الشاعرة الأميركية لويز غلوك: أهرب من النجومية ولا أستخدم الكومبيوتر

الشاعرة الأميركية لويز غلوك: أهرب من النجومية ولا أستخدم الكومبيوتر
Spread the love

 

حوار: ديدييه جاكوب – تعريب: د. غادة بوشحيط |

مرت الشاعرة الأميركية لويز غلوك بالكثير من الفترات المعتمة في حياتها، شابها الكثير من الإحباط. وفي هذا الصدد تقول غلوك: “على الرغم من ذلك، كنت أعيد المحاولة في اليوم التالي ويسير كل شيء على ما يرام”.

لم يمنعها حصولها على الكثير من الجوائز الأدبية المهمة في الولايات المتحدة الأميركية، من عدم استسهال صنعة الكتابة الأدبية. قرأت الكثير من الأساطير منذ الطفولة. كلامها – كما كتاباتها – يتم بكلمات محسوبة ودقيقة. أشعار غلوك من نوعية نادرة، أبياتها قلقة، تحترم جمال الطبيعة كما تثير فضولها هواجس اليومي. نحزر ببساطة التزام الشاعرة خلف كلماتها، كمن يردد ترنيمة قديمة، أو كمن يقوم بجولة في صحراء الكلام تحت أعيننا. ننقل هذا الحوار الذي أجراه ديدييه جاكوب لمجلة “لوبس” الفرنسية عدد شباط / فبراير 2021، رقم: 2944، ونقلته إلى اللغة العربية د. غادة بوشحيط:

 

-كيف تولد اهتمامك بالشعر؟

وقعت على أنطولوجيا شعرية حين كنت صغيرة جداً في بيت جدتي أظن، وكنت قد تعلمت القراءة في سن صغيرة. أذكر أني اكتشفت في سن الخمس أو الست سنوات نصوصا للشاعر ويليام بلايك ومقاطع لشكسبير. لم أفهم شيئاً منها، ولكن نغمتها أثارتني. بدا لي مهماً أن أمد جسوراً للحوار مع هذين الكاتبين الراحلين. بدأت بكتابة أشياء صغيرة بسن الست سنوات ولم أتوقف منذ ذلك الحين.

 

-أي نوع من الأطفال كنت؟

كنت صعبة المراس، كنت أحب بسط سيطرتي، والتحكم بالمواقف المختلفة. لم أكن أميل إلى الرياضة كثيراً، لذا قضيت كثيراً من الوقت في القراءة. كنت مرحة، لكني أبداً لم أكن سهلة المراس بالنسبة لكل معارفي الأطفال كما الكبار منهم.

 

-أنت من عائلة يهودية ذات أصول روسية، هل أثّرت فيك تلك الثقافة؟

إنها فكرة أود تصحيحها. كنا يهوداً فعلاً، ولكن جذوري الروسية بعيدة جداً لم أعِ بها. أبي من أصول مجرية، كان الطفل الأول لعائلة من المثقفين ولدوا جميعهم في الولايات المتحدة الأميركية. الإرث الثقافي الوحيد الذي أثّر فيّ كثيراً كان فرنسياً، فقد قضت أمي سنة في فرنسا حين كانت بالمرحلة الإعدادية، وبالتالي كانت تتقن اللغة الفرنسية تماماً. بالمناسبة كانت تطبخ أكلات فرنسية، لم تكن أي أم يهودية لتفعل ذلك. حين كنت طفلة قضينا أنا وأختي صيفاً في فرنسا حين أرسلتنا أمي بغية تعلّم اللغة. بقينا خائفتين لمجرد التفكير أن نظل مسجونتين في مكان لم نتعلم كلمة من لغته. لكن بالمجمل حظيت بتربية أميركية أكثر من كونها أوروبية.

-هل عشت في نيويورك؟

في لونغ-ايسلاند تحديداً، في ضاحية نيويورك، على مسير خمس وأربعين دقيقة بالقطار.

