الحرب النوويّة أو التفكير في ما لا يُمكن تصوّره

الحرب النوويّة أو التفكير في ما لا يُمكن تصوّره
Spread the love

شؤون آسيوية- بقلم: محمود برّي

نفذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وحتّى اليوم، تغيَّر العالَم بشكلٍ يكاد لا يُصدّق. الحرب أوّلاً، وفي وسط أوروبا بالذّات؟! هذا أكثر من انقلاب تامّ لعصرِ ما بعد هيروشيما.. لكنّه صار الخبر الكئيب الذي تتواصل وقائعه المؤلِمة يوميّاً في وسائل الإعلام، إلى جانب أخبارٍ شتّى عن أسعار الجبنة والبيض وذوبان ثلوج القطب. الأمر ليس بسيطاً ولا عابراً. والأقسى والأشدّ خطورةً وإرباكاً أنّ المُجتمع البشريّ في دول العالَم على اختلاف مَراتبها، بات يتصرّف كما لو أنّه فَقَد بين يومٍ وليلة مسؤوليّته الإنسانيّة الواعية، ودَخَلَ من دون كبير تردُّدٍ في عمليّةِ تطبيعٍ جماعيّة شاملة مع فكرة الحرب النوويّة؛ الحرب التي لا حياة بعدها ولا أرض ولا كوكب…

الأمر الكارثي الذي كان مجرّد احتمالٍ نظريّ على ورقٍ حتّى أمسٍ قريب، بات اليوم موضوعاً حاضراً بجدّيّة، ويَظهر بشكلٍ شبه يومي على ألسنةِ قادةٍ كبار في هذا العالَم، منذ أن تحدّث به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد بدء العمليّة العسكريّة في أوكرانيا، ثمّ عاد لطرْحه كبرنامج عمل اليوم. في المرّة السابقة توجَّه عبر الإعلام متحدّثاً عمّا لم يكُن يُمكن تصوُّره، ثمّ وَضَعَ قوّات الرّدع النوويّة الروسيّة في حالةِ تأهُّب، وهي الخطوة التي اعتبرتها الولايات المتّحدة وحلف الناتو “تصرُّفاً خطيراً”. وكلّ ذلك قبل افتتاح موسم نانسي بيلوسي في تايوان… واليوم، يُقال إنّه يحمل لوحة أزرار الإطلاق معه أينما ذهب.

هذا من شأنه أن يُعيدنا إلى العام 1962 عندما نَشَرَ الأميركي هيرمان كان (من أبرز الكتّاب المستقبليّين في الثلث الأخير من القرن العشرين) كتابه “المُخيف” عن الحرب النوويّة بعنوان: “التفكير في ما لا يمكن تصوّره”، مُتحدّثاً عن السيناريوهات “الكارثيّة” التي قد تُفضي إليها تلك الحرب. إلّا أنّ الفيلسوف البريطاني المُسالِم برتراند راسل تقدَّم خطواتٍ إضافيّة في هذا السبيل من خلال كتابه اللّافت الذي أصدره قبيل وفاته (العام 1970) بعنوان: “هل للإنسان من مستقبل؟”. يَومها وَضَعَ راسل إصبعه على نقطةٍ مهمّة، إذ كتب يقول “إنّ هناك مشكلة غير مفهومة فهماً كافياً في الدوائر الغربيّة، وهي أنّ الروس يشعرون دائماً، وفي شعورهم – على حدّ تعبيره – نَوعٌ من الصواب، إنّه حالَ تضارُب المصالِح، ستقف روسيا وحدها في جانب والدنيا جميعها في الجانب الآخر، ولقد حدثَ في مسائل عديدة أن وجدْنا روسيا في ناحية وثلاث أو أربع دول أخرى في الناحية الأخرى”.

أَدرَكَ راسل هذا الواقع قبل خمسة عقود ونيّف، فهل يحقّ لنا اليوم، ولاسيّما منّا كلّ المُمسكين بزمام الكوكب، ألّا نكون على دراية بهذا الواقع؟ أم أنّه علينا أن نردّد مع ذلك الفيلسوف أنّ البشرية مجبولة على الشقاء لا الهناء؟

