قراءة في تحولات السياسة الخارجية الصينية

قراءة في تحولات السياسة الخارجية الصينية
Spread the love

شؤون آسيوية- بقلم: إبراهيم علوش
ظلت الصين عقوداً تسير في الظلال متجنبةً الأضواء والضوضاء، بما لم يتلاءم مع وزنها كقوةٍ عظمى من وجهة نظر كثيرين كانوا يتوقون إلى رؤيتها تنزل إلى الميدان للتخفيف من غلواء الغطرسة الغربية، فإذ بها تلقي بظلها الطويل على المشَاهِد كافةً، ولا سيما منذ حرب أوكرانيا، فقد راحت تفرض حضورها الكبير بصورةٍ أكثر جرأة وحيويةً، من محيطها المباشر في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ إلى الدوائر الأبعد في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية. وحين عُقدت المصالحة السعودية الإيرانية في كنف الصين، كان ذلك إيذاناً بأنها أصبحت لاعباً رئيسياً في منطقتنا أيضاً.

ما الذي حدث كي تصبح السياسة الخارجية الصينية أكثر حزماً واستعداداً للمواجهة ولبثّ النفوذ الصيني عالمياً؟ وما، أو من، الذي يدفع بمركز ثقلها من حيز الاقتصاد إلى حيز السياسة؟ وهل يمكن فصل الحيزين عن بعضهما بعضاً حقاً؟ وهل كان من الممكن ألا يُترجَم وزن الصين اقتصادياً إلى وزن سياسي؟ وعلى حساب مَن في عالمٍ تحكمه العقلية الأحادية الغربية؟

وهل كان من المتوقع أن يبقى الغرب الجماعي، وعلى رأسه الإدارات الأميركية المتعاقبة، مكتّف الأيدي وهو يشاهد صعود الصين الصاروخي اقتصادياً وتقنياً، بما يخل بمعادلات هيمنته على العالم، أو أن تحولاً جرى في توجهات دوائر صنع القرار في الصين ذاتها، ما أدى إلى وضعها على مسار تصادمي مع الغرب، أو أن تصاعد التوتر والاحتكاكات ووقوع صدامات بين الصين من جهة والولايات المتحدة من جهةٍ أخرى، كان سيحدث عاجلاً أو آجلاً بين قوتين عالميتين، إحداهما صاعدة والأخرى آفلة، لأن ذلك من طبيعة الأمور؟

تكاد تجمع المراجع الغربية التي تتناول السياسة الخارجية الصينية على أنها:

أ – لم تتحول إلى “رد فعل” على الإجراءات الغربية لعرقلة الصعود الصيني.

ب – لم يبدأ تحولها مع حرب أوكرانيا، بل قبلها بنحو 10 أعوام، مع وصول الرئيس الحالي شي جين بينغ إلى السلطة عام 2013.

يصرّ الكتاب والباحثون الغربيون على أن شي جين بينغ يمثل تياراً عقائدياً متشدداً في الحزب الشيوعي والدولة، وأن توجهاته الصارمة في محاربة الفساد، وتقوية الانضباط الحزبي ووحدة الحزب، ودعم القطاع العام، والدفع باتجاه انصهار القطاعين المدني والعسكري اقتصادياً، ووضع برامج لاجتثاث الفقر في الريف وتعزيز المساواة في المجتمع الصيني من خلال إجراءات تقيّد الثروات الكبيرة، تكشف بالمجمل معدنه “الأيديولوجي” المتشدد.

أما سياسة شي جين بينغ الخارجية، فقد اتخذت طابعاً أكثر حدةً وصداميةً، بحسب المراقبين الغربيين، من ملف بحر الصين الجنوبي، ولا سيما الجزر المتنازع عليها مع اليابان، إلى ملف “استقلال تايوان”، إلى ملف النزاع الحدودي مع الهند.

حملة شعواء على مبادرة “الحزام والطريق”
الأهم، بالنسبة إلى أولئك المراقبين، هو إطلاق الرئيس شي حين بينغ مبادرة “الحزام والطريق” التي تتيح للصين أن تؤدي دوراً قيادياً أكبر في الشؤون الدولية بما يتلاءم مع قوتها الصاعدة، ما يدل، في رأيهم، على “نيات استعمارية” لدى الصين، مع العلم أن مركز الأبحاث البريطاني المرموق “Centre for Economic and Business Research”، وهو مركز غربي مستقل، قدّر بأن مبادرة “الحزام والطريق” ستضيف 7.1 تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي عالمياً مع حلول العام 2040.

