دراسة إسرائيلبة: الولايات المتحدة وحرب السيوف الحديدية – توازُن موقت

دراسة إسرائيلبة:  الولايات المتحدة وحرب السيوف الحديدية – توازُن موقت
Spread the love

بقلم الباحثين الإسرائيليين تشاك فرايليخ وإلداد شافيط/

السياسات الأميركية تؤدي دوراً مركزياً في التأثير في تطورات الحرب في قطاع غزة منذ اندلاعها. يعرض هذا المقال أبرز سمات الدور الأميركي بعد مرور نحو أربعة أشهر على القتال، كما يعرض أبرز الخلاصات التي يمكن استخلاصها.
حتى الآن، انعكس الدور الأميركي في ثلاث خصائص أساسية: وقوف سياسي حاسم خلف إسرائيل، مع تقديم المساعدة العسكرية والدعم الاستراتيجي الشامل، وفي الوقت نفسه، توجيه انتقادات غير قليلة إلى الممارسات الإسرائيلية، وفي موازاة ذلك، تصاعُد الجهود من أجل ترسيم سِمات المعركة في اليوم الذي يتلو الحرب.
من الوقوف السياسي الحاسم خلف إسرائيل، إلى الانتقادات المتزايدة

علنياً: منذ اندلاع الحرب، وقفت الإدارة الأميركية إلى جانب إسرائيل بصورة مثيرة للإعجاب، مع تبنّي توجّه واضح مؤيد لها، إلى جانب إجراء زيارة رئاسية استثنائية خلال القتال، وزيارات مسؤولين كثيرين آخرين لإسرائيل. تكرر الإدارة التشديد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، إلى جانب دعم الإدارة المتواصل لهدف إلحاق الهزيمة بحركة “حماس”. وعلى الرغم من الضغوط المتصاعدة، سواء أكانت من الداخل، أم من المجتمع الدولي، فإن الإدارة امتنعت من وضع قيود زمنية على مدة القتال، أو تحديد موعد مُلزم لإنهائها، أو الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
ومع ذلك، فإن تشكيك الإدارة في قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها العسكرية في مقابل ثمن مقبول من ناحية الإدارة، تصاعد مع استمرار الحرب. ولذلك، طرأ تغيير على النقاط الأساسية التي تركز عليها الإدارة في خطاباتها: من هزيمة “حماس”، إلى الحاجة إلى تقليص التهديد العسكري الذي تمثله الحركة، وضمان عدم عودة القطاع ليشكل قاعدة “إرهاب” ضد إسرائيل. إن بواكير الانتقاد ضد الخطوات الإسرائيلية، بدأت بعد أسابيع قليلة على اندلاع الحرب. صحيح أن الدعم الأساسي القوي لإسرائيل وحاجتها إلى هزيمة “حماس” بقيت على حالها، لكن الانتقادات تصاعدت كلما اتضحت أحجام الدمار في القطاع، وكلما اتضحت، على وجه الخصوص، الآثار الإنسانية للقتال. ومع الوقت، تحول “الرفض” الإسرائيلي لوضع مقترح بشأن “اليوم التالي” والتقدم في اتجاه تسوية، إلى محط اهتمام التصريحات الصادرة عن الإدارة. كما أن الإدارة باتت تعبّر في الأيام الأخيرة عن معارضتها المتزايدة لتحرّك عسكري إسرائيلي واسع النطاق في رفح، وخصوصاً إذا لم تسبق هذا التحرك خطة موثوق بها، في نظر الإدارة، لإجلاء الأعداد الهائلة من السكان الفلسطينيين، التي تجمعت في المنطقة.
