لماذا فشل الإخوان المسلمون في مصر وتونس؟

لماذا فشل الإخوان المسلمون في مصر وتونس؟
Spread the love

الكتاب: “العودة إلى الظلال”.. الإخوان المسلمون والنهضة منذ الربيع العربي-
Return to the Shadows: The Muslim Brotherhood and An-Nahda since the Arab Spring-
المؤلف: Alison Pargeter آليسون بارغيتير-
الناشر: Saqibooks – دار الساقي – لندن – 2016 –

مراجعة: هادي نعمة* — تعرض الكاتبة “آليسون بارغيتير” في كتابها “العودة إلى الظلال”، مسارَ حركةِ الإخوان المسلمين في مصر، وحزبِ النهضة في تونس؛ إبان تبلور موجة الربيع العربي في العام 2011، إلى حين تقلّد هذين التيارين زمام السلطة. وترمي بارغيتير إلى تقييم هذين المسارين، بوصفهما تجلّـيًا لنشاط “الإسلام السياسي”– كما يصنّفه الغربُ العلماني؛ من خلال تدعيم وجهة نظرها حيال “الإخوان” و”النهضة”، باستشهادات من شخصيات فاعـلة داخل المجتمع العربي حيث تنشط حركة هذا الإسلام السياسي.

ثورة عفوية قام بها البسطاء
تقول الكاتبة إنه كان ثمة القليل ممّن توقّعوا ما كان سيحدث في تونس بعدما أضرم الشاب محمد بوعزيزي، ذو الستة وعشرين عامًا، النارَ في نفسه، في بلدة “سيدي بوزيد” التونسية الفقيرة. فقد انتشرت التظاهرات الغاضبة من “سيدي بوزيد” على طول حزام البؤس الممتـدّ من الداخل التونسي شمالًا نحو ولاية “جندوبة” التي لطالما عانت من الحرمان مقارنة مع البلدات الساحلية الغنية، مثـل سوسة والمنستير اللتينِ أرفدتا عادةً النخبة الحاكمة في تونس.
قامت ثورة تونس على السخط من البطالة والأسعار المرتفعة وصعوبة تأمين المعيشة. ووصلت التظاهرات إلى العاصمة تونس، يقودها أفراد الطبقة الوسطى كما أفراد الطبقة الفقيرة. فقد ضاق أفراد الطبقة الوسطى ذرعًا من الفساد المنتشر في الحياة السياسية والاقتصادية في تونس، ومن الأسلوب المافيويّ الذي اعتمده زين العابدين بن علي، في حُكم البلاد. ولقد دعمت اتحاداتُ التجار والأحزابُ السياسية والجيشُ التونسي، الحراكَ الشعبي الثائر ضدّ نظام بن علي.
لم تكن هذه الثورة صناعة آيديولوجيا معيّنة أو حركة معيّنة. فقد كانت تعبيرًا عفويًّا عن السخط من الأمر الواقع، وعن الرغبة في إحداث تغيير نحو الأفضل.

“النهضة” تستثمر في الانتخابات… وتفوز
لم تشارك “حركة النهضة” في الثورة بوصفها منظّمة. فبعض أعضاء الحركة داخل تونس شاركوا في التظاهرات، فيما أحجم آخرون عن المشاركة لأنهم كانوا لا يزالون مراقبينَ أمنيًّا.
لكن، بمجرد الإطاحة بنظام بن علي، في 14 كانون الثاني/يناير 2011؛ تحرّكت “النهضة” سريعًا لجني ثمار الثورة. ففي 29 من كانون الثاني/يناير 2011، عاد راشد الغنّوشي، زعيم حركة النهضة، إلى تونس، حيث لقيَ استقبالَ الأبطال. كان واضحًا أنّ الغنوشي يتمتّع برمزيّة استثنائية داخل تونس؛ فقد رأى فيه كثيرون شخصيةً نظيفة الكفّ ونبيلة، تمثّـل شيئًا من الخلاص.
وبعد مجيء الغنوشي؛ عمدت حركة النهضة إلى تنظيم نفسها. وبعدما أصبحت حزبًا معترفًا به من قِبل الحكومة الانتقالية في آذار مارس 2011؛ أنشأت الحركة مكاتب لها ومشاريع خيرية على مدى تونس. كذلك؛ بدأت تعدّ العدّة لانتخابات الجمعية التأسيسية التي ستقام في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه.
