مذكرات شاعر يهودي ثائر على الصهيونية

مذكرات شاعر يهودي ثائر على الصهيونية
Spread the love

(وكنَّـا نضحك أحيانـا)
مذكّــرات شاعر يهودي ثائر على الصهيويَّنـة

يقلم: محمّــد عبد الشّافي القُوصِـي/

(وكنَّا نضحك أحيانا We used to laugh sometimes) هو عنوان مذكّرات الشّاعرُ اليهودي (إريش فْريد Erich Fried) الذي استطاع أن يُحرّر نفسه من زنزانة الماضي والتاريخ النازي، وأن يتوجَّه نحو الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” في فلسطين، فوجَّه النقد اللاَّذع للصهاينة.
لقد تعوّد “إريش فْرِيد” على انتهاك المحرّمات السياسية، فهاجم السياسة الألمانية، لأنها غضّت الطرفَ عن الجرائم العسكرية التي مارستها الحليفة أميركا (آنذاك في فيتنام ونيكاراغوا)، ولأنها مارست إرهاب الدولة في السبعينيات في مواجهة إرهاب مجموعات اليسار المتطرف مثل مجموعة بادر- ماينهوف.
فالشّعر عند “إريش فْرِيد” رسالة يناضل مِن خلالها ضد الظلم والطغيان، في مواجهة “الذين يجثمون فوق الصدور”، كما يقول في ديوانه (اسمعي يا إسرائيل Listen, Israel). وقد نجح في أن يجعل من الشّعر حدثاً جماهيرياً، وثورة عارمة، فلم تخلُ مظاهرة طلابية ألمانية في ستينيات القرن الماضي من أبيات له يردّدها الطلبة أوْ يكتبونها على المنشورات السياسية، لا سيما من ديوانه المنتقد للسياسة الأميركية!
يقول “إريش فْرِيد” في مذكّراته التي ترجمها إلى العربية الأديبُ “سمير جريس”: “لقد بدأتُ في كتابة قصائدي الأولى وأنا في عُمر السادسة، ثمَّ بدأتُ أشارك في تقديم مسرحيات للأطفال على مسارح فيينا. وقد انتهت طفولتي مع وصول النازيّين إلى الحُكم عام 1933م، حين أُلقِيَ القبض على أبي بعد انضمام النمسا إلى ألمانيا في الحرب عام 1938م. وبعد وفاة والدي جرّاء تعذيب البوليس السري “الجستابو”، فررتُ من فيينا النازيّة إلى لندن، وعشتُ ظروفاً قاسية للغاية. وكنتُ أتكسّب رزقي من شراء وبيع تأشيرات هجرة إلى بريطانيا لمعارفي من اليهود. وبذلك أنقذتُ أمي وسبعين شخصاً من المصير الذي لاقاه أبي على أيدي النازيين. وفي مطلع الخمسينيّات عملتُ مُعلّقاً في هيئة الإذاعة البريطانية ( P P C)، لكنّي استقلتُ عام 1968 لاختلاف وجهة نظري السياسية مع توجهات الإذاعة. ثم تفرغتُ للشّعر والترجمة الأدبية، فترجمتُ أشعار إليوت، وديلان توماس، وسيلفيا باث، ومسرحيات شكسبير”.
يوم الجمعة الدامي
كثيراً ما يُبدي “إريش فريد” اعتراضه على الظلم الذي يسود العالَم، مِن ذلك حكاية كان شاهداً عليها في أحد أيام صيف عام 1927م، إذْ يقول: عندما كنتُ في السادسة من عمري، وأنا في صحبة أمّي في جولة للتسوّق في شوارع فيينا مسقط رأسي، فرأيتُ الجموع تتظاهر احتجاجاً على حُكم أصدرته المحكمة العليا بتبرئة مجموعة من الإرهابيين اليمينيين الذين قَتلوا شخصين. ولتفرقة المتظاهرين أطلقت قواتُ الشرطة الرصاص عليهم، مِمَّا تسبَّب في مقتل وإصابة عدد كبير من المواطنين العزل، وقد شاهدتُ ذلك عياناً في يوم (15 يوليو 1927م) الذي أُطلِق عليه فيما بعد (يوم الجمعة الدامي Bloody Friday).
وفي العام ذاته، ومع احتفالات عيد ميلاد المسيح، نظّمت المدرسة احتفالاً كبيراً كُلِفَ فيه “إريش فريد” بإلقاء بعض القصائد، وقبل أن يصعد الطفل على خشبة المسرح تناهى إلى سمعه أنَّ “رئيس شرطة فيينا” يجلس بين الحاضرين، فانتهز الفرصة ووقف أمام الحاضرين قائلاً بكل ثقة: إنه يعتذر عن عدم تلاوة قصيدة عيد الميلاد، وذلك لوجود السيد شوبر رئيس الشرطة بين الجمهور، ثمَّ حكى ما شاهده في شوارع فيينا يوم الجمعة الدامي. عندئذ انزعج رئيسُ الشرطة وغادر القاعةَ غاضباً، فعاد الطفل إلى المسرح وقال: “الآن يمكنني أن أتلو قصيدتي”!
نشأة التابو الإسرائيلي
وفي تحليله لأسباب نشأة التابو الإسرائيلي، يقول فْرِيد: “منذ أن ارتكبتْ فاشية هتلر جرائمَ قتل اليهود، تولّد في أوروبا الغربية شعور جماعي بالذنب له أسبابه المفهومة، وكثيراً ما أدى هذا الشعور إلى امتناع المرء عن توجيه أيّ نقد لليهود، وفي الوقت ذاته فقد ساوى الناسُ بلا أدنى تفكير بين اليهود والصهاينة. إلاَّ أنني أشعر ليس فقط بالتضامن مع كل المشرّدين والمضطّهدين الأبرياء، وإنما أيضاً بشيء من الاشتراك في المسئولية تجاه ما يرتكبه يهود إسرائيل ضد الفلسطينيين وبقية العرب”.
وفي قصيدة بعنوان “بعض منهم” مِن ديوان “اسمعي يا إسرائيل” يتوقف الشَّاعر أمام كلمة “حوادث” و”إرهاب”، ويقول متهكماً -بعد أن يُعدّد المذابح التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في: دير ياسين وكفر قاسم وبحر البقر وأبو زعبل ونهر البارد.
ومِن أشهر قصائده السياسية قصيدة “الوضع الراهن” التي كتبها في زمن سباق التسلُّح والحرب الباردة، وفيها تتجلَّى قدرة “الشاعر” على تلخيص معان وأفكار إنسانية كبرى في كلمات بسيطة ويومية، كقوله: “مَن يريد / أن يبقى العالَم / كما هو / فهو لا يريد / أن يبقى العالَم”.