دبلوماسياً: نشرت الإدارة الأميركية مظلة دبلوماسية فوق رأس إسرائيل. فمع اندلاع الحرب، بادرت الإدارة إلى إطلاق تصريح مشترك واستثنائي مع زعماء كلٍّ من بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، استنكرت فيه أفعال “حماس” بشدة، وعبّرت عن مساندتها الحاسمة لإسرائيل. كما استخدمت الإدارة حق النقض ضد ثلاثة قرارات مناهضة لإسرائيل في مجلس الأمن، وامتنعت من التصويت على قرار إضافي دعا إلى زيادة المساعدات الإنسانية، بعد شطب الدعوة إلى وقف إطلاق النار الفوري من مسودة القرار. أمّا الآن، وعلى الرغم مما تقدم، فإن الإدارة تدرس المبادرة إلى صوغ قرار يدعو إلى إطلاق سراح المخطوفين ووقف موقت لإطلاق النار، وهو قرار يعارض، في الوقت نفسه، القيام بحملة عسكرية في رفح. وفي المقابل، ومنذ انتشار أخبار ضلوع موظفين في وكالة الأونروا في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، جمّدت الإدارة تمويلها للهيئة الدولية، على الرغم من دعمها الحثيث لزيادة المساعدات الإنسانية المقدمة لسكان غزة.
الوقوف العسكري والاستراتيجي المتواصل خلف إسرائيل

المساعدة العسكرية والجسرَين الجوي والبحري: منذ 8/10/2023، أعلن كلٌّ من الرئيس ووزير الدفاع الأميركيَين إرسالاً فورياً خاصاً لمساعدات عسكرية لإسرائيل، بدأ بقيمة مليارَي دولار، وسرعان ما وصل إلى 14.3 مليار دولار. ومن أجل تسريع المساعدات، أقيم جسران، جوي وبحري، اشتملا، حتى نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، على 240 رحلة جوية لطائرات الشحن العسكري، و20 سفينة شحن، حملت عشرات آلاف الأطنان من الوسائل القتالية والمعدات العسكرية. ولكي تتمكن من تجاوُز العوائق البيروقراطية في الكونغرس، استغلت الإدارة في مناسبتَين صلاحيات خاصة لتحويل المساعدات العسكرية في وقت الطوارئ، كما تم إعلان نيتها القيام بذلك مجدداً.
وخلال الحرب، أعلنت الإدارة إبرام صفقة ضخمة لتزويد إسرائيل بمقاتلات جوية وطوافات حربية جديدة. صحيح أن هذه الصفقة تمت مناقشتها بين الطرفين على مدار سنوات خلت، وأن التوصل إليها كان متوقعاً، لكن توقيت صدور الإعلان لم يكن من قبيل الصدفة، وكان هدفه التعبير عن مساندة إسرائيل، وتمرير رسالة رادعة إلى خصومها. كما أرسلت الحكومة الأميركية إلى إسرائيل “خلية عمل خاصة” للمساعدة في التخطيط العسكري وجمع المعلومات الاستخباراتية، إلى جانب قوات خاصة، من أجل المساعدة للعثور على المخطوفين.
الإسناد العسكري والاستراتيجي وتعزيز الردع: على امتداد فترة القتال، كان هناك حوار وتعاون استراتيجيان غير مسبوقَين بين البلدين، من أجل تعزيز أمن إسرائيل، وردع خصومها وخصوم الولايات المتحدة، والحؤول دون التصعيد، وترسيم الخطوط الأساسية للمعركة. إذ أعلنت الإدارة، منذ 8/10/2023، إرسال مجموعة حربية نحو الإقليم، من حاملة طائرات، ولاحقاً، أعلنت إرسال مجموعة أُخرى، بهدف ردع كلٍّ من إيران، وسورية، وحزب الله، والمنظمات “الإرهابية” الأُخرى عن الانضمام إلى الحرب. كما جرى إرسال قوة خاصة من أجل التدخل السريع، قوامها نحو 2000 من قوات المارينز. هذه الإجراءات عكست الخشية التي سادت لدى الإدارة من المصاعب التي تعترض إسرائيل في الحرب على جبهتَين، وربما أكثر، إلى جانب الخوف من أن يستوجب نشوب حرب واسعة النطاق تدخلاً أميركياً مباشراً.