أعلنت حركة النهضة برنامجها السياسي الانتخابي تحت شعار “الحرية والعدالة والتنمية”. وأوردت أهدافًا كبرى، منها تأسيس نظام ديمقراطي يقوم على الحرية والكرامة وسيادة الدستور. كما تضمّنت كمًّا كبيرًا من الإجراءات التقويمية في مجالَي السياسة والاقتصاد.
وتقول الكاتبة آليسون بارغيتير إنّ برنامج “النهضة” لم يمثّـل أكثر من مجرّد قائمة طويلة من الوعود التي لم تُحاكِ الوقائع على الأرض… فقد كان هدفُ البرنامج الأوّلُ اجتذابَ الأصوات لصالح الحركة في الانتخابات.
اعتبر برنامج “النهضة” الإسلامَ مرجعيّةً عُليا للحُكم، وأشار إلى رغبة الحركة في تأكيد هوية تونس العربية والإسلامية.
وتقول الكاتبة إنّ حركة النهضة تعتبر نفسها امتدادًا للمدرسة الإصلاحية التي نشأت في البلاد في القرن التاسع عشر. واعتبرت الحركة أنّ الفكرَ الإسلامي في حاجة مستمرّة إلى التجديد لتواكب المستجدات الحياتية وتساهمَ فيها. بهذا البرنامج؛ أعلنت “النهضة” نفسَها حزبًا إسلاميًّا إصلاحيًّا تقدّميًّا.
ولقد شدّد الغنّوشي في أكثر من مناسبة على أنه لا يسعى إلى الرئاسة في تونس، وأنه يعتقد أنّ تونس في حاجة إلى حكومة وحدة وطنية تضمّ جميع التيارات السياسية. كما أخبر الغنوشي الإعلامَ العالميَّ أنّه إذا وصلت حركة النهضة إلى الحُكم، فإنها لن تحظّر الكحول أو تمنعَ النساء من الاستجمام على الشواطئ.
لكن، بحسب بارغيتير؛ لم يكن موقف الحركة وبرنامجُها الانتخابي منسجمين مع ما كان يحصل فعلًا داخل الحركة في ذلك الوقت. فقد كانت الحركة تسعى إلى المصالحة بين الفروع والتيارات الآيديولوجية التي كانت تحتويها. فقد شرح رياض شعيبي، عضو مجلس الشورى السابق والذي انشقّ عن الحركة في العام 2013؛ أنه بعد قيام الثورة في تونس، كانت ثمة اختلافات كبيرة في الرؤية داخل الحركة، بين مَن أرادوا تفريقَ الآيديولوجيا عن السياسة ومَن لم يريدوا ذلك.
وتقول الكاتبة إنّ رغبة حركة النهضة في الفوز في الانتخابات كانت أقوى من أي نية لديها لترتيب بيتها الداخليّ، أو لحلِّ قضاياها الداخلية الملحّة.
ولقد أجدى تركيز الحركة على الانتخابات. فقد فازت النهضة بتسعة وثمانين مقعدًا في الجمعية التأسيسية، ممثِّـلة بذلك 37 بالمئة من المقترعين، فتصدّرت بذلك أمام منافسيها بأشواط.
إلّا أنه لم يكن برنامج النهضة الانتخابي أو المُثـل التي نادى بها حيال انسجام الإسلام مع الديمقراطية، السببَ في فوزها الانتخابات، بحسب الكاتبة. بل كان الزخمُ الكبيرُ الذي شرعت الحركة فيه أثناء حملتها الانتخابية، بين حشود الشعب، هو السببَ في فوزها؛ إذ توجّهت مباشرة إلى البلدات والقُرى على مدى البلاد، وخاطبت الجماهير وجذبتهم إلى التصويت لها.
وقام راشد الغنّوشي بزيارة اثنتين وعشرين محافظة من أصل أربعة وعشرين، قبل الانتخابات؛ حيث لقيَ استقبالَ المشاهير بين حشود الشعب.
