عن “أسرار الصراع” في المنطقة

عن “أسرار الصراع” في المنطقة
Spread the love

بقلم: حسن صعب* |

تمهيد: خلفية الصراع
شغلت منطقة غرب آسيا، والتي فرض الغرب المستعمر مصطلح الشرق الأوسط كبديل لها، لغايات سياسية وثقافية لا تخفى على أحد، ولا تزال تشغل حيّزاً كبيراً من اهتمامات المؤرّخين والباحثين ودوائر صنع القرار في العالم الغربي وفي المنطقة أيضاً، وذلك لأسباب ودوافع فكرية وثقافية أو جيوسياسية وجيو اقتصادية متناقضة أو مختلفة.
وبمعنى آخر، فإن خوض غمار البحث في جذور الصراع المتعدد الأبعاد في المنطقة، والمستمر منذ عقود مديدة، لا يُعدّ ترفاً فكرياً أو مجرّد اجترار لطروحات عفا عليها الزمن، أو استجابة لدوافع سياسية تحرّكها دولة أو قوّة إقليمية بمواجهة دولة أو قوّة أخرى، داخل المنطقة أوخارجها.
إن البحث المعمّق، والمستند إلى ركائز علمية وموضوعية، في أسباب الصراع الدائر في المنطقة وتحديد سُبل حسمه، يُعدّ من هذا المنظار مسألة مطلوبة، وبالخصوص بالنسبة لما بات متعارفاً تسميته بـ”محور الممانعة والمقاومة”، الذي أصبح نداً حقيقياً لما يسمّى “محور الاعتدال والسلام”، والذي يضم (حتى تاريخه) الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي وعدداً من الدول العربية المؤثّرة.
وضمن هذا الإطار يمكن وضع تجربة المحلّل الاستراتيجي الراحل أنيس النقاش، والتي تجسّدت في كتابه الغنيّ بالمعلومات الدقيقة والتحليلات المنهجية (أسرار الصراع)، والذي يضم سلسلة حلقات متلفزة أعدّها النقاش وقدّمها بنفسه قبل سنوات، وقد تمّ تحويلها إلى كتاب بناءً على رغبة القناة التي عرضت تلك الحلقات، بغية تدوين وتعميم فوائدها الفكرية والسياسية والتعبوية المرجوّة. وهذا ما سنحاول استكماله من خلال هذه القراءة المكثّفة حول أبرز أسرار الصراع في المنطقة، كما فهمها وعايش جزءاً منها النقاش نفسه، والذي كان يركّز على ضرورة التحضير لجبهة مواجهة شاملة مع الغرب المستعمِر وأعوانه والتابعين له في المنطقة، في إطار محور أو جبهة المقاومة.
ومن مقوّمات التحضير لجبهة كهذه، نشر ثقافة الوعي بين جميع الطبقات، وعدم اقتصارها على النّخب الثقافية. ولذلك، هو كان يشدّد على أهمية فهم حقيقة وأسرار الصراع، وأبعاده الحضارية والاقتصادية والثقافية، وأنه من دون فهم هذه الأسرار، وهي ليست سريّة بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يمكن وضع الخطط اللازمة للمواجهة، فضلاً عن تحقيق الانتصار الواضح والحاسم فيها.
في الحلقة الأولى من برنامجه (أسرار الصراع)، يقول النقاش إن ثمّة محاولات حثيثة يقوم بها الاستعمار القديم والجديد لإعادة سيطرته على المنطقة؛ لكن ليس على ثرواتها النفطية وغير النفطية فحسب؛ بل أيضاً على عقول أبنائها، وعلى اتجاهاتهم الفكرية تحديدًا. لذا من المهم جداً تناول أسرار الصراعات والأسس التي قامت عليها، من جانب موضوعي يتعلق بشعوب المنطقة وتراثها وتاريخها؛ ومن جانب آخر على علاقة بما يحيكه الاستعمار من مخططات تستهدف مقدّرات وثروات ومستقبل هذه المنطقة.
وتالياً عرض وتحليل لأبرز المعطيات والأسرار التي كشفها النقاش ضمن برنامجه التلفزيوني قبل سنوات، وتمّ تدوينها وتوثيقها في الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى في العام الجاري(2022) عن دار الاتجاه للطباعة والنشر، التابعة لقناة الاتجاه الفضائية.