وكان المصرف الدولي قد أصدر كتاباً عام 2019 بعنوان “اقتصاديات الحزام والطريق” (Belt and Road Economics)، عدّد فيه الفوائد التنموية الكبيرة المحتملة للدول المشاركة في المشروع، مشترطاً إصلاحات من نوع “الشفافية” و”الحوكمة” و”تحرير التجارة الخارجية” و”دراسة جدوى مشاريع البنية التحتية في كل بلد مشارك على حدة”… كي تحصل الدول على مثل تلك الفوائد، وكأن المصرف الدولي يقول: كان سيكون مشروعاً مفيداً لو جرى تحت رعاية غربية.

مبادرة “الحزام والطريق” هي مشروع الرئيس شي جين بينغ بامتياز. وقد أعلنه في كازاخستان بعد أشهر فحسب من توليه سدة الحكم عام 2013. وليس مفاجئاً أن حملةً منهجيةً تُشَن ضد المشروع عالمياً تحت عناوين مثل “دبلوماسية فخ الديون” الصينية، وهو في الواقع مصطلح ابتكره مركز أبحاث هندي عام 2017 لوصف الأثر المزعوم الناجم عن مبادرة “الحزام والطريق” في البلدان النامية، لتتلقفه وسائل الإعلام الغربية وتعممه على نطاقٍ واسع.

يتصل بذلك أيضاً الحديث المتداول عن “الكولونيالية الجديدة” و”الإمبريالية الاقتصادية” الصينية في ما يتعلق بأثر مشروع “الحزام والطريق” الذي يقدم هنا كمشروع استعماري توسعي صيني، وممّن؟ من قبل أساطين الاستعمار الأوروبي والإمبريالية الأميركية، أكبر آلة حربية في التاريخ، لوصف مشروعٍ تنموي سيدرّ الخير العميم على دول الشرق والجنوب، حتى لو افترضنا جدلاً أن تجاوزات وأخطاء اعترته هنا أو هناك مثل أي مشروع تاريخي!

يفترض أن ينتهي إنجاز مشروع “الحزام والطريق” عام 2049 في مئوية تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وأن يضم أكثر من 150 دولة في العالم عند إنجازه. أما لِمَ يعد الغرب مبادرة “الحزام والطريق” “مشروعاً عدوانياً”، فالجواب واضح، وهو أن الغرب عده تحدياً مباشراً لهيمنته العالمية، وتحولاً للصين عن نهج السعي لتحقيق مكاسب اقتصادية في ظلال منظومة هيمنته من دون أن تسعى لنحت دورٍ قيادي خاصٍ بها.

الصين في ظل نهج دينغ سياو بينغ
ظلت الصين إذاً بعد ماوتسي تونغ تتبع سياسة خارجية تقوم على تجنب الصدامات والنزاعات والتركيز على التنمية داخلياً والفرص الاقتصادية خارجياً من دون هز قارب الهيمنة الغربية. كانت تلك السياسة التي أرساها منذ نهاية السبعينيات دينع سياو بينغ؛ قائد الصين الفعلي بعد ماوتسي تونغ.

حكم دينغ سياو بينغ الصين منذ عام 1977 حتى وفاته عام 1997، من دون أن يصبح رئيس الصين اسمياً. ورغم أنه عوقب وأقصي مرتين في ظل ماوتسي تونغ بسبب الاشتباه في ميوله السياسية، فإنه تمكن من إزاحة خليفة ماوتسي تونغ المنتقى ليحل محله على رأس السلطة.

استهل دينغ سياو بينغ عهده داخلياً بالتراجع عن توجهات ماوتسي تونغ، ولا سيما اقتصادياً، وكان من ذلك إفراده حيزاً واسعاً جداً في الاقتصاد للقطاع الخاص الكبير. أما خارجياً، فقد زار الولايات المتحدة الأميركية في ظّل الرئيس الأسبق جيمي كارتر، وأسس علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة عام 1979 اعترفت الولايات المتحدة بموجبها بسياسة “صين واحدة” ساحبةً اعترافها بتايوان، وكان دافعها طبعاً تفكيك المعسكر الاشتراكي.