كذلك؛ لم تنسَ حركة النهضة البرجوازيين العلمانيين، فقد نجحت في اجتذاب بعض شرائح هذه الفئة الناخبة. كما عمدت الحركة، قبل الانتخابات، إلى تطمين الأفراد التابعين للنظام البائـد، بأنها لن تطاردهم أو تستهدفَهم.
لكنّ “النهضة” لم تحُـزْ أغلبية كافية في الانتخابات، تخوّلها القيام بالحُكم منفردة. لذا؛ دعت الحركة أحزابًا أخرى إلى ائتلاف تحُكم من خلاله مع نظيراتها… وبدت الحركة مستعدّة للشروع في مرحلة جديدة لامعة من تاريخها.
بذلك كلّه؛ طرحت حركة النهضة نفسها بديلًا نظيفًا جديدًا، قادرًا على استعادة وقار تونس.

قيادة اسـتـئثارية شمولية… فاشلة
لم يطل الوقت قبل أن بدأت التشقّقات تظهر في صفحة حركة النهضة السياسية. فمنذ البداية؛ انتُقِدت الحركة لمحاولاتها الهيمنة على الساحة السياسية. بدأ ذلك مع تعيين الحكومة؛ بمعزل عن كل ادّعاءات “النهضة” للتوافق في الحُكم، كان المشهد سعيًا لتكون “النهضة” وحدها في المقدّمة.
تمّ تعيين العضو المخضرم في حركة النهضة الذي أمضى سنينًا في السجن، حمادي جبالي، رئيسًا للوزراء. وكانت السلطة مركَّزةً في يد “النهضة”. فقد مرّرت الجمعية التأسيسية دستورًا مصغّرًا يُعمل به في الفترة التمهيدية إلى حين تبنّي دستورٍ دائمٍ للبلاد. تقول الكاتبة إنّ هذا الدستور المصغّر أعطى سلطة كبيرة جداً لرئيس الوزراء على حساب رئيس الدولة الذي تقلّص دوره بشكل ملحوظ.
وفي ما بدا النقيض لما ادّعته “النهضة” من توافق في الحُكم منذ أن قامت الثورة؛ استأثرت الحركة بجميع الحقائب السيادية تقريبًا. وقد اتهِمت “النهضة” بانتهاز ضعف شركائها في السلطة لتعزيز قبضتها على الحُكم. وبرّرت الحركة قبضتها على الحُكم بأنها قد فازت في الانتخابات، وبأنه يحق لها تقلّد المناصب المهمّة في الدولة كونها عانت ما عانته في ظل النظام البائد.
بدا للبعض كأنّ الغنوشي هو السلطة الحقيقية وراء الستار. وقد اعترف حمادي جبالي بأنه لم يكن حرًّا في صناعة القرار، إذ قال: “لم أكن حرًّا في اختيار الوزراء؛ ولم أكن حرًّا في القيام بما أراه مناسبًا”.
وظهرت عورات “النهضة” أمام الشعب. وازدادت الأمور سوءًا بالنسبة إليها. وقد بدا برنامج “النهضة” السياسي والاقتصادي الواعد، مجرّدَ وعود جوفاء. وعانت الحركة من افتقارها الكامل إلى رؤية سياسية حقيقية حيال كيفية إدارة الفترة الانتقالية.
وتقول الكاتبة إنّ صناعة القرار لدى “النهضة” اعتمدت بشكل كبير على تجربة الخيارات بدلًا من الخطط الواضحة. ووجدت الحركة سريعًا نفسها في مواجهة معارضة صلبة عدائية مصممة على عرقلة خطواتها عند كل مفترق. فقد أساءت “النهضة” فهم مدى قوة المعارضة، خاصة بعدما أظهرت الانتخابات النسبة القليلة التي حظيت بها هذه المعارضة من الأصوات. وعلمت الحركة أنّ مسألة الحُكم أعقد وأصعب بكثير ممّا كانت تتوقّع.