بناء قوة وردع إقليميَين: بالإضافة إلى نشر حاملتَي الطائرات، عززت الولايات المتحدة حضورها العسكري في الإقليم، وكذلك بعض حلفائها:
ففي الخليج “الفارسي”، نشرت الولايات المتحدة عدة أسراب مقاتلة ونحو عشرين طائرة إمداد بالوقود. كما جرى نشر بطاريات THAAD في موقع غير معروف (قد يكون في السعودية) إلى جانب عدة بطاريات باتريوت لاعتراض الصواريخ. كما حطت العشرات من طائرات النقل الأميركية في العراق، وقطر، والبحرين؛ أمّا في الأردن، فنشرت الولايات المتحدة سرباً خاصاً من طائرات F-15 وقوات خاصة، كما نشرت ألمانيا طائرات حربية لها في قبرص ولبنان، وكذلك نشرت الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، وهولندا، وكندا، وإسبانيا، وإيطاليا، قوات خاصة ومعدات عسكرية، من أجل إجلاء محتمل لمواطنيها، أو أعدّت قواعد أمامية مخصصة لهذا الغرض.
الحؤول دون التصعيد: عملت الولايات المتحدة طوال الحرب على منع امتداد الحرب إلى ساحات إضافية، وشمل عملها خطوات الردع العسكرية في وجه إيران وأنصارها، إلى جانب عملها على المستوى الدبلوماسي، مع التركيز على محاولة تنظيم ساحتَي لبنان والبحر الأحمر. لهذا الغرض، تم إجراء عدة جولات من المحادثات مع الأطراف المختلفة من أجل الدفع في اتجاه تسوية تُبعد حزب الله عن الحدود مع إسرائيل. وعلى امتداد الحرب، أوضحت الولايات المتحدة بصورة جلية معارضتها القاطعة لمبادرة إسرائيل إلى التصعيد على الجبهة الشمالية.
الدفاع الفعال: قامت سفن حربية أميركية باعتراض صواريخ للحوثيين، كانت قد وُجهت ضد أهداف إسرائيلية. كما بلورت الإدارة ائتلافاً دولياً لحماية مسارات الملاحة في البحر الأحمر. صحيح أن هذا التحالف كان يهدف إلى حماية الملاحة الدولية بصورة عامة، لكن مسارات الملاحة نحو إسرائيل احتلت، عملياً، موضعاً مهماً في الحملات التي نفّذها هذا التحالف. وبعد صمت طويل، نُفّذت غارات جوية أميركية ضد الحوثيين في اليمن، وضد الميليشيات التابعة لإيران في العراق وسورية. كانت هذه الغارات رداً على ضرب مسارات الملاحة البحرية والقوات الأميركية في الإقليم، لكنها كانت بالمقدار ذاته جزءاً من المجهود الشامل لحماية إسرائيل. ولا تتوفر أي معلومات عن إسهام القطع العسكرية البحرية الأميركية في عمليات الدفاع الفعال عن إسرائيل من الصواريخ والقذائف في منطقة البحر المتوسط.
الجهود الهادفة إلى ترسيم ملامح المعركة و”اليوم التالي”

التدخل المباشر في عمليات اتخاذ القرار الإسرائيلية: منذ انطلاق الحرب، تُجري الإدارة مفاوضات مستمرة ومعمّقة مع الحكومة الإسرائيلية ومنظومتها الأمنية. إلى جانب اللقاءات والحوارات المعتادة مع نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي، وشارك في هذه المحادثات كلٌّ من الرئيس الأميركي، ووزيرَي خارجيته ودفاعه، بصورة غير مسبوقة، في اجتماعات الحكومة ومجلس “الكابينيت”، واجتمعوا ببعض أعضاء المجلس على انفراد. في هذه اللقاءات، طالب الأميركيون بالاطلاع على الأفكار والمخططات الإسرائيلية، وطرح المعضلات، مع تقديم المواقف والتحفظات. وفي موازاة ذلك، أجرى مسؤولون وضباط أميركيون كبار مشاورات مهنية مع نظرائهم الإسرائيليين، مع التركيز على الاستراتيجية السياسية – العسكرية الإسرائيلية وطرق تخفيض التسبب بالأذى للأبرياء، وزيادة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى قطاع غزة. وعلى الرغم من ذلك، فإن بايدن كان يتصل بنتنياهو كل أسبوع تقريباً، خلال الأسابيع الأولى من الحرب، ثم امتنع من الاتصال به على مدار أسابيع أُخرى (في نهاية كانون الأول/ ديسمبر، ومجدداً في نهاية كانون الثاني/يناير)، كتعبير عن استيائه نتيجة الخلافات المتزايدة.