-الطبيعة حاضرة جداً في عملك، كيف تصفين هذه العلاقة الحميمية التي تربطك بالمحيط؟

ساعدتني الطبيعة كثيراً، دعمتني، غذّت روحي. حين بلغت سن الرشد انتقلت للعيش في ريف فرمونت شمال البلاد. كانت الشتاءات طويلة، في حين كان فصلا الربيع والصيف رائعين. كانت الطبيعة خلابة إلى درجة أنها تغرس لديك قناعة بأن لك الحق في الاستمتاع بالجمال. في المقابل كانت الشتاءات جد طويلة. كنت أحس بأني أولد من جديد وأنا أشاهد أولى الزهرات تتفتح، كما لو أني أشكل كياناً واحداً مع الطبيعة. امتلكنا أنا وزوجي بستاناً، اهتممنا به طوال سنوات زواجنا. لذلك تعلمت الكثير من الأمور حول البستنة التي كنت أجهل أدنى شيء عنها حين كنت شابة، على الرغم من أني أحببت دائماً الزهور والخضر والنباتات وكل ما ينمو في الأرض.

 

-حين أصدرت أول ديوان شعر، هل كنت تتوقعين أنك ستكتبين شعراً طيلة حياتك؟

كنت أعلم أن تلك هي رغبتي، وذلك ما أريد فعله في حياتي، لم أتردد يوماً في الأمر. لكن لم أكن أعلم تماماً حدود موهبتي، أي آفاق يمكنني أن أبلغها في عمق وقوة نصوصي.

 

-ولكنك كنت تعلمين أنك ستكتبين أشعاراً أخرى؟

شعرت بما يمكن أن يشعر به القسيسون والراهبات تماماً، ضرورة خدمة المقدس. لكني لم أعلم إن أمكنني أن أكسب قوتي من الأمر. توقعت أنه يتوجب عليّ العمل بالموازاة مع حياتي التي تمحورت حول كتابة الشعر. كنت جد محظوظة لتمكني من كتابة كتب، وهي أمور لا يمكن أن نكون متأكدين منها حين نبدأ تجربة الكتابة.

 

-من ألهمك من الشعراء الكبار؟

الكثير منهم. تأثرت كثيراً بـ”كيتس” و”ديكنسون” زمن المراهقة. كنت أعيد قراءة أشعارهم من دون انقطاع. ولكنها أمور نفعلها حين نكون يافعين. أظن أنه يتعين علينا التوقف على العيش على قراءات بعينها، هذا لا يعني أني لم أعد أحبهما، ولكني لم أعد إلى قراءتهما منذ سنوات. بعدها قرأت أشعار “ييتس” الذي رافقني طويلاً وبعده “إليوت”. لم أكن أعي تماماً بوجود شعر يكتب في أيامنا، تأثرت كثيراً بشعر “جورج أوبن” حين انتبهت للأمر ولا زلت مسكونة بنصوصه. طبعاً قرأت الكثير لغير أولئك الشعراء، وأثارت حماستي الكثير من النصوص، ولكني في بحث دائم عن الجديد، عن شيء يجعلني أفكر وأرى بشكل مختلف.

 

-يشعر الذي يستمع لكلامك أنك مكتفية تماماً بالشعر؟

لا، ليس بالشعر فقط، العلاقات الإنسانية والكثير من المتع والأشياء الرائعة التي يمكن فعلها في الحياة، لكن الشعر محور حياتي طبعاً.

 

-ما هو هدفك من كتابة الشعر؟

يا إلهي، لا يوجد جواب لهذا السؤال. هدفي حين أكتب شعراً أن أتم قصيدتي، أن أُمنح الكلمات لإتمامها، القصيدة بمثابة “بازل” تحاول جمع كلماته، وقد تحول أغوار ولجوج دون ذلك. تفتقد أحياناً لخاتمة، أحياناً لبداية مناسبة. كل أملي حين أكتب قصيدة أن أتمها من دون أن أكرر نفسي، الأمر أشبه بنزال. إنه شيء كالنفس تماماً، بسيط لدرجة لا يمكنك تصديقها. أعتبر تلك الأوقات ضرباً من الإعجاز.