وفي التاسع من نيسان/إبريل 2012؛ عندما احتشد الآلاف في تونس العاصمة لإحياء ذكرى الذين قتِلوا أو جرحوا خلال تظاهرات العام 2011، اعمدت قوى الأمن العنف المفرَط وغير المبرَّر لتفريق المتظاهرين؛ في حين خرجت شكاوى عن أنّ رجال في زيّ مدنيّ اعتدوا على المتظاهرين في حين لم يحرّك رجال الشرطة، الشاهدينَ، ساكنًا حيال ذلك. وبعد أن لم تقم سلطة الغنوشي بأيّ مسعًى جدّيّ لجلب المعتدين إلى العدالة، مع كون التحقيقات في الحادثة غير مؤدية إلى أمر رشيد؛ بدأ يظهر اقتناعٌ بأنّ النهضة كانت تتصرّف مثل نظام بن علي البائد!
وبدا أن رؤية “النهضة” الاقتصادية كانت مجرّد سراب. فقد اعتمدت الحركة الأجندة النيوليبيرالية ذاتها التي اعتمدها قبلها نظامُ بن علي، جاعلة الطبقات الاجتماعية الفقيرة، التي غـذّت الثورة، على الهامش من جديد. فانقلب فقراء المناطق الداخلية ضدّ الحركة؛ فنُظِّمت إضرابات متكررة في نواحي البلاد في آب/أغسطس 2012، واندلعت تظاهرات غاضبة في “سيدي بوزيد” ضدّ فشل الحكومة في كشفِ كُرب الأحوال الاقتصادية.
وبعد ذلك بأربعة أشهر؛ انتفضت بلدة “سيليانا” غاضبة على انعدام فرص العمل والاستثمارات. وَحَدَا الردّ القاسي للقوى الأمنية على المتظاهرين، هؤلاء على أن يتّهموا حركة النهضة بإعادة إنتاج مسلك نظام بن علي.
إلى كل ذلك؛ عمدت “النهضة” إلى إعطاء تعويضات مالية لحوالى 20 ألف معتقل سياسيّ سابق، معظمهم من الإسلاميين—ما حدا بوزير المال، المستقلّ، حسين ديماسي، على الاستقالة في تمّوز/يوليو 2012.
وثبت أنّ سياسة “النهضة” جوفاء لا جدوى منها. فبعد سنة ونصف في الحُكم، خسرت الحركة ثقة جمهور الشعب.

حركة تصحيحية بسيطة… مبدؤها “الإسلام”
تذكّرُ الكاتبة آليسون بارغيتير بأنّ حركة “الإخوان المسلمين”، التي أسسها حسن البنّا في العام 1928؛ نشأت على نحو ردّةِ فعل تجاه الوجود الاستعماري في مصر، وكذلك تجاه الأزمة التي خلّفها زوال خلافة الإمبراطورية العثمانية. وكان البنّا كثيرَ الانشغال في كيفية تقويم ما اعتبره انحلالًا أخلاقيًّا في المجتمع. فاعتمد، لمعالجة ذلك، أفكارَ علماء القرن التاسع عشر الإصلاحيين، أمثال رشيد رضا ومحمد عبده؛ فنادى برسالة بسيطة مؤدّاها أنّ السبيل الوحيد الذي يقدر العالم الإسلامي به على مواجهة تحدّيات الحداثة ومفاهيم الغرب، هو العودة إلى القيم الأصيلة والسليمة لصدر الإسلام.
فكانت أفكار حسن البنّا تتجلّى في إسلام واضح وبسيط… مفاده أنّ الإسلام يؤمّن منظومة قِيم وحُكم شاملة تستطيع أن تـثمر تجدّدًا اجتماعيًّا وأخلاقيًّا—فكان الشعار المشهور لجماعة الإخوان المسلمين: “الإسلام هو الحلّ”.
ركّزت حركة الإخوان المسلمين، بوصفها حركة تصحيحية، على تثـقيف وتحسين الفرد والأسرة، معتبرة ذلك أفضلَ وسيلة لتحضير المجتمع لتلقّف وتقبّل قيام دولة إسلامية. وتشير الكاتبة إلى أنّه في هذا السياق، قال سيّد قطب، أحدُ أبرز مفكّري “الإخوان”: “إنّ هدف الحركة تثقيف المسلمين حتى لا يكونوا أمثال جمال عبد الناصر”، الرئيس المصري ذي الوجهة العلمانية.
وثبت أنّ رسالة البنّا كانت قوية، فبدأت حركة الإخوان المسلمين بالانتشار في مصر وخارجها… وكان لتدّخل حركة الإخوان في السياسة أثــرٌ في نشوء صراع بينها وبين الدولة.