ترسيم حدود ميدان القتال: منذ بداية الحرب، مارست الإدارة ضغوطاً كبيرة من أجل حصر القتال داخل حدود القتال، ولاحقاً، تقليص كثافة القتال والانتقال السريع إلى المرحلة الثالثة من الحرب، والمتمثلة في الغارات المحددة. وفي كانون الثاني/يناير، وعلى خلفية الدمار والقتل الواسعَي النطاق في القطاع، وخصوصاً في سياق المفاوضات الهادفة إلى إطلاق سراح المختطفين، بدأت الإدارة بالسعي لوقف إطلاق نار طويل الأمد، وهو ما يعني، عملياً، إنهاء القتال. ولاحقاً، عارضت الإدارة، كما أسلفنا، وبصورة حازمة، نشاطاً إسرائيلياً واسع النطاق في رفح، ففرضت عدم القيام بهذه الحملة إلّا بعد تحضيرات مشددة، وذلك لتقليص إلحاق الأذى بالمدنيين. كما فرضت الإدارة عدة مبادئ تتعلق بحالة إنهاء الحرب في قطاع غزة: منعُ تحوّل القطاع مجدداً إلى قاعدة “إرهابية” ضد إسرائيل، وعدم طرد فلسطينيين بالقوة من القطاع، وعدم تجديد الاحتلال الإسرائيلي له، والامتناع من فرض حصار عليه، أو تقليص مساحته. كما حددت الإدارة أنه يجب توحيد القطاع مع الضفة تحت هيئة سلطة موحدة، ولاحقاً، تحت سلطة فلسطينية “مجددة”.
عوامل الضغط اللين: طوال مدة الحرب، ركزت الإدارة على الحاجة الضرورية إلى بذل إسرائيل أقصى جهد هادف إلى تقليل الخسائر في صفوف المدنيين، وتقديم المساعدات الإنسانية، والالتزام بالقانون الدولي. ولم تعكس هذه التأكيدات موقفاً أخلاقياً مجرداً، بل عكست قبل كل شيء إدراك الإدارة أن قدرتها على مواصلة توفير الحد الأقصى من الدعم لإسرائيل مشترطة بالالتزام بهذه المعايير. وبمرور الوقت، صعّدت الإدارة نبرتها وعبّرت عن تحفظها المتزايد عن إجراءات إسرائيل، مع محاولتها ممارسة ضغط سري وعلني على إسرائيل. وحذّرت الإدارة، من ضمن ما حذّرت منه، من تكرار الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة نفسها في أعقاب هجوم برجَي التجارة، وتحويل الانتصار التكتيكي إلى هزيمة استراتيجية؛ والجمود الذي قد يمسّ بقدرات الدفع في اتجاه عملية سياسية؛ كما حذّرت من التغيير السلبي في مكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة والعالم.
لم تستخدم الإدارة الأدوات “الصلبة” التي تملكها، مثل تأخير المساعدات، أو حتى وقفها، أو الموافقة على قرار ضد إسرائيل في مجلس الأمن، لكنها استخدمت أدواتها الناعمة بصورة متزايدة. وهكذا أعلنت الإدارة قرارها فرض قيود على منح التأشيرات للمستوطنين المتورطين في أعمال عنف ضد الفلسطينيين، ثم فرض عقوبات على أربعة مستوطنين متهمين بارتكاب أعمال مماثلة. قد تكون هذه الخطوة أكثر جذرية مما تبدو عليه في الظاهر. وقد تكون للعقوبات آثار في مجالس مستوطنات إسرائيلية في الضفة، وهيئات حكومية لديها علاقات دائمة مع هذه المجالس الاستيطانية، وشركات تجارية، على غرار المصارف الإسرائيلية التي أعلنت فوراً وقف حسابات المستوطنين الأربعة واتخاذ المصارف إجراءات تحول دون تعرّضها للعقوبات. وليس من الواضح بعد ما إذا كان الأمر مجرد استياء كبير حيال ارتفاع نسبة العنف الاستيطاني، أو إشارة إلى نية الإدارة التصلب في مواقفها بشأن المشروع الاستيطاني بأسره. هناك إشارة تؤكد الاحتمال الثاني في إعلان الإدارة (بعد ثلاثة أعوام من الولاية) تأكيد الموقف الأميركي التقليدي (باستثناء ما جرى في عهد ترامب) الذي يقول إن المستوطنات “تتعارض مع القانون الدولي”. هناك تعبير إضافي عن استياء الإدارة، قد لا يتطرق إلى إسرائيل بصورة مباشرة، لكن القصد منه واضح، وقد تمثل في نشر مرسوم رئاسي خاص يُلزم الدول التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية بتقديم ضمانات “موثوق بها” بأن استخدام هذه المساعدات سيتم في إطار القانون الدولي.