بريطانيا وفرنسا: تقسيم دول المنطقة
يؤكد النقاش أن الأزمات التي تواجهها شعوب المنطقة اليوم لها جذور عميقة مرتبطة بنتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية. فقد كان للحرب الأولى الدور الأكبر في تأسيس الأزمات، سواء على صعيد الجغرافيا السياسية، أم على صعيد الديموغرافيا الاجتماعية، أو على صعيد السيطرة على الثروات واستمرار التدخل الأجنبي؛ ناهيك عن تبعية الأنظمة والحكومات والقيادات التي تعاقبت على حكم المنطقة.
ومن خلال السياسات التفتيتية التي اتّبعها البريطانيون والفرنسيون في تلك المرحلة التاريخية (قبل انهيار “الخلافة الإسلامية”)، يستنتج النقاش أن الاستعمار أدرك جيداً كيف يتحرك في الجغرافيا الاستراتيجية للمنطقة؛ والأهم أنه كان يتعامل مع سيكولوجية الأمّة الإسلامية، ويتلاعب بعواطفها من أجل أن يؤسّس بدائل تكون مجرّد أدوات بيده. وهكذا ظنّت الأمّة وظنّ العرب أنهم تحرّروا من الاستعمار(التركي)، لكنهم وقعوا تحت استعمار جديد.
في السياق، يكشف النقاش عن الظروف الغريبة لتأسيس المملكة الأردنية، والتي جسّدها وعد تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، للابن الثاني للشريف حسين، عبدالله، حيث رسم بنفسه (وكان مخموراً) خريطة الإمارة التي أصبحت فيما بعد المملكة الأردنية الهاشمية، ونصّب عبدالله حاكماً عليها. وعندما قال له الأخير في رسائله: أنا لا أنتمي إلى هذه المنطقة وعشائرها (أتى إليها من بلاد الحجاز)، ردّ عليه تشرشل قائلاً: بالليرة الإنكليزية والدعم المادي سيدينون لك بالولاء، وستكون حاكماً على هذه المنطقة.
وهكذا كانت الحال فيما يخص إنشاء الكيان اللبناني، الذي رُسمت خريطته بالتفاهم بين البطريرك الماروني الحويّك والحاكم الفرنسي في حينها الجنرال غورو؛ وهذا ما جرى بالنسبة لإنشاء سوريا والعراق، حيث إن رسم كلّ حدود المنطقة، ديموغرافياً وجغرافياً، وتقسيم المذاهب والأديان، لم يُستشر بهما أحد في العراق أو لبنان أو سوريا أو الأردن.

أهداف المؤامرة الغربية لاحتلال فلسطين
لقد أثبت استمرار المشاريع الغربية التآمرية ضد شعوب المنطقة حتى اليوم صحّة تحليل أنيس النقاش حول الخلفيات الاستعمارية والتقسيمية للدول التي تتدخل في شؤون الدول العربية والإسلامية، وتحاول فرض سياساتها عليها، بغضّ النظر عن مشروعية وأخلاقية هذه السياسات، كما يكشف تواصل الدعم الغربي المطلق للكيان الإسرائيلي، برغم أنه لا يزال يمثّل العدو التاريخي والديني والقومي لشعوب المنطقة، وكذلك سياقات الصراع، واستطلاعات الرأي، المحلية والأجنبية على السواء.
وفي هذا الإطار، يكشف النقاش عن الهدفين الرئيسين اللذين سعت بريطانيا لتحقيقهما حين قرّرت منح اليهود فلسطين:
-الهدف الأول: جيوسياسي استراتيجي، وهو إيجاد كيان مستقل يحمي قناة السويس التي كانت تحت نفوذ بريطانيا؛ وهذه القناة مهمة جداً بالنسبة لها، كونها الطريق الأساس للوصول إلى الهند، جوهرة التاج البريطاني في المستعمرات حينها.
-الهدف الثاني: إيجاد كيان مقاتل له قومية وهويّة منفصلة عن هويّات شعوب المنطقة، ويمكن أن يشكّل قاعدة متقدمة لنفوذ الغرب فيها؛ ومن أفضل من اليهود لتنفيذ هذا المشروع، وهم الذين عملوا تاريخياً لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية بإقامة دولة لهم في فلسطين؟
وفي السياق يكشف النقاش عن خلفيات العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في العام 1967، وكان أهمّها:
-تصاعد النفَس التحرّري الداعي إلى تأسيس منظمات فلسطينية فدائية تتسلّم زمام الأمور من خلال الحرب الشعبية والمقاومة المسلّحة، مدعومة من بعض الدول العربية (مثل الجزائر وسوريا، ولبنان-سرّاً)؛
-منع استمرار علاقة الدول العربية مع المعسكر الاشتراكي.
-تدمير الجيوش العربية، وتحديداً الجيشين المصري والسوري، كي تُثبت إسرائيل للعالم أن التسلّح الشرقي والتعاون مع الاتحاد السوفياتي لا يؤدّي إلى نتيجة.
-إثبات قدرة إسرائيل العسكرية مجدّداً من أجل فرض شروطها على الدول العربية من خلال توقيعها اتفاقيات سلام معها.
-منع أي تحرّك فدائي باتجاه تحرير فلسطين، وأخذ تعهّد من العرب بعدم دعمهم للمقاومة.

