ياسم خندقجي: الرواية الفلسطينية من وراء القضبان

ياسم خندقجي: الرواية الفلسطينية من وراء القضبان
Spread the love

شؤون آسيوية – بقلم: غنوة فضة/

مع مطلع العام القادم يمضي الأديب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي (1983) عامه العشرين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وبعد اعتقاله في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لم يتوقف عن التقدم الأكاديمي والأدبي، بل أصدر أربع روايات دفعت وسائل الإعلام لتسليط الضوء على كتابةٍ تُمعن في المقاومة تأكيداً على حرية القضية التي يحملها، والمطالبة بحقّ الفلسطينيين المسلوب على أرضهم. بنصوصٍ مملوءة بالسخط والغضب، لا يتوقف الكاتب عن انتقاد التاريخ، وكشف التزوير والممارسات الإسرائيلية بحق المناضلين، ويفضح شكل العنصرية الذي يكرسه العدو على الأرض المحتلة.
وفي روايته الأخيرة “قناع بلون السماء” (دار الآداب 2023)، تتكشف لنا ثقافة الكاتب وأبحاثه الدقيقة في سبر عوالم الحكاية، إذ تسهم الإشارات التاريخية، وبحثه العميق في الأماكن والوقائع والشخصيات في رصد ما يقاسيه الفلسطينيون. ولا تطل هنا صورة الأسير القابع خلف جدران الزنزانة الإسرائيلية، بل يشرع خندقجي الأبواب على حريةٍ غير مألوفةٍ؛ حريةٍ تمنحها الكتابةُ، وتناقش فكرة الدخول إلى عمق الأراضي المحتلة لغاية الكشف عما يجري عبر أروقته. وهنا نسقٌ روائي يوظف التخييل، ويدفع بالبطل “نور الشهدي” ابن المخيمات في رام الله، إلى انتحال شخصية شاب إسرائيلي، هذا الانتهاك الذي تدعمه ملامحه الأوربية من شعر أشقر وعيون زرقاء بلون السماء، إضافة لانغماسه اليومي بالوحدة التي يكتنفها الصمت.
الرواية عن شاب فلسطيني تصنعه ظروف العيش في المخيم، ونستطيع القول أن العامل الأكبر الذي أثر في تكوين عوالمه الروائية هو الصمت؛ من صمت أبيه الأسير المحرر، والذي صاغه استسلامُ قادة الحركات المقاوِمة وخيانتهم، وصمتُ أمه التي توفيت إثر ولادته، إضافة إلى صمته المذعن حين أُسرَ صديقه مراد، وذلك الصمت الذي يبدو أزليا خلال ذهابه مع والدة صديقه لزيارته كل شهر في سجون الاحتلال. إلا أن ميله لمراسلة رفيقه بتسجيلات صوتية، وولعه في دراسة الآثار، يدفعه للوقوع فريسة الأسرار المتعلقة بحكاية المجدلية، إذ لطالما كان حلمه التنقيبُ في تلال تل مجدو؛ قرية مريم المجدلية الواقعة غرب طبريا، وكأنه باستعادة قصتها، يستعيد الاضطهاد الذي يحياه الفلسطينيون، عبر إسقاطٍ يوظف مأساتها لتكشف عن مقدار الظلم الذي يمارَس كل يوم على الأراضي المحتلة.
تحضر البلاد المسلوبة في عوالم نور الشهدي، وتكشف مراسلاته عن هوسه في كتابة رواية عن أسرار المجدلية. يسكنه شغف عميق في الذهاب إلى القدس، ويبيت هناك لدى شيخ متصوف إبان المظاهرات اليومية بين أهالي حي الشيخ جراح وقوات الكيان. من غير أن تغادره الرغبة في إحياء قصة الاضطهاد القديم، ويساعده في ذلك عثوره على هوية مواطن إسرائيلي في جيب معطف مستعمل، وهو ما يسمح له، إلى جانب إتقانه للعبرية والإنكليزية، بالتسلل إلى عمق المستوطنات، وإلى مركز مستوطنة “مشمار هعميق” المشيدة على أنقاض قرية أبوشوشة المهجرة. وهناك يستخدم هويته المزيفة كقناع، ويسجل في معهد للتنقيب عن الآثار في تل مجدو. لنطلع هناك على كثير من المعارك الصامتة التي تدور بين “نور الشهدي” و “أور شابيرا”، وكأنهما ضدان ينهمك كل منهما في سحق الآخر. وهنا نسق يمنح الفرادة لجهة خلق الجدال بين المستعمِر والمستعمَر، إذ لا يتوانى نور عن كشف استثمار الحركة الصهيونية للهولوكوست وتحويله إلى منظومة أرخت للتطهير العرقي، وشرعنت الاحتلال، وهو ما يتجلى في قول أور شابيرا: “أخشى من اختفائي أنا إذا أصبحت أنت إنسانا” وفي ذلك رمزية تشير إلى الوجود الإسرائيلي القائم على التزوير، وسفك الدماء، والذي لا استمرار له طالما يوجد فلسطيني على قيد الحياة.
يستثمر نور خلال تواجده مع البعثة بهوية أور شابيرا، وبما حصّلهُ من معارف تاريخية وآثاريه، لكنه يشيح عن نصائح صديقه في ترك بحثه والاهتمام بقضية الحفريات في المسجد الأقصى وهدم بيوت حي الشيخ جراح. إذ يبدو منهمكا في البحث عن أصل الاضطهاد. لا بكائيات في بحثه، ولا سرديات تندب؛ بل حكاية تدفع للتفكير في أصل الحق وقوته، من غير أن يكون السجن محورها، إنما يخرج خندقجي ليطرح أسئلته الكبرى حول التزوير الذي طال المجدلية في الرواية الغربية، ودور الغرب في إقصاء دورها التاريخي واستلاب مكانة المرأة في الديانة المسيحية، وهو ما يحدث كل يوم مع الشعب الفلسطيني على أرضه المحتلة، وهو كذلك الأمر ما يدفعه للشعور بالمتعة الهائلة في نجاحه بتمرير شخصية أور شابيرا، ذلك القناع الذي يمنحه الاكتفاء لممارسة انتهاكٍ على الأرض المحتلة، وهو انتهاكٌ للآخر الذي انتهكهُ مذ ولدَ من رحم المخيمات.
يتعرف نور خلال البعثة إلى سماء اسماعيل، طالبة جامعية فلسطينية، تدهشه قدرتها على إظهار رفضها العلني للصهاينة المرافقين. يحلم بوجهها خارجاً من بئر المجدلية، ويحاول التقرب منها وحمايتها من مضايقات آيلا اليهودية؛ إذ تجري بينهما مماحكات تسمح للالتزام بخطاب مناهضة الاستعمار بالظهور علناً، إلا أن القناع يمنعه من الاقتراب منها، وهو ما يشعره بالاغتراب، ويسهم في تأجيج شعوره بخسارة ظله الحقيقي، وهو اغتراب يسيطر على شخصية نور الشهدي، لكنه في الوقت نفسه يرفض الهروب، يرفض هروب المجدلية من اضطهاد بطرس، وهروبه من المخيم، وهروب أبيه من خذلان رفاقه. هكذا يسهم وجود سماء بزيادة شعوره بثقل القناع، وكأنه به فقدَ صوته وظله، وفقدَ حريته حتى في الحب تجاهها. ذلك الشعور بالاغتراب، والصمت المطبق الذي فرضته هوية أور شابيرا عليه يدفعانه ليكشف عن هويته أمام سماء، لتنتهي البعثة عند ازياد المواجهات بين المقاومة والاحتلال، ويغادران مغامرةً عمدت إلى التحايل على قيمة الملامح لدى الصهاينة، تلك القيم التي تستمد معانيها من العنصرية، والأحقية الإلهية، والأحكام المسبقة، والتي لا خلاص منها إلا بالمقاومة والوعي الحقيقي بالقضية.

غنوة فضة روائية وكاتبة من سوريا.