إذا تأكد التقرير الذي يفيد بنيّة الإدارة دعم قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار والحؤول دون إجراء عملية برية في رفح، سيمثل الأمر انحرافاً كبيراً عن الخط الذي التزمت به الإدارة حتى الآن، وتعبيراً عن إحباط الإدارة من السياسات الإسرائيلية.
“اليوم التالي” والرؤية البعيدة المدى: يمثل غياب تصور إسرائيلي بشأن “اليوم التالي” نقطة خلاف رئيسية بين البلدين. إذ ترى الإدارة أن هناك إمكانية للوصول إلى “نقطة تحول” إقليمية تاريخية، مستندة إلى حل الدولتين، ودمج إسرائيل في الإقليم، بعد التطبيع مع السعودية ودول أُخرى، وإنشاء جبهة إقليمية مؤيدة للأميركيين، رداً على التهديد الإيراني. إن إقامة دولة فلسطينية تحولت إلى هاجس تقريباً في جميع تصريحات الإدارة ومخططاتها، إذ ترى الإدارة أن استعداد الدول العربية الراهن، وعلى رأسها السعودية، لتغيير علاقاتها بإسرائيل وتوفير “ضمانات أمنية، والتزامات، وضمانات” لها، إذا جرى الأمر، فسيؤدي إلى عزل إيران، وتوفير استجابة ناجعة للتحديات التي تراكمها أمام إسرائيل والولايات المتحدة. ومن أجل تقليل خلافه مع إسرائيل، ركّز بايدن على أنه “تتوفر عدة أنواع من حلول الدولتين، إذ إن هناك عدة دول أعضاء في الأمم المتحدة لا تملك جيوشاً”.
تلافي التورط في السياسة الداخلية الإسرائيلية: قدّر مسؤولون حكوميون أميركيون أن خطط بلدهم لإعادة ترسيم وجه المنطقة، المشترطة بإقامة دولة فلسطينية، سيتم تأجيلها إلى أن يحدث تغيير سياسي في إسرائيل. إن الإحباط الناجم عن رفض نتنياهو المتكرر لمواقف الإدارة تصاعد بمرور الوقت، وبات يُعتبر العقبة الأساسية أمام التقدم، بالاستناد إلى اعتبارات سياسية لا موضوعية. ومع ذلك، قدّر مسؤولون في الإدارة أن ولاية نتنياهو ستكون محدودة زمنياً، بل شرعوا في الاستعداد للأمر عبر اللقاءات التي عقدوها بصورة منفصلة مع أعضاء في مجلس “الكابينيت”، ورئيس المعارضة، ومسؤولي المجتمع المدني. وعلى الرغم من الإحباط المتزايد من رئيس الحكومة، إلا إن الإدارة امتنعت، عمداً، من مواجهته بصورة علنية، مع التزامها بسياسة الإقناع الهادئ، انطلاقاً من تقديرها أن المواجهة مع نتنياهو ستؤدي إلى تعزيزه داخلياً، بل ستؤدي إلى مزيد من التصلب في مواقفه.
خلاصات أساسية

إن الوقوف الأميركي إلى جانب إسرائيل غير مسبوق، باستثناء ربما في حرب يوم الغفران [حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973]، وتجلى هذا التأييد في كل المجالات، العسكرية والاستراتيجية، والسياسية، على الرغم من الخلافات الكبيرة في الآراء، وعكَس الضمان الأميركي غير الرسمي لوجود إسرائيل وأمنها، نظرياً وعملياً. عملياً، تصرفت الولايات المتحدة كحليف قوي، وثمة شك في أن إسرائيل كانت تتوقع أكثر من ذلك. هذا الرد الإيجابي يمكن نسبه، على الأقل جزئياً، إلى الالتزام الشخصي للرئيس الأميركي حيال إسرائيل، وأيضاً إلى العلاقات الاستراتيجية المتينة بين البلدين خلال العقود الأخيرة.