فلسطين بين أيلول الأسود وخيانة السادات
في ضوء ما سبق يمكن تحديد خلفيات مجازر أيلول الأسود في الأردن (17-27/9/1970)، والتي ادّعى النظام الأردني حينها أنها حدثت بسبب ممارسات قوات منظّمة التحرير الفلسطينية في الأردن. فقد كشف النقاش عن الأسباب الحقيقية التي دفعت بالملك حسين لارتكاب هذه المجازر بحق الشعب الفلسطيني، والتي لخّصها بنقطتين اثنتين:
-النقطة الأولى: شعور الغرب بخطر كبير، مع تصاعد العمل الفدائي، وتقدّم بناء الجيوش العربية، لأن ذلك يمكن أن يثوّر المنطقة كلّها، في مواجهة الاستعمار الغربي والاحتلال الصهيوني.
-النقطة الثانية: شعور العرش الهاشمي بالخطر من جرّاء انتشار العمل الفدائي في الأردن.
وقد فعلت التوجيهات الأميركية والبريطانية فعلها، بموازاة التحريض الإسرائيلي للملك حسين على ضرب المنظمات الفدائية، وتقديم ضمانات بدعمه، في مقابل تهديده بالإطاحة بعرشه إن لم يفعل، لأن نظامه سيفقد دوره الوظيفي بالنسبة للغرب حينها.
وهذا ما أثبتته الأدوار الخطيرة التي تكفّل ملك الأردن بها لاحقاً، بعد “انتصاره” الدامي على الفدائيين، لجهة استكمال مساره الإذعاني للغرب، وعقده “اتفاقيات سلام” مع الكيان الإسرائيلي، مع تجاهله لمسؤوليات بلاده التاريخية والأخلاقية بخصوص القضية الفلسطينية.
وهذا التوصيف ينطبق إلى حدٍ كبيرٍ على ما فعله أنور السادات الذي تسلّم سدّة الرئاسة المصرية بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، من خلال خوضه لحرب تشرين 1973 التحريكية (وليس التحريرية)، وذلك بسبب التأثير المباشر للبترودولار وللدول الخليجية على بعض الأنظمة العربية، وبما ترك أثره البالغ على تفكير السادات ومواقفه.
فهو كان قد كشف بنفسه عن أهدافه من حرب تشرين لوزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر، بأنه لم يكن يريد أن يستمر بالمعركة ويتحدّى الولايات المتحدة، خصوصاً بعد إدراكه أنها هي من أعطت المعلومات لإسرائيل، وهي التي سمحت لها بالاختراق الذي قلب مسار الحرب(ثغرة الدفرسوار)، وزوّدتها بكلّ الدبابات التي خسرتها عبر جسر جويّ كان ينزلها في سيناء، من دون حتى أن تغيّر ألوانها.
وهكذا انتهت حرب تشرين بمأساة كبرى، كان من تداعياتها أن بقيت سوريا لوحدها تخوض حرب استنزاف، فيما وقّعت مصر اتفاق فصل القوات؛ وصولاً إلى توقيعها بعد سنوات قليلة اتفاقية كمب ديفيد الاستسلامية (17 أيلول / سبتمبر 1978).
ولا ننسى هنا أن السادات هو صاحب الشعار الشهير الذي رفعه قبل خوضه حرب تشرين بسنة تقريباً، وبعد طرده للخبراء والمستشارين السوفيات من مصر: 99٪ من أوراق الحل (اللعبة) بيد أميركا!

