روسيا والاقتصاد العالَميّ الجديد

روسيا والاقتصاد العالَميّ الجديد
Spread the love

بقلم: عدنان كريمة* —

في سياق الخلاف السياسيّ والصراع الاقتصاديّ بين موسكو وواشنطن، وفي ردٍّ منها على العقوبات الأميركيّة والأوروبيّة، بسبب أزمة أوكرانيا، تُحاول روسيا الهروب من الدولار في علاقاتها الدوليّة وتبادُلها التجاريّ وتعامُلها الماليّ والمَصرفيّ، والاعتماد تدريجاً على عملات أخرى، مثل الروبل واليوان، وذلك بنِسب مُتفاوِتة وفق تطوُّر مَصالِحها وخِططها الاستراتيجيّة، وقيادتها مع الصين مجموعة دول “البريكس”؛ في الوقت الذي يُجمِع فيه معظم المُراقبين على أنّ الحرب العالَميّة الثالثة مرشَّحة لتكون “اقتصاديّة بامتياز”، الأمر الذي يُفسِّر مدى أهمّيّة سيطرتها السياسيّة والعسكريّة على سوريا، لسنواتٍ طويلة، والتوسُّع في استثماراتها الماليّة في منطقة الشرق الأوسط ( وهي الأغنى في العالَم) لترسيخ نفوذها وضمان مَصالحها، تمهيداً للعب دَورٍ مستقبليّ مؤثِّر وفاعل في مسيرة الاقتصاد العالمي الجديد. هل تستطيع روسيا تحقيق أهدافها؟

اتَّخذ البنك المركزي الروسي سلسلةَ إجراءاتٍ تهدف إلى فكّ الارتباط تدريجاً بالدولار، على أمل أن تُسهم في التخفيف من تأثير العقوبات على الاقتصاد الوطني. وقد طُلب من المصارف العاملة داخل البلاد اعتماد الروبل في حساباتها. وكَشفت مديرة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا عن تدابير تنظيميّة وصفتها بأنّها ” تجعل التعامل بالروبل أكثر ربحيّة”، ولكنْ يبدو أنّها لم تُدرِك أنّ تحقيق هذا الهدف ليس بالأمر السهل، لأنّه حتّى يُصبح الروبل جذّابا للحسابات، يجب أن توفَّر له الثقة بأنّ قوّته الشرائيّة لن تنخفض، وأنّه يَمتلك عوامل استقرار، وأن يكون التضخّم عند مستويات متدنيّة. وبما أنّ الروبل يعاني من نقاط ضعف، ولا يمتلك مقوّمات الصمود والاستقرار، يقول رئيس غرفة الحساب الروسيّة أليكسي كودرين إنّ ” الانتقال لاعتماد الروبل في الحسابات أمرٌ محفوف بمَخاطر نقديّة عالية”.

وعلى الرّغم من المُعارَضة الشديدة، تابعَت روسيا إجراءاتها بالتخلّي تدريجاً عن الدولار، فعمدت إلى الانسحاب من الاكتتاب في سندات الخزينة الأميركيّة، ليتراجَع امتلاكها لديون الولايات المتّحدة بنحو 84 في المئة خلال شهرَين فقط. ففي العام 2010، كانت تمتلك نحو 176 مليار دولار، وقد تراجَع الرقم إلى 105 مليارات في تشرين الثاني ( نوفمبر ) 2017 ، ثمّ إلى 96 مليار دولار في آذار ( مارس ) 2018، واستمرَّ بالتراجُع إلى أن أصبح 14,9 مليار دولار فقط. وحرصاً من حكومة موسكو على تنويع احتياطاتها لدى البنك المركزي والبالِغة حاليّاً نحو 454 مليار دولار، لدعم النقد الوطني، عمدت إلى شراء كمّيات من الذهب. ووفق معلومات مجلس الذهب العالَمي، اشترت روسيا في النصف الأوّل من العام 2018 نحو106 أطنان من الذهب بقيمة 78 مليار دولار، وفي الربع الثالث اشترت 92 طنّاً، وبذلك ارتفعت حصّة المعدن الأصفر الثمين في الاحتياطي الدولي الروسي إلى 2036 طنّاً، وهي كميّة جعلت روسيا تصعد إلى المرتبة الخامسة على قائمة الدول التي تمتلك أكبر كمّيات من الذهب، مع العِلم أنّ الولايات المتّحدة تتصدَّر القائمة في المرتبة الأولى، بكميّة 8133,5 طنّ، تأتي بعدها ألمانيا بـ 3369,7 طنّ، ثمّ إيطاليا بـ 2451,8 طنّ، وفرنسا في المرتبة الرابعة بـ 2436 طنّاً، ولا يُستبعد أن تتقدَّم روسيا على فرنسا، في حال استمرَّت في شراء الذهب.