الشاعر إريش فريد

الدواوين النّاريّــة
في أشعاره المبكّرة، أخذ “إريش فريد” يُوجّه النقد غير المباشر إلى ذوي مِلّته، لكن سرعان ما تحول إلى النقد المباشر بعد حرب 1967م التي حولت الحكومة الإسرائيلية تدريجاً من “حكومة قمع” إلى “حكومة مجرمين”، كما قال في إحدى قصائده.
كتب “إريش فْرِيد” بعد حرب عام 1967م قصيدة طويلة بعنوان: “اسمعي يا إسرائيل”، حذّر فيها الإسرائيليين من الأيديولوجيّة الصهيونية التي بدّلت الأدوار، وحوّلت ضحايا النازية بالأمس إلى قتلة اليوم. وفي عام 1974م أصدر كتاباً يحمل العنوان ذاته، ضمّنه إلى جانب قصيدة “اسمعي يا إسرائيل” قصائد أخرى تتابع جرائم دولة إسرائيل منذ إنشائها، إضافة إلى قصيدة مترجمة للشاعر العبري موردخاي آفي شاول.
ولعلَّ أكثر ما أثار حفيظة خصومه، تشبيه الإسرائيليين الحاليّين بالنازيّين. إذْ يقول في مقطع من قصيدة “اسمعي يا إسرائيل”، المستمد عنوانها من صلاة يهوديّة تتكرّر فيها عبارة “اسمع يا إسرائيل”، أيْ: يا يعقوب:
“راقبتُم جلاَّديكم /وتعلّمتم منهم /الحرب الخاطفة /والجرائم الوحشية الفعالة …… عندما كنّا مضطّهدين /كنتُ واحداً منكم /كيف أظلُّ منتمياً لكم /عندما تضطهِدون الآخَرين؟”.
وفي قصيدة “الخلفاء” يقول: “لأنَّ قتلة فاشيين /طردوا يهوداً /ينبغي الآن على قتلة فاشيين/أن يغتالوا فلسطينيين /أبرياء من مقتل /يهود أوروبا /بالطريقة نفسها/ التي اغتيل بها اليهود آنذاك”.
هذا، وقد أثار نشر هذه القصائد ردود فعل عنيفة داخل ألمانيا وخارجها، كما توالت على الشَّاعر أبشع الاتهامات، فإلى جانب تهمة “معاداة الساميّة” المعتادة، اتُّهِمَ “إريش فْريد” بتحريف الكتاب المقدّس، وبأنه “مدافع عن هتلر”، وبأنه “يهودي كاره لليهود”… إلى غير ذلك من الاتهامات الجاهزة!
ويتساءل “فريد” عن المعنى الحقيقي للكلمات، وعمّا إذا كانت اللغة تزيد وعي الإنسان بواقعه، أمْ تُزيّف الوعي وتؤدي أحياناً إلى فقدانه، لذلك نجده في عديد من قصائده يكرّر الكلمة الواحدة لكشف الاستخدام الشائع لها الذي يبتعد في كثير من الأحيان عن معناها الحقيقي. فانظر –مثلاً- كيف تعامل مع كلمة “السلام” في قصيدته: “بعد اتفاقية السادات مع إسرائيل” التي كتبها بعد معاهدة كامب ديفيد، يقول:
“السلام الذي ليس سلاماً (…)/يأتي بصلح /ما هو بصلح/ ويَعِد بمستقبل/ ما هو بمستقبل/ ويريد أن يوقظ أملاً/ ما هو بالأمل/ في فلسطين/ ما هي بفلسطين”!