زلزال انتصار الثورة الإسلامية
قلب انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979 الأوضاع في المنطقة رأساً على عقب، إن من جهة الأنظمة العربية والحركات المقاومة، أو من جهة الصهاينة الذين اكتشفوا أن كل جهودهم لإخراج مصر من دائرة الصراع قد ذهبت سدى، بظهور إيران التي أعلنت على الفور التزامها الكامل بفلسطين، وبدعم الكفاح الفلسطيني المسلّح إلى أقصى حد، وذلك باعتبارها القضية الفلسطينية مسألة عقائدية دينية، ومسألة أساسية في أدبيات الثورة الإسلامية.
ومن هذه الخلفية يمكن فهم سياسات التحريض الغربية-الإسرائيلية التي نجحت سريعاً في إشعال الحرب المدمّرة بين العراق القوي عسكرياً وإيران الإسلامية الملتزمة بتحرير فلسطين، والتي تلاها غزو النظام العراقي للكويت، لينحرف الصراع في المنطقة عن أن يكون عربياً- إسلامياً ضدّ العدو الصهيوني، فيصبح صراعاً عربياً-عربياً وإسلامياً-إسلامياً بين الفرق والمذاهب المختلفة.
إلاّ أن انتصارات محور المقاومة، أي إيران وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين آنذاك، فاجأت الولايات المتحدة ودفعتها للتدخل بنفسها في المنطقة؛ وكان هدفها الأوّل هو العراق، والنفط هو هدفها الثاني. وكانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت دولة مستوردة، لأن احتياطها النفطي كان قد انخفض بشكل دراماتيكي بحيث أصبح لا يتعدّى سبعة عشر في المائة.
ولذا، فإن اجتياح أميركا للعراق في العام 2003 بذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل، وعلاقته بهجوم 11 أيلول / سبتمبر 2001 الذي نفّذه تنظيم القاعدة، كان هدفه الحقيقي هو النفط وأمن إسرائيل.
وقد أدّى هذا الاجتياح المدمّر والفاشل بالولايات المتحدة لدفع “إسرائيل” كي تقوم بدورها بضرب المقاومة في لبنان، واستهداف القدرات السورية المساندة لها، من أجل شلّ محور المقاومة الذي تدعمه إيران؛ وكانت حرب تموز / يوليو 2006 التي فشلت فيها إسرائيل أيضاً. وهكذا أصبحت أميركا في ورطة كبيرة على مستوى المنطقة، حيث لم يبقَ أمامها إلاّ العمل على نشر الفتنة القومية والطائفية.

الاستثمار الأميركي للإسلام السياسي
بدأ الاستثمار الأميركي الخطير للإسلام السياسي، من خلال تأسيس أو دعم ما سمّي الجهاد الأفغاني أو الجهاد العالمي، من أجل تحويل أفغانستان، التي دخلها جيش الاتحاد السوفياتي (عام 1979) بناءً على طلب قائد الانقلاب العسكري حينها، بابراك كارمل، إلى فييتنام سوفياتية؛ مع الإشارة إلى أن هذا الاستثمار الأميركي للإسلام السياسي ليس جديداً، بل هو يعود إلى خطط سريّة بدأ تطبيقها في المنطقة منذ خمسينات القرن الماضي، على أقل تقدير.
فمع انتهاء “الجهاد” في أفغانستان، وطرد “الاحتلال الملحد”، عاد “المجاهدون العرب” إلى بلادهم، لتندلع حروب ومعارك دامية (مع الأنظمة الحاكمة فيها)، والتي صبّت كلّ تداعياتها في خدمة الأهداف الأميركية التقسيمية.
وفي عودة إلى الاحتلال الأميركي للعراق – والذي تحدّث عنه النقاش ملياً كونه شكّل تحوّلاً استراتيجياً ترك تداعياته الكارثية على مستوى دول وشعوب المنطقة كلّها- فقد أثبتت السياسات الخبيثة للأميركيين المحتلّين، والذين فوجئوا بالمقاومة العراقية الشرسة لهم، أنهم لم يعدموا وسيلة إلاّ واتّبعوها بهدف ضرب المقاومة العراقية وتشتيتها وضرب فصائلها المتنوعة (الشيعية والسنيّة) بعضها ببعض، وبما يتفق مع الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة في المنطقة، كما مع أهواء ومصالح الجماعات الجهادية (التكفيرية) التي نجحت في نشر الفوضى والاقتتال الأعمى في بعض الدول العربية، ومنها العراق والجزائر وسوريا. ولكن إلى حين، حيث تمكنت المقاومة من طرد أغلب القوات الأميركية المحتلة من العراق، وذلك بدعم كامل من إيران وسوريا وحزب الله على وجه الخصوص.

استراتيجية القوّة الناعمة كبديل عن الحرب العسكرية
بعد فشل خططها ومشاريعها، بدأت الإمبريالية تُخرج من أدراجها ملفات الخطط البديلة، لضمان استمرار سيطرتها وهيمنتها، ولكن من منطلق مختلف، هو منطلق “القوّة الناعمة”؛ أي العمل الطويل الأمد لتفجير الأوضاع من داخل المجتمعات العربية، ومن داخل بيئة المقاومة، فيما تكتفي الولايات المتحدة و”إسرائيل” بدور المتفرّج فحسب.
وهكذا ظهرت استراتيجيات جديدة وذكيّة، والتي تمّ تمويلها بمليارات الدولارات؛ وكان خطرها يكمن في أن حركتها تستّرت وراء شعارات برّاقة. فليس هناك طائرات تقصف، ولا دبابات تتقدم، بل تحرّكات وخطوات مدروسة أظهرت عيوب شعوب المنطقة الاجتماعية والاقتصادية والعقائدية، بموازاة انكشاف ضعف بعض القيادات العربية في التعامل معها. وفي السياق، يدعو أنيس النقاش إلى الاستفادة من التجارب المريرة التي عايشتها شعوب المنطقة، من أجل تجنيب الأجيال العربية والإسلامية القادمة مواجهة تجارب مكلِفة، على قاعدة أن الاستعمار الأجنبي هو من يتلاعب بمنطقتنا ويحاول إشعال الحروب فيها عن طريق الصراع بين الهويات؛ مع العلم بأن جوهر الصراع ليس في مضمونه سياسة؛ فالسياسة الإيجابية والإنسانية عابرة للهويات وتفيد كل البشر، بينما السياسة المتعصبة القائمة على مصلحة أبناء الهوية الواحدة على النمط العشائري تشكّل بداية للاشتباك مع المكوّنات الأخرى.
وبكلام آخر، فإن صراع الهويّات لا يؤدّي إلى أي نتيجة سوى أنه مفتاح صراع بني البشر فيما بينهم. أما صراع السياسات، فلا يعني انتهاء المعارك والمقاومة والاحتلالات، ولكنه يؤسّس لسياسات عادلة تؤمّن مصالح الجميع من دون استثناء.
وتثبت القراءات المختلفة للتحوّلات والأحداث المتسارعة في المنطقة صدقية ما طرحه النقاش قبل سنوات حول خطورة الحرب الناعمة التي تشنّها قوى الاستعمار الجديد، بموازاة الحرب العسكرية والأمنية التي لم تتوقف منذ عقود، وإنما خفّت وتائرها وتبدّلت بعض وسائلها، لتتكامل مع الحرب الناعمة، ضمن ما بات يُعرف بالحرب المركّبة أو حروب الجيل الرابع.
إن كلّ ما يجري اليوم من مواجهات عسكرية وأمنية وسياسية ودبلوماسية واقتصادية وإعلامية، في ساحات الصراع في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وصولاً إلى ساحات الصراع بين روسيا وأوكرانيا وبين الصين وتايوان وبين كوريا الشمالية وجارتها الجنوبية، وبتحريك مباشر من الحلف الأميركي – الأوروبي وأدواته، يُظهر خطورة الحرب الناعمة وأهمية التصدي الشامل لها، وتحديداً في المجالات الفكرية والثقافية والتعبوية التي تتناسب مع طبيعة الحرب المعادية وأساليبها المتنوعة والملتوية. وهذه المسألة ليست مهمة مستحيلة في أي حال.

خاتمة
يمكن الاستنتاج، بعد الإشارة إلى أهمية الأفكار المتوازنة والوقائع التاريخية التي عرضها الباحث والمحلّل أنيس النقاش بشكل سلسٍ ويسير الاستيعاب، بأن الصراع مع الهيمنة الغربية والصهيونية هو صراع عميق الجذور ومختلف الأبعاد، وأن على الأجيال العربية الصاعدة أن تعيد قراءة أسباب الصراع في المنطقة مجدّداً، في ضوء التجارب السابقة المشرّفة للأجيال التي سبقتها، بكلّ إخفاقاتها ونجاحاتها، والتي يجب أن تستند إلى تنمية رؤاها الفكرية والسياسية والتاريخية للصراعات، أسبابها وتداعياتها، بموازاة تطوير قدراتها العسكرية والمادية التي تتناسب مع خطط الأعداء وأساليبهم المتغيرة باستمرار، وفي مقدّمتها تصعيد مستويات الوعي الفكري والسياسي والنفَس “المشرقي الوحدوي”- بحسب تعبير أنيس النقاش – داخل المجتمعات العربية والإسلامية إلى مداه الأقصى، بغية تحقيق أهداف الأمّة، بكلّ دولها وشعوبها وفئاتها، والمنكوبة منذ عقود بالكيان الغاصب لفلسطين، كما بالهيمنة الغربية الفتّاكة على المنطقة عموماً.

*باحث لبناني.