مدفوعات التجارة

جاءت فكرة “فكّ الارتباط بالدولار”، على خلفيّة مُواصلة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب نَهج العقوبات، وتلويح الكونغرس بتشديدها، وازداد التركيز على هذه الفكرة بعد اتّخاذ عقوبات ضدّ شخصيّات روسيّة، تسبَّبت لهم بخسائر تزيد على 16 مليار دولار في يومٍ واحد؛ وبدأت الحكومة الروسيّة بوضْع خطّة عمل للبدء بالتنفيذ. وفي مطلع تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، أَوضحت في بيانٍ رسمي أنّ ” الحديث لا يدور حول التخلّي عن الدولار، ولكنّ الفريق المالي – الاقتصادي في الحكومة، يدرس مسألة التخفيف من ارتباط اقتصادنا بالعملة الأميركيّة، بما في ذلك توفير حوافز وآليّات للتحوّل في التجارة الخارجيّة نحو العملات الوطنيّة”. وفي الوقت نفسه، أعلن وزير التنمية الاقتصاديّة مكسيم أوريشكين أنّ “هذه العمليّة انطلقت في التبادُل التجاري مع الصين ودول أخرى”، مُشيراً إلى ” نموّ المدفوعات مع تلك الدول بالعملات الوطنيّة”. وقد وقَّعت روسيا مع الصين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي 10 اتّفاقيّات تجاريّة عكست رغبتها بتعزيز حضور مُنتجاتها في السوق الصينيّة، وإلغاء قيود تجاريّة صينيّة بوجه المُنتجات الروسيّة، وتمّ الاتّفاق معها على صيغة لاعتماد الروبل واليوان بين البلدَين، على أساس أنّ التعامُل بالعملات الوطنيّة سيُخفِّف بشكل كبير من المَخاطر المتّصلة بالعقوبات، وكذلك من ارتباط العلاقات التجاريّة بالدولار الأميركي.

وتسعى روسيا والصين للتعامل بعملتَيهما مع دُول تكتّل “البريكس” الذي يضمّهما مع ثلاث دول أخرى هي الهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، وخصوصاً أنّ لدى هذا التكتُّل فرصة ليكون أقوى تكتّل اقتصادي في العالَم. ووفق بيانات البنك الدولي، بلغ حجم ناتجه الاقتصادي نحو 16.5 تريليون دولار. وبلغت احتياطاته من العملة المُشتركة نحو 4 تريليونات دولار، تحقَّق نصفها في السنوات الأخيرة؛ فضلاً عن ذلك، يعمل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسيّة، بجانب بنك التنمية الجديد الذي أسَّسته المجموعة في العام 2014، كبديل واضِح ومُنافِس للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللّذَين تُهيمن عليهما الدول الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة.

البوّابة السوريّة

أثبتت التجارب ووقائع التطوّرات السياسيّة منها، وحتّى العسكريّة، على مرّ التاريخ، ولعقود عدّة خَلت، أنّ العلاقات الدوليّة تكون دائماً مرهونة باستخدام “الاقتصاد” من أجل تحقيق أهداف “السياسة”، مهما كان نوعها وتوجّهاتها. وعندما بدأت روسيا تدخّلها العسكري في سوريا في 30 أيلول (سبتمبر) 2015، كانت الاعتبارات السياسيّة محفّزها الأساسي، أكثر من تلك الاقتصاديّة. ولكنْ مع ترسيخ موطئ قدمها تدريجاً، وجدت أمامها فرصة كبيرة لتوسيع نفوذها. فالحرب السوريّة شكَّلت لها بوّابة العودة الى الإقليم والعالَم لاستثمار هذا النفوذ الكبير والقويّ لضمان مصالحها، وذلك تنفيذاً لنصيحة القيصر بطرس الأكبر (وهو من أعظم القياصرة الروس) منذ نحو 400 عام. وتقول النصيحة إذا أرادت روسيا أن تبقى أمّة قويّة عظيمة، عليها أن تُحقِّق ثلاثة شروط في سياستها الخارجيّة: أوّلاً، عليها أن تصل إلى المحيط الهادي، حتّى لو اضطرّت إلى الصراع مع الإمبراطوريّة الفارسيّة. ثانياً، عليها أن تصل إلى المياه الدافئة في البحر المتوسّط، حتّى لو اضطرّت إلى تقويض الإمبراطوريّة العثمانيّة. وثالثاً، عليها أن تُقيم أفضل العلاقات والتحالُفات مع سوريا، نظراً لمَوقعها “الجيوستراتيجي” الذي يربط قارّات آسيا، وأوروبا، وأفريقيا. لذلك تُعتبر سوريا أهمّ حليف استراتيجي لروسيا في المنطقة، منذ أكثر من ستّين عاماً، وتُدير موسكو من خلالها جزءاً مُهمّاً من سياستها الخارجيّة في الشرق الأوسط، وهي (أي سوريا) تمثِّل قاعدة مهمّة للمَصالح الاقتصاديّة والعسكريّة الروسيّة.

إنّ حوض البحر المتوسّط، هو بين المناطق “الأغنى” في العالَم بالغاز، ومَن يملك سوريا، يملك الشرق الأوسط، وبوّابة آسيا، ومفتاح بَيت روسيا (بحسب كاترين الثانية)، وأوّل طريق الحرير (بحسب استراتيجيّة الصين)، فهو يستطيع أن يتحكَّم بالنظام الاقتصادي العالَمي. ومن هنا يُمكن مَعرفة الأسباب الحقيقيّة لتمسُّك روسيا بوجودها في سوريا، وهي مُستعدّة لخوض حرب عالَميّة من أجل استمرار نفوذها والحفاظ على مصالحها في هذه المنطقة الحيويّة . ووفق تقرير المؤسّسة العربيّة لضمان الاستثمار، تصدَّرت روسيا قائمة أهمّ المُستثمرين في البلدان العربيّة بقيمة 32,8 مليار دولار في العام 2017. وفي هذا المجال يُمكن قراءة السياسة الخارجيّة الروسيّة على أنّها لا تقوم على المُواجَهة بقدر ما تطمح إلى أن تكون شريكاً فاعلِاً في النظام السياسي والاقتصادي العالَمي الذي يجري العمل حاليّاً على بلْورته وتشكّله. لذلك فهي تركِّز على اعتماد الصداقة في علاقاتها مع دول المنطقة. ويُلاحَظ أنّ قاعدة علاقتها مع إيران، والتعاون العسكري الثنائي، والنظرة التقاربيّة مع سوريا، والاستفادة من المُواجَهة الإيرانيّة – الأميركيّة، ومع تركيا، محورها الاقتصاد وخطوط أنابيب الغاز، والإشراف على مفاعلَين نوويَّين تركيَّين، وتنظيم الخلاف التركي- الإيراني حول سوريا. ومع السعوديّة، التنسيق في مجال النفط وضبْط إنتاجه، ولاسيّما أنّ البلدَين يتصدّران قائمة الإنتاج العالَمي بمعدّل 10 ملايين برميل يوميّاً لكلّ منهما. ومع إسرائيل، يشكِّل الأمن القومي فضاء روسيّاً وهدفاً في تفاصيل علاقاتها معها. وهكذا تُحاول روسيا الاستفادة من مظلّة الصداقة مع دول المنطقة، على الرّغم من وجود تناقضات كثيرة، وخلافات سياسيّة ونزاعات أمنيّة وعسكريّة بين هذه الدول.

تبقى الإشارة إلى أهميّة التنسيق القائم بين موسكو والرياض حول إنتاج النفط وأسعاره، والذي حصدت روسيا نتائجه بدخلٍ إضافيٍّ على موازنتها قُدِّر بنحو 30 مليار دولار في العام 2018، يُضاف إليه مبلغ 5,3 مليار دولار نتيجة انخفاض سعر صرف الروبل، الأمر الذي حوَّل هذه الموازنة من عجزٍ، كان مقدَّراً في بداية العام بنحو 23 مليار دولار، إلى فائض كبير يُعادل 2,1 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي. وما يزيد من إيجابيّة هذا الفائض، أنّه تحقَّق في وقتٍ يعاني فيه الاقتصاد الروسي من ركودٍ شديد، اعترف به الرئيس بوتين نفسه، من جرّاء العقوبات، بسبب أزمة أوكرانيا.

*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان

المصدر: نشرة أفق – مؤسسة الفكر العربي

Optimized by Optimole