الحرب الروسيّة/ الأوكرانيّة فَتحت المخاوف واسعةً أمام الكثير من الصياح النووي ممّا تتردَّد أصداؤه بين الشرق والغرب؛ فهل من المُمكن للمجتمع البشري الذي بَلغ شأواً بعيداً على مستوى المعرفة والحضارة والذكاء، أن يصمّ آذانه عن هذا التوجُّه غير المنظور إلى الدمار، أم أنّ الأجدر بالإنسان إعادة مُراجَعة أوراق برتراند راسل مرّةً جديدة قبل أن يشتعل العالَم نوويّاً؟

يُمكن لمُتفائلٍ القول إنّ الحرب النوويّة التي لن تُبقي ولن تذر ولن يُكتب فيها النصر لأيّ طرف… والتي ستكون خاتمة الحروب والحياة، هي مجرّد فرضيّة معلَّقة في فضاء الترف التفكيري، يرعاها المنطق الشكليّ البحت. لكنْ، لنتأمَّل في الأمر جيّداً. أليس أنّها تخطّت ذلك بشوطٍ بعيدٍ وصارت فرضيّةً يتحدّث الروسي عنها كأمرٍ مُقبل، يعمل ربّما على تحضير أدواته، حتّى ليبدو أنّ “وسائل الحدّ من خطر حرب الفَناء هذه، كما يُسمِّيها المفكّر الأميركي “نعّوم تشومسكي”، تختفي تماماً من بين أيدينا”. وحين يخرج مفكِّر أميركي آخر لا يقلّ شأناً وهو “فرانسيس فوكوياما” صاحب مقولة “صراع الحضارات”، ليُعلن أنّ مسألة نشوب حرب نوويّة هي “أمرٌ لا يدعو إلى القلق”، يتسبّب كلامه بسخطٍ واسعٍ في أوساط الأنتلجنسيا الغربيّة، وتندفع الصحافيّة المُخضرَمة والمُحلِّلة السياسيّة الكنديّة “ليندا ماكويج” فتكتب في صحيفة “تورنتو ستار” واصفةً كلامه بأنّه “ملاحظة صادمة، وربّما الأكثر حماقة على الإطلاق”.

في الجانب الآخر، فإنّه لمن المُخيف حقّاً أن تصير الحرب النوويّة فكرةً اعتياديّة يمرّ الحديث عنها مع أخبار أسعار السكّر في بورصة طوكيو أو مشكلة البطالة في الصومال. فالعالَم يُمكنه الاستمرار في العيش ولو اضطربت الأسعار أو ارتفع أو انخفض معدّل البطالة في هذا البلد أو ذاك. أمّا بالنسبة إلى الحرب النوويّة، فلا أحد ولا شيء يُمكنه الاستمرار في الحياة بعدها. أليست هذه هي الحقيقة التي نُفضّل تجاهُلَها؟

ثمّ، هل كان الرئيس الروسي “بوتين” خائفاً في الأيّام الأولى من غزو أوكرانيا ليصل إلى حدّ التهويل بإمكانيّة استخدام الأسلحة النوويّة (!)… ثمّ ليُقدِمَ بعد ذلك بقليلٍ على استنفار ترسانة بلاده النوويّة. وأليس هو خائفاً أكثرَ اليوم؟

ليس من المسموح لأيّ إنسان أن يكون لا مبالياً تجاه هذا النمط من التفكير. فالحرب النوويّة ليست ولا ينبغي أن تكون رهنَ مشيئة أحدٍ بعَينه، روسيّاً كان أم غير روسيّ. فهي أكثر شؤون البشر حيويّة وأهميّة تعني الإنسان في كلّ مكان.

والأسوأ من كلام الرئيس الروسي كان كلام الرئيس الأوكراني الذي مضى في حماسته الاعتياديّة يَطرح فكرة تطوير بلاده للسلاح النووي، على الرّغم من كونها إحدى الدول الموقِّعة على معاهدة حظرِ انتشار الأسلحة النوويّة.