سعى دينغ سياو بينغ في الآن عينه إلى تحسين العلاقات مع اليابان، وشن حرباً على فيتنام الخارجة للتو من احتلال أميركي، ورحب بالشركات الأميركية في الصين، وتابع سياسة مناهضة الاتحاد السوفياتي حتى وصول ميخائيل غورباتشوف إلى سدة السلطة في الكرملين عام 1985. وفي عام 1989، في ظل غورباتشوف، استعيدت العلاقات الرسمية بين الصين والاتحاد السوفياتي السائر في طريق الزوال.

أرسى دينغ سياو بينغ سياسة خارجية تقوم على مبدأ “اتخذ وضعية غير لافتة للأنظار. خذ وقتك. اخفِ قدراتك. ولا تطالب بموقع قيادي أبداً”. كان ذلك يعني قبول الصين بالهيمنة الأميركية فعلياً، والسعي لإقناع الغرب بأنّ نموها يخلق فرصاً له. وقد تجنب أيضاً الخوض في الملفات العالقة أو الخلافية.

التزم رئيسا الصين اللذان انتقاهما دينغ سياو بينغ من بعده بالخط الذي أرساه في السياسة الخارجية. حكم جيانغ زيمين حتى عام 2003، وحكم هوجِنتاو منذ عام 2003 حتى عام 2013، عندما وصل الرئيس الحالي شي جين بينغ إلى الحكم.

نموذج التعامل مع قصف السفارة الصينية في بلغراد عام 1999
خلال حكم جيانغ زيمين مثلاً، قصفت الولايات المتحدة سفارة الصين في بلغراد في 7/5/1999 بخمس قنابل موجهة خلال حملتها العسكرية على يوغوسلافيا السابقة، فقتلت عدة صينيين، ثم اعتذرت زاعمةً أن خطأ وقع في تحديد الإحداثيات، فأصدرت الصين بيان إدانة.

شهد رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) أمام لجنة من الكونغرس بعدها أن الخطأ ارتكبته وكالته التي أشرفت على توجيه الضربة، فأساءت تقدير الإحداثيات.

اندلعت تظاهرات واسعة في الصين، وحاصرت السفارة الأميركية وقنصلياتها وبعض منازل الدبلوماسيين الأميركيين في الصين، فخرج نائب الرئيس آنذاك هوجِنتاو، الذي أصبح فيما بعد رئيساً، على التلفزيون الصيني مديناً الإجرام الأميركي، قائلاً إن التظاهرات “غير المرخصة” التي قام بها الصينيون، كما سماها، تعبيرٌ مشروع عن الغضب والوطنية، لكنه حذر من أي سلوك “متطرف وغير قانوني” (ضد المرافق الدبلوماسية الأميركية في الصين).

يبدو أنَّ هذا هو الخط الصيني في السياسة الخارجية الذي يعده الغربيون “غير عدواني”. ومن الواضح أن ثمة قوى داخل الصين، حتى في أعلى هرم السلطة، لم يكن يعجبها ما يجري، وكانت تحمي تلك التظاهرات وتشجعها ربما.

جاء قصف السفارة الصينية في يوغوسلافيا السابقة عقاباً على الفيتو الصيني-الروسي المزدوج في مجلس الأمن ضد مشروع قرار تفويض الناتو قصف يوغوسلافيا، فشن الناتو عدوانه من دون غطاء من مجلس الأمن، قاصفاً السفارة الصينية في بلغراد. وكان التهاون الصيني في الرد مثيراً للشفقة حقيقةً، وخصوصاً كقوة عظمى. وفي النهاية، دفعت الولايات المتحدة بضعة ملايين الدولارات تعويضاً عن “الخطأ”، وأغلق الملف.

مشروع الغرب لاحتواء الصين بدأ قبل عهد رئيسها الحالي
سبقت الإشارة إلى أنَّ هوجنتاو الذي حكم الصين بين عامي 2003 و2013 التزم نهج دينغ سياو بينغ في طأطأة الرأس للغرب، تهاوناً أو مخاتلةً، لا يهمّ، لأنها إن كانت مراوغة، فقد طالت أكثر من اللزوم.