اختلف السلوك الأميركي في الحرب، مقارنةً بالماضي، من عدة نواحٍ أُخرى. فالصدمة العميقة التي أحدثتها “مذبحة” أكتوبر، أوجدت إجماعاً في الرأي غير مسبوق إزاء كل ما له علاقة بأهداف الحرب، وامتنع الأميركيون من وضع “زمن سياسي” لإسرائيل، كما كان انخراطهم في اتخاذ القرارات الإسرائيلية من خلال مشاركتهم في نقاشات “الكابينيت” غير مسبوق. لم تقاتل قوات أميركية إلى جانب الجيش الإسرائيلي، لكن الولايات المتحدة تحولت إلى شريك في صوغ المعركة وإدارتها. وعملياً، جرى نوع من تقاسُم عمل غير رسمي، وبينما كانت إسرائيل تركز على “حماس” في غزة، كانت الولايات المتحدة تردع إيران وحزب الله، وتواجه تهديد الحوثيين في البحر الأحمر.
إلى جانب دعم إسرائيل، وضعت الإدارة الأميركية حدوداً واضحة لتحرّكها، في موازاة محاولتها الدائمة صوغ رؤيتها حيال “اليوم التالي”. ولم تفرض الإدارة الأميركية إملاءات سياسية، على حد علمنا، لكنها سعت لصوغ حدود لسِمات القتال بنجاح جزئي. في نظر الإدارة، هذه القيود لها هدف مزدوج: من جهة، صوغ المعركة، ومن جهة أُخرى، من أجل حاجات تكتيكية، تسهل عليها الاستمرار في تقديم دعمها الكبير لإسرائيل، على الرغم من الانتقادات المتزايدة في الداخل الأميركي، وفي الساحة الدولية.
الحرب التي تخوضها إسرائيل في قطاع غزة تثير معارضة غير مسبوقة في داخل الولايات المتحدة، قبل كل شيء، وسط اليسار الديمقراطي والشباب. حتى إن الكونغرس أبدى تحفظات قاسية عن العمليات التي تقوم بها إسرائيل، وسُجلت محاولات لاشتراط تقديم المساعدة العسكرية لإسرائيل بتغيير سياستها. وكشفت هذه المعارضة صعود أهمية الجالية المسلمة في الولايات المتحدة، وفي المقابل، ضُعف تأثير الجالية اليهودية. وفي كانون الثاني/يناير، بدأت انتقادات الجمهور تعطي ثمارها. لم تغيّر الإدارة الأميركية مواقفها الأساسية، لكنها صعّدت في حدة تصريحاتها، واعتبرت أن إسرائيل هي المسؤولة عن إطالة أمد الحرب ونتائجها القاسية، وخصوصاً في غياب احتمالات تتعلق بـ”اليوم التالي”. كما أن القلق حيال المعركة الانتخابية الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر، وفي إطارها، قد تؤثر القضية الإسرائيلية – الفلسطينية في فرص الرئيس لكي يُنتخب مجدداً، كان في خلفية التغييرات التي طرأت على أسلوب رد الإدارة الأميركية.
تدرك الإدارة الأميركية المصاعب المتوقعة التي ستواجهها جهودها في صوغ نظام إقليمي جديد، وأن المطلوب مفاوضات مستمرة. وثمة شك في أن تتخلى الإدارة عن مواقف أساسية أميركية أخلاقية، مثل الحاجة إلى قيام دولة فلسطينية من خلال التفاوض مع إسرائيل، لكنها تبدو مصرة على إحراز تقدّم من خلال تبنّي توجهات عمل جديدة. ترى الإدارة الأميركية، الآن، أن رئيس الحكومة هو العقبة الأساسية في وجه إحراز تقدم، وحتى الآن، هي تسعى لتجنُّب أزمة علنية معه، والتسريبات بشأن “اليوم التالي ما بعد نتنياهو” هي تعبير عن الرغبة في ممارسة الضغط عليه لكي يُبدي مرونة، وهناك تقدير احتمال حدوث تغيير سياسي قريب في إسرائيل يسهّل عليها الدفع قدماً باستراتيجيتها، وبأهدافها في الشرق الأوسط.