أمّا الأشدّ سوءاً، فهو تلك السيناريوهات التي تتناثر في الفضاء الإلكتروني عن كيفيّة وإمكانيّة “تورُّط” القوى العالَميّة العُظمى في حربٍ نوويّة. وقد وصلَ الأمرُ فعلاً ببعض الاستراتيجيّين إلى وضْعِ تصوّراتهم بخصوص الكيفيّات المُحتمَلة لنشوبِ هكذا مُواجَهة، سواء في أوكرانيا أم في تايوان أم في بحر الصين الجنوبي أم في كوريا الشماليّة… بمعنى أنّهم باتوا يتصرّفون ويفكّرون ويكتبون وينشرون على أساس أنّ هذه الحرب (المُستبعَدة والمستحيلة الحدوث والتي لا ينبغي السماح بنشوبها… و… و…) تحمل أيضاً في حقائب نفي حصولها، احتمالات أن تحدث بالفعل. ومن بين تلك السيناريوهات، والأحدث ممّا جرى الإعلان عنه، عمليّة المُحاكاة لمُواجَهةٍ نوويّة شاملة بين روسيا والغرب، والتي نشرتها جامعة برنستون الأميركيّة في العام 2019، (وأعيد تداوُلها أخيراً خلال العمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا). ولنعترف من دون مواربة أنّه منذ أزمة صواريخ كوبا في العام 1962، لم يشهد العالَم مثل هذا المستوى المتهوّر من المخاطر النوويّة.

الحقيقة أنّنا لا نحتاج إلى بذْلِ جهدٍ كبير من أجل أن نكون مُتشائمين بخصوص الغد. وهذه بحدّ ذاتها أزمة يقينيّة. وكلّما مضينا إلى التعمُّق أكثر في الواقع الحالي، نجد أنّ الأمر يزداد سوءاً، ولاسيّما عندما نُتابع بعض المشاهير الـ “مُتفائلين السُّذّج” ممَّن يعتقدون أنّ التهديدات باستخدام الأسلحة النوويّة، هي… انتهاكاتٌ للقانون الدولي. كأنّ هؤلاء المُطمئنّين، أكثر ممّا يحقّ لهم، إلى جدوى القانون الدولي وفاعليّته، لم يكونوا هنا في ذلك اليوم المفارق من شهر شباط/ فبراير الماضي حين اجتاحت آليّات عسكريّة روسيّة أراضي أوكرانيا الأوروبيّة من دون أن “تخرب الدنيا”. فكيف لنا وهذا يحصل أمامنا وعلى شاشاتنا الصغيرة والكبيرة، أن نطمئنّ لعُلماءٍ في السياسة يؤكّدون لنا، مباشرةً أو ضمنيّاً، أنّه “لا داعي للقلق”.

لعلّ المُراهنة الوحيدة التي يُمكن الركون إليها تتمثّل ببعض الأصوات العقلانيّة (التي باتت خافتة) التي يتمتّع أصحابها بمكانةٍ ومعرفةٍ وخبرةٍ مشهودٍ لها. لقد حصلَ أمرٌ مُشابه قبل حوالى عقدٍ من الزمان، حين كتبَ أربعةٌ من هؤلاء (هُم: ويليام بيري، هنري كيسنجر، جورج شولتز، سام نان) مقالَ رأيٍ مُشترَكاً نشرته في حينه صحيفة “وول ستريت جورنال” يدعو إلى “توقُّف العالَم عن الاعتماد على الأسلحة النوويّة، لمنْع وقوعها في أيدٍ متهوّرة، والتخلُّص منها في نهاية المطاف، لأنّها تشكِّل تهديداً للعالَم”.

إلّا أنّ أحداً اليوم لا يبدو مهتمّاً برفع إصبعه مُعترِضاً في هذا الشأن. وهذا ليس بالأمر العابر. فبينما يجري تحرير هذا النصّ، لا يُمكن أن ننسى أنّ العالَم يحتوي في هذه اللّحظة على أكثر من 17 ألف رأس نووي على الأقلّ، وأنّ كلّ دولة نوويّة في العالَم تعمل حاليّاً بنشاطٍ على تجديد ترسانتها النوويّة وملاجئها وتأهيل وتحديث التي لا قيمة لها في مثل هكذا حروب، وأنّ مئات الرؤوس الفاتكة بكلّ أشكال الحياة على الكوكب يُمكن أن تكون جاهزة لارتكاب الجريمة الأخيرة خلال دقائق.

ولا يكفي للاطمئنان أن نتذكّر أنّ إمكانيّة نشوب الحرب النوويّة مُنخفِضة. صحيح أنّها كذلك، لكنّها ليست احتمالاً صفريّاً مُنعدماً؛ بمعنى أنّها أمرٌ قائم، تماماً بقدر ما كان قائماً احتمال سقوط ذلك النيزك المذنّب العظيم على كوكبنا ليتسبَّب بانقراض الديناصورات.

فهل المعنى أنّ الحديث عن انقراض الأجناس ليس مجرّد مخيّلة واهمة؟

السؤال بسيط، بيد أنّه حيويٌّ للغاية.

*كاتب وإعلامي من لبنان*