ثلاث أصناف كبرى فيما يتعلق بحكم الجهاد، تلك الأصناف هي (مسلم مؤمن – مسالم له أمن – خائف محارب). ويلفت نظر القارئ إلى أن النصوص القرآنية التي تتناول مسألة الجهاد، لا يمكن فهمها إلا بالنظر والإحاطة بالظرف الزمني والتاريخي التي تنزلت فيه، فلا يمكن النظر إلى كل نص على أنه نص نهائي وأخير وحاكم. من هنا فإن قطب يهاجم هؤلاء المسلمين الذين لطالما اعتادوا على أن يرددوا أن (الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع)، ويصف قولهم بأنه استجابة سلبية متردية وانهزامية لضغط الهجمة الجاهلية.
ومن هنا فإن قطب يهاجم هؤلاء المسلمين الذين لطالما اعتادوا على أن يرددوا أن (الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع)، ويصف قولهم بأنه استجابة سلبية متردية وانهزامية لضغط الهجمة الجاهلية.
ونلاحظ هنا أن وجهة نظر قطب، تتفق كثيراً مع أفكاره المتأثرة بالديالكتيكية التي أشرنا لها في موضع سابق، وإن اعتقاده بمواكبة النص القرآني للتغيير المجتمعي، تجعله في الكثير من الأحيان يقترب جداً من أفكار عدد من المفكرين اللاحقين به والمختلفين عنه في منهجه الفكري والأيديولوجي كنصر حامد أبو زيد على سبيل المثال، وذلك رغم وجود اختلاف رئيس ما بين الإثنين، يتمثل في تسليم قطب بعلوية وهيمنة الذات العليا على الخطاب الفكري.
وفي موضع أخر من كتاب المعالم، يحاول قطب أن ينبّه على الارتباط الوثيق ما بين الإسلام بما يشمل من نظم وقوانين وتشريعات من جهة والحضارة من جهة أخرى. فالمجتمع الإسلامي الذي يلتزم بضوابط الشريعة، هو مجتمع متحضر، بل أن قطب يقصر صفة التحضر عليه وحده دون غيره، فيقول: (المجتمع الإسلامي -بصفته تلك-هو وحده المجتمع المتحضر، والمجتمعات الجاهلية -بكل صورها المتعددة-مجتمعات متخلفة).
من هنا يتم التأكيد مرة أخرى على موقع فكرة الحاكمية في فكر سيد قطب، فهي ليست مجرد آلية، أو وسيلة إجرائية، بل إنها أيضاً وسيلة للتطور والتعاطي مع الزمن، فتحضّر المجتمع يتناسب طردياً مع التزامه بالخضوع لحكم الله وأوامره ونواهيه، ولا يمكن أن نُطلق على أي مجتمع وصف التحضّر في حالة عدم التزامه بتلك المسألة.
كما يرى قطب أن سلم الحضارة تتصاعد درجاته طردياً مع تحرر الإنسان من العبودية وخضوعه بشكل مطلق لسلطة الله تعالى. فالمجتمع الإسلامي هو وحده (المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد، ويخرج فيه الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك يتحررون التحرر الحقيقي الكامل، الذي ترتكز إليه حضارة الإنسان). فيرى قطب أن تحديد درجة تحضر أي مجتمع، هو أمر مرتبط بسيادة (القيم والأخلاق الإنسانية) والتي تصل لذروتها في المجتمع الإسلامي المنشود.

*باحث وأكاديمي مصري.

Optimized by Optimole