وعندما أعلن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إعادة محورة السياسة الخارجية الأميركية باتجاه آسيا “Asia Pivot” لاحتواء الصّعود الصيني، ظلّ هوجنتاو على الخطّ ذاته، بل سعى إلى تحسين علاقات الصين مع اليابان والولايات المتحدة وقنّن العلاقات مع روسيا.

كتبت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية في تلك المرحلة، في عدد شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011 من مجلة “Foreign Policy” الأميركية مقالة متغطرسة بعنوان “قرن أميركا الباسيفيكي”، عن حلول الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في منطقة المحيط الهادئ. كان ذلك يشبه إعلان حربٍ على الصين فعلياً من مصدر رسمي أميركي.

انخرطت إدارة الرئيس أوباما في ما يسمى “الربيع العربي”، كبديل من التدخل العسكري المباشر على نمط العراق وأفغانستان، من أجل التركيز على الصعود الصيني فعلياً، وكان التحشيد العسكري الأميركي في منطقة المحيط الهادئ يتصاعد عهد الرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش الابن من قبلُ.

إن تسليط الضوء على هذا التسلسل في الأحداث قبل وصول الرئيس شي جين بينغ إلى السلطة مهمٌ في مواجهة الكتاب الغربيين الذين يرون أن التحول في السياسة الخارجية الصينية هو نتيجة “خيار أيديولوجي” اتخذته إدارة الرئيس شي جين بينغ الحالية، لا نتيجة طريقة تعامل الغرب مع الصين التي كانت قيادتها تسعى لتجنب الصدام معه بمختلف السبل.

كان الصدام فعلياً حصيلة طبيعية لسياسة الهيمنة التي يتبعها الغرب، وكان أوانه قد استحقّ قبل زيارة نانسي بيلوسي لتايوان بأمدٍ بعيد، ولم يعد من الممكن للغرب أن يترك الصين تنمو إلى أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم من دون أن تكون لذلك استحقاقاتٌ سياسية.

تغيير الحرس في بكين
رغم ذلك، فإن شيئاً ما حدث في بكين يخالف المعهود صينياً منذ دينغ سياو بينغ. ولعلَّ طرد الرئيس السابق هوجِنتاو أمام شاشات الكاميرات من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني في 22/10/2022 من المؤشرات على أن مرحلةً أخرى بدأت، وأن تحولاً كبيراً قد حدث.

ومن البديهي أن طرد هوجِنتاو علناً من قاعة المؤتمر لم يكن ليجري بمثل هذه السلاسة، من دون أي رد فعل من أعضاء المكتب السياسي أو الحضور، لولا اجتثاث التيار الذي يمثله؛ تيار دينغ سياو بينغ. وقد ظهر هوجِنتاو مرة واحدة بعدها على التلفزيون الصيني في الجنازة الرسمية للرئيس الصيني الأسبق جيانغ زيمين في 5/12/2022، بمحاذاة الرئيس الحالي شي جين بينغ، بصحبة مرافق.

لم تكن العلاقات الصينية الأميركية متوترة سياسياً فحسب قبل دينغ سياو بينغ، فالولايات المتحدة دعمت أيضاً الطرف المناوئ للحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية، كما أن الصين، على عكس الاتحاد السوفياتي السابق، خاضت معارك مباشرة ضارية مع الولايات المتحدة الأميركية في شبه الجزيرة الكورية خلال الحرب التي جرت فيها بين عامي 1950 و1953، والتي سقط فيها أكثر من 180 ألف صيني، ونحو 34 ألف جندي أميركي.

وعام 1954، احتلت تايوان مجموعة من الجزر الصغيرة في مضيق تايوان الذي يفصلها عن البر الصيني، فشرعت الصين بقصف تلك الجزر، وتصاعدت التوترات والاشتباكات، فلما شرعت الصين باتخاذ إجراءات حاسمة هددتها الولايات المتحدة مباشرة بشن ضربة نووية عليها. وقد ظلت الصين مكشوفةً من هذه الناحية إلى أن أجرت أول اختبار نووي عام 1964، في حين كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تسلح الحركة الانفصالية في التيبت منذ نهاية الخمسينيات.