عدد من التطورات المحتملة، يمكن أن يضع الإدارة الأميركية في مواجهة معضلات صعبة في الأسابيع القادمة، قد تنعكس سلباً على العلاقات مع إسرائيل. هناك عدم ارتياح في الإدارة بسبب ازدياد المخاوف من أن تتأثر قرارات رئيس الحكومة بشأن إدارة الحرب عموماً، وقضية المخطوفين خصوصاً، باعتبارات سياسية. التطورات بشأن قضية المخطوفين، جزء منهم مواطنون أميركيون، يمكن أن تشكل، في نظر الإدارة، أساساً لإطالة أمد المعركة، بالإضافة إلى قرار إسرائيل القيام بعملية واسعة النطاق في رفح قبل إجراء الاستعدادات المسبقة اللازمة، والتخوف من أن يؤدي ذلك إلى تصعيد كبير من جانب حزب الله في الجبهة الشمالية. ومن المحتمل أن تستخدم الإدارة أدوات ضغط كبيرة لدفع إسرائيل إلى إبداء مزيد من ضبط النفس. وتتخوف الإدارة من أن تضطر في هذه المسائل الثلاث إلى دعم إسرائيل بصورة تتعارض مع مواقفها.
لقد تحولت إسرائيل، أكثر فأكثر، إلى الطرف “المذنب” في الخطاب الأميركي. عشرات الأعوام من خيبة الأمل، ومن الغضب المتراكم، في مواجهة الرفض الإسرائيلي المستمر لمواقف أميركية أساسية، وفي طليعتها الحاجة إلى الدفع قدماً بحل الدولتين، وكل ما له علاقة بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، وصلت اليوم إلى ذروة جديدة، وخصوصاً وسط الجناح الليبرالي في الحزب الديمقراطي. يضاف إلى ذلك، الشعور بنكران إسرائيل الجميل، التي ترد على تأييد الولايات المتحدة، على مدى سنوات كثيرة، بالرفض المستمر والاستغلال السياسي الذي يقوم به رئيس الحكومة لمعارضته مواقف الولايات المتحدة.
في غضون ذلك، تستمر التغييرات الديموغرافية الأساسية في المجتمع الأميركي التي يتعلق جزء منها بإسرائيل، لكنها تؤثر بصورة سلبية في العلاقة بها. حتى إن الجمهور اليهودي الليبرالي، في أغلبيته، ولا سيما فئة الشباب، يبتعد عن إسرائيل. يضاف إلى ذلك الزيادة الكبيرة في أعداد الجمهور المسلم في الولايات المتحدة، وتنظيمه السياسي ومجموعات الضغط، بالإضافة إلى مواقف المؤيدين له في مناصب مؤثرة في الإدارة الأميركية، وفي الإعلام.
لقد أخّرت الحرب التوترات ومسار الصدام الذي طبع العلاقات الأميركية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، وخصوصاً ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، و”الانقلاب الدستوري” الذي حاولت الحكومة الإسرائيلية القيام به. وعلى ما يبدو، لن تبرز أزمة حقيقية قبل الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، لكن من المتوقع نشوء توتّر كبير وأزمة في الولاية الثانية لجو بايدن، أو إذا انتُخب دونالد ترامب الذي يحمل ضغينة معينة لنتنياهو، ولإسرائيل عموماً.
لكن الخطر الكبير الذي ينطوي عليه اشتراط المساعدة العسكرية لإسرائيل بتغيير سياستها إزاء الموضوع الفلسطيني، والذي تحول إلى موقف سائد في الولايات المتحدة، بات خطراً ملموساً. إن خطة بناء الجيش الإسرائيلي تستند إلى افتراض أن رزمة المساعدات الحالية لعشر سنوات (التي تنتهي في سنة 2028) سيتم الحصول عليها بالكامل، مع رزمة مساعدات أكبر منها لعشر سنوات أُخرى. تحقيق هذا الافتراض الأساسي لم يعد مضموناً، ويجب على الحكومة الإسرائيلية التعامل مع ذلك بالجدية المطلوبة، وانتهاج السياسة الملائمة.

المصدر: معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي نقلا عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية