تأثير العنف المرئي على الصحّة العقلية والنفسية

تأثير العنف المرئي على الصحّة العقلية والنفسية
Spread the love

شؤون آسيوية – بقلم: كارمن جرجي*/
واقع كبير، مُشاهدٌ صغير مرآةٌ للعنف المرئي
أقدامٌ صغيرةٌ ترحل حافية، أحشاءٌ تخرج من أثوابها تَهْلِس احتضاراً، وجوهٌ مصبوغة بالموت، أطفالٌ تائهة تناجي الرحيل لينتشلها من الجوع والصقيع والخوف والحزن، أمهات أثكلها الفيْظ، ورجال مُتَهَدِّلةٌ صرعها العَسْف. هَيْعَةٌ، نَشيجٌ، عويلٌ، واستجداء، جلْجلة الشوارع، قَعْقَشَةُ الأبنية، وَئيدُ الجدران، وصدى جَرْسَةِ الأرض…
صوت الدمعِ وفوادحٌ تُنَكَّسُ لها القلوب، تتجسّدُ في صورٍ ومقاطع فيديو على عدد الأرواح التي تُزهق، تتسلّل الى مخادع الصغار والكبار من مختلف الأعمار والأوساط الإجتماعية. مشاهدٌ عنيفة لا تنحصر بمكان وزمان، تعكس أعمالاً عسكرية يمارسها أمراء الحروب، وتسلِّط الضوء على التعسُّف والإجرام وعلى الأهداف التوسعية للبلاد التي تهيمن فيها الحكومات المتسلِّطة.
في الوقت الراهن إنّ الحرب الدائرة حالياً أصبحت متعدِّدة الأبعاد، تعكس مآسٍ إتّسع نطاقها ليطال مجتمعات مدنية بأكملها وتتسبَّب بمعاناة واضطراب على الصعيد النفسي لدى الكثيرين، حيث يستغرق الآباء والأمهات ساعات طويلة يومياً في متابعة تفاصيل وتداعيات ما يجري. هنا لا بدّ من الإنتباه لما لمشاهدة الأخبار من نتائج سلبية على الصحّة العقلية والنفسية إذ تُؤثر على البالغين وعلى جميع أفراد العائلة وخاصة الصغار.
إنَّ رؤية التقاتل والأسلحة والإنفجارات والمصابين والدماء والبكاء والمشاهد المؤثرة لا يمكن أن يمضي دون أيّ أثرٍ، فذلك له عواقب خطيرة لا بدَّ أن تتجلّى شيئاً فشيئاً إذا استمرَّ الجوّ العام في البيت على هذا النحو أو لفترة زمنية طويلة.
إنَّ تعرُّض الأولاد لهذا النوع من الأخبار لا يقتصر على ما يتداوله الأهل ويشاهدونه أمامهم على شاشات التلفزة، إذ أصبح كلّ شيء متاحاً أمامهم في ظلّ توفّرالأجهزة الإلكترونية المتصلة بالإنترنت وانتشار الأخبار على معظم الصفحات، فمن الواضح أنّه لا بدّ من وصول أهوال الأحداث إليهم مهما حاولنا حمايتهم منها والحؤول دون ذلك، وأحياناً تصل إليهم بطريقة مضخّمة، عارية عن الصحّة ودون رقابة من قبل إعلامٍ مبرمج.
في هذه الحالة، ما العمل؟ وما هي المخاطر والنتائج السلبية التي يمكن أن تنجم عن متابعة تفاصيل خريطة المشاهد؟ وكيف يمكن تجنُّبها؟
تُؤكِّد الدراسات العلمية التي أُجرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة أنَّ نسبة مشاهدة المحطات التلفزيونية ومنصات التواصل الاجتماعي، وإشعارات الأخبار العاجلة، قد زادت بنسبة تصل إلى 5 ساعات و50 دقيقة في اليوم الواحد بعد أن كانت ما يقارب 3 ساعات و17 دقيقة.
من ضمن هؤلاء المتابعين صغارٌ لا يمتلكون القدرة على التفريق بين الواقع والخيال وعاجزين عن تحمل شدّة المشاهد المروعة. لذا من الضروري إيلاء هؤلاء إهتماماً شديداً للتأكُّد من عدم تأثُّرهم بشكل سلبي من خلال متابعة الأخبار التي تحتوي على العنف حيث يمكن أن يؤدّي ذلك الى تلبّدٍ عاطفي يتجلّى بمظاهر متعدِّدة:

• من أكثر النتائج الجسيمة هي عندما يؤدِّي الوضع الى آلامٍ نفسية تصل الى حدّْ التأثير على حياة الأفراد وينتج عنها أعراض جسدية
Somatic Symptom Disorder (SSD) تسمى ب
تظهر من خلال الألم، الضعف والوهن، قصر في التنفُّس، وأحياناً فشل في أداء بعض وظائف الجسم طوعية كانت أو لا إرادية.
• ضعف الحساسية تجاه العنف إذ يصبح مع الوقت شيئاً طبيعياً يشبه أيّ مظهر عام ويحاذي أيّ حدث إجتماعي.
• إنعدام أو إنحسار مستوى التأثّر الإنفعالي بآلام الآخرين ومعاناتهم.
• رؤية الكوابيس المتكررة حيث يكون العقل مثقلاً بالأفكار السلبية فيقوم الجسم بإفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزون والأدرينالين مما يؤدّي الى الشعور بالقلق الدائم والإفتقار للأمان والى الخشية والرهبة من المجتمع المحيط.
• الشعور بالقلق والخوف والغضب والحقد والكراهية والإحباط وهذه المشاعر مجتمعةً تؤدّي الى التسمِّم النفسي وتلُفُّ الإنسان بالسلبية وخاصة الصغار.
• القتل التدريجي لروح الإبداع والإنتاج.
• مَيْل أشدّْ الى ممارسة سلوك عدواني لحلّْ المشاكل، وازدياد الإستعداد لارتكاب تصرُّفات مؤذية، وقد أثبتت الدراسات أنًّ العنْف المرْئيّ يزيد من نسبة السلوك العدواني، إذ يرجِّح عالم النفس الإجتماعي ستانلي ميلغرام أنَّ الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتُبعد الإنسان عن القسوة، والمعاملة اللاإنسانية. وكما يقول لوردن بيج الذي يدرس العلاقات بين الجنوح ووسائل الإعلام أنَّ نسبة الإستجابات العدوانية متواضعة لكنها حقيقية تتراوح بين 5 – 10% وهذه النظرية تبرهن مخاطر متابعة مشاهد العنف التي يمكن أن تنتهي بمأساة فعلية دون الإنتباه الى جدِّيتها.
كيف يمكن للأهل تلافي هذه العواقب؟
• التسلُّح بالوعي وإدراك خطورة الوضع.
• إمضاء الوقت الكافي مع الأولاد .
• الحذر والإنتباه الى ما يتم مشاهدته وخاصة عندما يبدو عليهم غوصٌ صامت في عالم ما وراء الشاشة.
• وضع نظام الفيلتر وتعزيز الرقابة الأسرية ليس من باب أسْر حريتهم الشخصية وإنًّما لحصر وتقليل نسبة تعرُّضهم للمخاطر.
• تحديد مساحة زمنية لاستخدام الأجهزة الإلكترونية والحرص على تفادي متابعة المشاهد العنيفة على التلفاز أثناء تواجدهم.
• إختيار بديل للأخبار السلبية كالبرامج الترفيهية أو التي لديها أهداف تربوية.
• التواجد معهم لإعطائهم الشعور بالأمان والطمأنينية وخاصة بعيد انتشار أخبار مُحبِطة ذات وقع إجتماعي هائل والإستعداد لمناقشة ما يراه الأولاد من مشاهد قاسية ومساعدتهم على التعبير عن أحاسيسهم وآرائهم.

للمشاعر طاقة معيًّنة ، ولا تمرُّ جميع الأحداث والذكريات مرور الكرام لذلك يستحسن عدم التهاون بها لكي لا نتحمَّل عقباها وعواقب ما قدّ يحصل في المستقبل.

*كاتبة لبنانية.