ثمة صحوة في الصين إذاً، ربما تكون حرب أوكرانيا وتبعاتها قد أجّجتها، لكنها بدأت قبلها جزئياً بسبب سياسة القطب الواحد وسعي الغرب لاحتوائها، وجزئياً بسبب تغير الحرس في بكين. الشعار المرفوع الآن هو “الجرأة على النضال” بدلاً من “اخفِ قدراتك وخذ وقتك”.

وقد ظهر هذا الشعار مجدداً في تقرير الرئيس شي جين بينغ إلى المؤتمر العشرين للحزب الحاكم في صيغة: “الجرأة على النضال، وأن نكون بارعين فيه”، في سياق الحديث عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وإذا شئنا أن نقارن، يمكن القول إنَّ ما جرى في الصين بعد هوجِنتاو يشبه ما جرى في روسيا بعد يلتسين.

الأسس الجديدة للسياسة الخارجية الصينية
كانت سياسة الصين الخارجية تقوم في الماضي، بحسب بحث في مجلة “قضايا دولية” اليابانية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، على الأسس التالية:

1) تقوية العلاقات مع اليابان والولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية.

2) السعي الحثيث للانخراط في النظام الدولي الذي يقوده الغرب، وفي المنظمات الدولية والإقليمية القائمة.

3) عدم تشكيل تحالفات خاصة بالصين.

أما الآن، فإن السياسة الخارجية الصينية باتت تقوم، بحسب البحث ذاته، على تعزيز تعاون “جنوب – جنوب”، أي تقوية علاقات الصين بالدول النامية والصاعدة، وعلى تشكيل مؤسسات دولية وإقليمية بعيداً من تلك القائمة، وعلى تهميش العلاقات مع الغرب من دون قطعها حيث أمكن.

ولعلَّ هذا يظهر، أكثر ما يظهر، في تركيز الصين على مؤسسات مثل “بريكس” و”منظمة شنغهاي للتعاون” ومبادرة “الحزام والطريق”، وأخيراً وليس آخراً، مبادرة الأمن العالمي (Global Security Initiative) التي نشرت الخارجية الصينية ورقة عنها في موقعها في 21/2/2023، والتي يرى المحللون الغربيون أن هدفها هو خلق إطار عالمي بديل للهيمنة الغربية تؤدي روسيا فيه دوراً كبيراً.

وفي مؤتمر حول تحولات السياسة الخارجية الصينية نظمته وزارة الخارجية النرويجية والمعهد النرويجي للقضايا الدولية في 21/3/2023 في النرويج، استنتج المجتمعون أن عصر انفتاح الصين الذي أرساه “فصيل دينغ سياو بينغ” انتهى، وأن المجموعة الحاكمة حالياً لا تجد من يوازنها داخلياً أو من يخفف اندفاعها، وأن الصين باتت تحاول تغيير النظام الدولي السائد بوسائل مشروعة أحياناً، ولكن أيضاً “بالتنمر على البلدان الأخرى، وبإكراهها أحياناً بوسائل اقتصادية وعسكرية وأمنية وإعلامية ودبلوماسية”، وأن إجماعاً نشأ بين اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية على أن “الصين تمثل تهديداً، وأن ذلك يقتضي القيام بشيءٍ ما في الميدانين العسكري والأمني”.

باختصار، باتت مواجهة الهيمنة الأميركية عالمياً على رأس جدول أعمال السياسة الخارجية الصينية، بمقدار ما أصبحت مواجهة الصعود الصيني على رأس جدول أعمال السياسة الخارجية الأميركية.

أما الدول التي كانت تعد “مارقة” في النظام الدولي القديم، مثل كوريا الشمالية وإيران وكوبا، فقد اكتسبت أهميةً جديدةً في أعين الساعين لإقامة نظام دولي جديد، وصار لديها فرص لكسر الحصار المفروض عليها، إذ جاءت تحولات المشهد الدولي كنسمة هواء عليل بالنسبة إليها. وبالاستعارة من كوندوليزا رايس، يمكن أن نقول: إنها آلام مخاض ولادة نظام عالمي جديد.
المصدر: الميادين نت