بسبب هذه القصائد الناريّة، واجه “الشَّاعر” وابلاً من الهجوم الحاد من تيار اليمين واللُّوبي الإسرائيلي، وأيضاً من بعض كتّاب اليسار في ألمانيا الذين اعتبروا نظرته “قاصرة” و”أُحادية”، واتهموا شِعره السياسي بالمباشرة وخلوّه من جماليات الشعر، ومن هؤلاء مثلاً الروائي اليساري غونتر غراس الذي هاجم فريد في أحد اجتماعات “جماعة 47” الأدبية. لكن هناك مَن انحاز له مِن الشعراء المؤمنين برسالته السياسية، مثل: “هانز ماغنوس إنتسنسبرغر”.
قصائد الحُب والغرام
إلى جانب الشعر السياسي، تألّقَ “إريش فريد” في كتابة القصائد العاطفية، فقد أبدع -في حقبة الثمانينيات- في كتابة قصائد الحب التي حقّقت له شعبية كبيرة في ألمانيا، لا سيّما دواوينه العاطفيّة مثل: (البحث عن قريب) و(الأمر الواقع) و(قصائد حُب) حيث جعل من الشّعر حدثاً جماهيرياً يُعبّر عن آلام الناس وآمالهم –كما فعل شعراؤنا الكبار أمثال: المتنبّي وحافظ وشوقي ونزار قبّاني- وربما بسبب هذا النجاح المدوي عرف الشاعر التكريم في آخر سنوات حياته، بعد أن تجاهلته الجوائز الأدبية طويلاً، فحصل قبل وفاته بأعوام قليلة على “جائزة غيورغ بوشنر” أرفع الأوسمة الأدبية في المنطقة الألمانية.
مَن هـو “إريش فْريد”؟
مَن هو “إريش فريد” الذي تحدثنا عن مذكّراته ومواقفه، ولم نعرف عنه شيئاً؟
إنه شاعر صاحب موهبة حقيقيّة وخيال خصب وشجاعة نادرة، اعترض بقوة على الظلم، وأفصح عن نصرته للمستضعفين والمظلومين في قصائده، وبالرغم مِن يهوديّته، إلاَّ أنه مِن أشدّ منتقدي سياسات إسرائيل، وقف مناوئاً للصهيونية، وأطلق خيلَ قصائده في وجه زعمائها وكشْف عن مآربهم الخبيثة، ووصفهم بأنهم أقبح من النازيّين، وأشدّ إجراما! مِمَّا جعله يواجه أشدّ موجات الهجوم حدَّة عندما كسر “التابو الإسرائيلي”، ما كلفَه عداوات مريرة مع بني قومه، وفتح عليه نار النقمة والتشهير!
تقول “بطاقته الشخصيّة: إنه الطفل “إريش فْريد” الذي وُلِد ونشأ في فيينا، ابناً وحيداً لعائلة يهودية بعد أن قتل النازيّون والده.
وتقول “بطاقته النفسيَّة”: إنَّه عاش مهموماً بالمشرّدين والمطرودين،ومحامياً عن المظلومين!
وتقول “بطاقته الثقافيَّة”: إنه على الرغم من نجاحه المدوي، إلاَّ أنَّ الجوائز الأدبية تجاهلته، فلم يعرف التكريم إلاَّ في آخِر حياته، لكنه حقَّقَ شهرةً واسعة عبر ديوانه (قصائد تحذيريَّة) الصادر عام 1964م، ثمَّ توالت بعد ذلك دواوينه الحارقة التي دعّمت شهرته كشاعر سياسي فذ، أهمها: ديوان (وفيتنام و..) عام 1966م، وديوان (حرية فتح الفم) 1972م؛ فقد فتح فمه، وصاح بأعلى صوته مُندّداً بجرائم الصهاينة وصارخاً في وجه زعمائها الاستبداديين!!