“الإخوان”، وتتالي الحكّام…
في العام 1948؛ حظرت المَلَكية الحاكمة في مصر حركةَ الإخوان المسلمين التي انخرط جناحُها السريّ في أعمال عنف ضدّ جنود الاستعمار البريطاني، وعددٍ من الشخصيات البارزة. كذلك؛ تصادم نظامُ الرئيس جمال عبد الناصر، العلماني الحداثويّ، منذ استتباب أمره إثر انقلاب عسكري في العام 1952، مع نشاط حركة الإخوان. فقد اعتبر عبد الناصر أن “الإخوان” حركةٌ معارِضة رجعيّة. وبعد محاولة اغتيال فاشلة ضده، تعامل عبد الناصر بقسوة مع الحركة، معتقِلًا أعدادًا كبيرة من كادرها، ما كاد يؤدّي إلى زوالها.
وكان في تلك الفترة بالتحديد، بحسب الكاتبة، بدءُ نشوءِ الأفكار الراديكالية داخل الحركة. فقد كتب سيّد قطب “أنّه من أجل تحقيق الدولة المثالية، أو “الحاكميّة” (أي حكم الله على الأرض)، فإنه يجب أن يُسمح للفئة القليلة التي تفهم مراد الله، بأن تنفّـذ قوانينه وناموسَه”… وهذا، بحسب قطب، سيجنّب المجتمع الجاهليّةَ، وسيُرسي انتظامًا أخلاقيًّا مناسبًا في صفوف الناس.
ومع وصول الرئيس الراحل أنور السادات إلى الرئاسة، في العام 1970؛ بدأت عودة “الإخوان” إلى الحياة السياسية والاجتماعية من جديد. فقد اعتبر السادات أنه في صالحه أن يستخدم “الإخوان” للموازنة مقابل خصومه اليساريين والناصريين؛ فعمد إلى إطلاق سراح عدد من أفراد الحركة من السجن. ولقد أحدثت الصحوة الإسلامية إبان الثورة الإيرانية في العام 1979، موجةً من الحماس الإسلاميّ الذي كان بمقدور حركة الإخوان المسلمين الاستفادة منها. وبالفعل، انضمّت أعدادٌ كبيرة من الطلاب الإسلاميين إلى حركة الإخوان.
ومع وصول الرئيس حسني مبارك إلى السلطة، في العام 1981؛ كانت حركة الإخوان المسلمين قد تطوّرت لتصبح قوّة معارضة بارزة. عمد نظام مبارك إلى اعتقال متواصل لأفراد من “الإخوان”، إلّا أنّه سمح للحركة بتشغيل شبكاتها الخيرية الاجتماعية، وبإدارة مساجدها ومصالحها التجارية وشركاتها. كما سمح لها، في بعض الفترات، بأن تتقلّد مناصب بارزة في الاتحادات والهياكل العمّالية. إلى ذلك؛ كثيرًا ما ظهر قياديو “الإخوان” في الإعلام، ما عزّز توسيع القاعدة الشعبية للحركة، حتى باتت أشبه بدولة ضمن دولة. بالتالي، تجذّرت أركان حركة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري.
وفي تسعينيات القرن العشرين، سُمح للإخوان بأن ينافسوا في الانتخابات النيابية، مع أنهم كانوا يُجبرون على الترشّح مستقلّينَ أو ضمن تحالف مع أحزاب أخرى. وبحسب الكاتبة، كان “الإخوان” دائمًا مستعدّين للتأقلم مع النظام الحاكم، كي يستمرّ وجودهم على الأرض بين الناس، وبالتالي أن يمضوا في تطبيق هدفهم في تطوير الفرد.
وتقول الكاتبة إنّ حركة الإخوان المسلمين سعت لكسب ودّ المجتمع الدولي؛ باذلة جهودًا كبيرة لتجعل نفسها مقبولة لدى القوى الغربية. وكانت هذه الجهود تجري في خضمّ الضوء الإعلاميّ الذي سُـلِّطَ على الحركات الإسلامية في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة.
وفي بداية القرن الحادي والعشرين؛ سوّقت الحركة نفسها على أنها حركة معتدلة قادرة على الحراك في إطارٍ تعدّديّ وديمقراطي. إلّا أن الواقع، بحسب الكاتبة، هو أنّ الحركة كانت قد باتت مقيّدة، عبر السنوات، بنمطِ تعايش مع النظام الحاكم… فكانت نتيجة ذلك حراكًا سياسيًّا أجوفَ للإخوان، لا فائدة فيه.
هذا الركود كان بدأ يُضعف الحركة التي شهدت نشوءَ أزمة داخلية قُـبَيلَ بدءِ الحراك الشعبيّ في العام 2011. فقد كان ثمة تيّار محافظ، داخل الحركة، يعتبر أنّ النضال لدخول الساحة السياسية لم يُفضِ إلى أمر ذي قيمة للإخوان. هذا التيّار كان قد عزّز هيمنته على قيادة الحركة، مع حلول العام 2010؛ وقرّر أنه آن الأوان للتركيز على النشاط التقليديّ للحركة في الوعظ والتثقيف.
“الإخوان”… في طليعة الثورة!
لم يكن مفاجئًا، بحسب الكاتبة، تردّد الإخوان حيال المشاركة في الحراك الشعبيّ في 25 كانون الثاني/يناير 2011. ففي 11 كانون الثاني/يناير؛ أعلنت الحركة أنها لن تشارك في التظاهرات المقرّرة ضدّ نظام حسني مبارك. ولم تكن الحركة مستعدة للخوض في أي شيء يعرّضها لثأر قوى الأمن.
إلّا أنّ الحركة لم تُـرِد أن تبقى كليًّا خارجَ إطار الحراك الشعبيّ… فقد كانت تريد أن تؤدّي دورًا في بلورة مستقبل مصر. فكان الشباب من أفراد الحركة، الذين انسجموا مع أجواء النشاط الشبابي المعارض على الأرض، يحثّـون قيادة الحركة على المشاركة في الحراك الثائر. فقرّرت الحركة اعتماد مقاربة تتجنّب المخاطر؛ إذ رفضت تبنّي الحراك الشعبيّ كمنظّمة، لكنّها سمحت لعدد من أفرادها بالنزول إلى الشارع منفردين للمشاركة في التظاهرات.
وعندما رأت الحركة ضخامة الحراك الشعبيّ وتوسّع التظاهرات خارج نطاق القاهرة؛ أصدرت بيانًا أعلنت فيه أنها ستشارك في تظاهرات “جمعة الغضب” التي كانت مقرّرة في 28 كانون الثاني/يناير. فشاركت في التظاهرات في ذلك اليوم والأيام التي تـلته ولا سيّما تظاهرة الملايين في الأوّل من شباط/فبراير. لقد فهم الإخوان أنّ التظاهرات باتت تمثّـل فرصة فريدة للنفوذ السياسيّ للحركة، وأنه حان الوقت لقطف ثمار الحراك الشعبيّ.
كانت الحركة ذكيّة كفاية أن تدرك أنه لا ينبغي لها أن توسم التظاهرات بالطابع الإسلامي. فقد قال القياديّ البارز في الحركة، رشاد البيّومي: “نحن سنبقى في الظلّ كمنظّمة… ولن نمشي في التظاهرات منادينَ بشعاراتـنا”. كانت الحركة تلعب بذكاء، إذ تُمِدُّ الحراك الشعبيّ بأعداد المتظاهرين، وفي الوقت عينه تتجنّب أن يُصوَّر الحراكُ على أنه اندفاعة تيار إسلاميّ نحو السلطة.
فكان لحضور “الإخوان” دور محوريّ في الحراك الشعبي؛ إذ أوقف أفرادُ الحركة “بلطجية” النظام، الذين بُثـوا لإرباك الحراك الشعبي. وكان أفراد الحركة المدافعين الأوَل عن الحاضرين في ميدان التحرير.
فمع كون حركة الإخوان المسلمين، بوصفها منظّمة نشطة، كانت متردّدة حيال الحراك الثوري ضد نظام مبارك؛ فإنها عادت لتكون شريكًا جوهريًّا في النضال الشعبيّ الذي كان إرهاصة بداية النهاية لحُكم نظام مبارك. فمن الآن فصاعدًا، بات “الإخوان” في مقدّمة قيادة دفة الثورة.

الحركة تتخبّط في السياسة
كان تولّي القيادي في حركة الإخوان المسلمين، محمد مرسي، رئاسة الجمهورية المصرية، في 30 حزيران/يونيو 2012؛ بمثابة محطّة خطيرة للحركة. ففي غضون أشهر، انتقلت الحركة من كونها منظّمة معارضة في الخفاء، إلى قوّة منتخَبة ديمقراطيًّا، مقلَّدةٍ قيادة مصر في لحظة سياسيّة حسّاسة من تاريخها المعاصر.
ولقد بشّر انتصار “الإخوان” بالإتيانِ بمشروعٍ طابعُه الإسلام إلى الواجهة… فالحركة وصلت أخيرًا إلى ملاقاة مآل مصيرها.
وكان محمد مرسي قد أعلن أن الحركة ستعيد غزوَ مصر إسلاميًّا؛ وأنها ستـؤسّس لدولة إسلامية في مصر، تقوم على المبادئ ذاتها التي قامت عليها دولة الإسلام التي تأسست في المدينة المنوّرة في صدر الإسلام. لكنّ الواقع بدا أقلّ بريقًا!.
تقول بارغيتير إن ثمة القليل ممن توقّعوا كم قصيرةٍ ستكون فترة حُكم مرسي! فقلّة كانوا متيقّنين من أنه بعد عام واحد فقط من الحُكم، ستُـدفع الحركة إلى خارج الساحة السياسية، وأنها ستفشل كل الفشل في إدارتها دفة البلاد.
تقول الباحثة إنّ حركة الإخوان المسلمين فشلت في مواجهة التحديات المحيطة، المتمثّـلة في إرساء حُكم سياسيّ فاعل في العصر الحديث. فقد وصلت الحركة إلى السلطة من دون أن تكون لها رؤية مستقبلية واضحة وممنهجة، ومن دون وعي حقيقيّ للإطار العامّ التي كانت تعمل ضمنه… فكانت المنظّمة تمشي عمياءَ نحو المجهول. وتستشهد الكاتبة بكلام لأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، عمرو موسى، إذ قال: “إنّ مجيء الإخوان إلى السلطة كان بمثابة مفاجأة حتى لهم!”.
اعتمدت الحركة سياسة رجعيّة فيما كانت تتخبّط في طريقها إلى مواجهة التحديات التي طالتها من كل حدب وصوب. وحاولت الحركة، بعشوائية، إرضاءَ كافة الأطراف وهي تعالج مشاكل البلاد، من دون أن تكون لها وجهة واضحة في تنفيذ سياساتها. فبدا أنّ الآمال السياسية والإسلامية للحركة ذهبت سُـدًى، إذ لم تقدر على أكثـر من شعارات وعموميّات لا يمكن ترجمتها إلى وقائع ملموسة.

مشروع “النهضة”.. رؤية فارغة!
تقول الكاتبة إنّ حركة الإخوان المسلمين لطالما وجدت صعوبة في شرح وتبيان أفكارها ومفاهيمها. ولطالما أجادت الحركة التعبيرَ عن معارضتها لأمر واقع أكثـرَ من بلورة رؤية للحُكم تستند إلى مبادئها. فالأرضية التي بنت الحركة عليها رؤيتها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كانت غامضة ومتناقضة، ومملوءة بالمفاهيم غير الواضحة والمفتقرة إلى سياسات ذات حلول واقعية.
وتشير الكاتبة إلى أنّ الحركة عانت حتى في المستوى الأساسي من طرحها للحُكم، فالحركة لم تقدر على تبيان مرادها من طرحها لإدارة دولة مدنية مقترنة بمبادئ إسلامية. فالكثير من مناصري الحركة دعموها لا بفعل سياساتها، بل بفعل كونها حركة اجتماعية-دينية وقوة أخلاقية في المجتمع.
ومنذ أن أوصلت الثورة حركةَ الإخوان المسلمين إلى العلن، ومع اقتراب موعد الانتخابات؛ كان على الحركة إقناعُ المعارضة العلمانية والغرب اللذين كانا مرتابينِ حيال نواياها وقدراتها، بأنها على مستوى القيام بأعباء الحُكم. لذا؛ كانت الحركة في حاجة إلى خطّة كبرى أو برنامج انتخابيّ يوازي ضخامة التغيّرات الحادثة في مصر وفي المنطقة.
فلجأت الحركة إلى مشروع “النهضة” التي نادت به. لم يكن هذا المشروع مبادرة جديدة؛ فهو من بنات أفكار القيادي في الحركة، خيرت الشاطر، وكان يُحضّر له منذ سنين. ومع اندلاع الثورة، كان من الواضح أنّ هذا المشروع لا يزال في المراحل الأولى من بلورته. وكما اعترف الشاطر بنفسه، في نيسان/إبريل 2011: “مسألة مشروع النهضة، يا إخواني، ليست بالبساطة التي يوحي بها عنوانها”.
في تمّوز/يوليو 2012، بعد أن انتُخِب محمد مرسي بناءً على طرحه مشروع “النهضة”؛ أعلن الأمين العام محمد حسين أنّ الحركة قد بدأت للتـوّ ببلورة مشروع “النهضة”، فهو ليس مكتملًا بعد، بل ينبغي أن يجتمع أخصائيون لجعله طيّعًا ليكون صالحًا للتنفيذ على مستوى مصر!
ينبني المشروع على مبدأ تمكين الشعب، ليقرّر مصيره بيده؛ فهو يعد بإرساء القيم المثـلى والعِلم والفِكر في المجتمع، وبإحلالِ دولة تتيح لمواطنيها التعليمَ والطبابة والعمل والاستثمار وفرص إنشاء المصالح التجارية؛ إلى حماية حقوقهم وكرامتهم داخل وخارج البلاد.
كذلك؛ كان مشروع “النهضة” يقوم على مبدأ “الخلاص”. فقد كان تركيز كبير على تخليص الشعب المصري من الفساد الذي هو عليه، وسَوقِه إلى طريق التوبة من المستنقع القذر الذي كان قد وقع فيه.
وكانت الحركة قد شرحت أنّ مشروع “النهضة” يمثّـل التطبيق العمليّ لشعارها “الإسلام هو الحلّ”؛ إلّا أنّه كان ثمة القليل من التفاصيل العمليّة حول كيفية تطبيق الحركة لرؤيتها الخلاصية هذه.
وتقول الكاتبة إن ثمة الكثير من المصريين الذين اعتبروا مشروع النهضة محيّرًا ومهينًا. وتستشهد بكلام للمفكّر الإسلامي المعروف، محمد سليم العوّا، قال فيه: “هذا المشروع لا يحترم عقولنا. هم يبيعوننا فراغًا! فالمرشّح الذي يقول لنا إنه سيطبّق مشروعًا نهضويًّا في غضون أربعة سنين فقط، لا يحترم عقولنا؛ فنحن لا نستطيع تغيير بلدنا في أربع سنين”.
وفيما وجد البسطاء من المصريين في محمد مرسي رجلًا بسيطًا صادقًا، وواحدًا منهم؛ فهو كان بالنسبة إلى كثيرين آخرين لا يعدو كونَه مصدر إحراج. وتنقل الكاتبة سخط النخبة المصرية على لسان البروفيسور في الجامعة الأميركية في القاهرة، منى مكرم عبيد، إذ تقول: “شعر المصريون بالإهانة عندما رأوه. هل يُعقل أن يكون هذا الرجل رئيسًا لمصر؟! نحن نتكلّم عن دولة عريقة كمصر ذات التسعين مليون نسمة، وسبعة آلاف سنة من الحضارة!…”.
ولقد سخِر الإعلام من محمد مرسي شـرّ سخرية، فانتقده بلا رحمة لافتقاره للدماثة وعنصر القيادة. وتنقل الكاتبة عن الأمين العام لحزب البناء (الذراع السياسي للجماعة الإسلامية) قوله: “الإعلام جعل من محمد مرسي حفنة لحم مفروم”!
لذا؛ فإن “الإخوان المسلمين” لم يتولَّوا قيادة مصر بلا رؤية واضحة لما ينبغي تحقيقه فحسب؛ بل كذلك بلا رئيس ذي شخصية كاريزماتية.

هادي نعمة كاتب وإعلامي لبناني.

المصدر: الميادين نت