 

-هل تبحثين عن الكمال في نصوصك؟

أسعى ألا أفعل ذلك كثيراً. أظن أني أعلم تماماً حين لا أتمكن من الوصول حيث أظن أنه يمكنني أن أصل، أتصور أني أسعى للكمال على نحو ما إذا أردت الاختصار، ولكن الأمر غير مقصود.

-كيف تنظمين أيام عملك؟

لا أحدد ساعات عملي أبداً. بعمر العشرين فرضت على نفسي البقاء لأيام في مكتبي، فعلت الأمر لسنوات، لكن ذلك ضاعف قلقي. انتهيت بالتفكير في أنه يتعين عليّ فعل شيء آخر، هكذا صرت مدرسة، رغم قناعتي أن الشعراء لا يجب أن يشتغلوا بالتدريس. والحقيقة أني لم أكن أعلم شيئاً عن عمل المدرسين. تصورت أنه يتوجب علي الاحتماء من كل ما يجب أن يشغلني عن النداء المقدس. ولكن بممارسة التدريس عدت لأكتب الشعر من جديد. اكتشفت أن وجودي في هذا العالم ضروري، وأن كتابة القصيدة لا تتعلق بعدد الساعات التي أقضيها في مكتبي. ولذلك تراجعت عن إلزام نفسي. أجلس في مكتبي حين أمتلك بعض الخربشات ذات المعنى، أو حين تبدأ قصيدة في التشكل.

-اهتمامك بالأساطير لم يتغير..

نعم. الأساطير الإغريقية كانت بمثابة الحكايات الأولى التي استمعت إليها عندما كنت صغيرة، قبل النوم. إنها مراجع أساسية. حاولت الابتعاد عنها بمرور الوقت، غرض اكتشاف مناهل ومقاربات أخرى. ما أحاول فعله حين أبدأ كتاباً جديداً هو الابتعاد عن سابقه، كما أسعى لتجنيب القراء مغبة التواجد بمقربة من “زيوس” على الدوام.

 

-هل يلعب القدر دوراً كبيراً بالنسبة لك؟

نعم، فكرة أن القدر موجود ليست بالمفيدة جداً، لكني أعتقد بها.

 

-عندما حصلت على جائزة “نوبل”، صرحت أنك لست حاضرة بعد لهذه الجائزة، لكنك تحصلت على جميع الجوائز الأدبية الكبرى الممكنة في الولايات المتحدة، هذا يعني أنك معتادة على التتويج…

هذا حقيقي. عشت حياة طويلة..أنا لا أسافر. لطالما نفرت من الأسفار على الرغم من أن كتبي ترجمت إلى كثير من اللغات، وكنت قد حصلت قبل سنة من جائزة “نوبل” على جائزة “الترانسترومر” في السويد، إلا أنني شعرت بالصدمة حين وصلني خبر حصولي على جائزة “نوبل”. لم أكن أظن أني معروفة خارج الولايات المتحدة الأميركية ولا حتى في إنجلترا، فأنا لا أقوم بالدعاية لمؤلفاتي، وكوني شاعرة أميركية بيضاء البشرة، تكتب شعراً غنائياً لم يجعل مني المرشحة المثلى لهذه الجائزة. الشعر السياسي هو ذو الحظوة حالياً، وأنا لا أكتب شعراً سياسياً. لذا كان هذا الاختيار غير قابل للتصديق فعلياً وغريباً جداً في آن.

 

-لست أماندا غورمان…

(تضحك) لا، بالتأكيد.

 

-هل أزعجتك الجوائز الأخرى التي حصلت عليها في الولايات المتحدة؟

لا، كان الأمر أبسط بكثير. سعدت بها كثيراً. كانت نوعاً من الاعتراف. لكن “نوبل” أكبر بكثير، تتطلب من الفرد الكثير من الأمور أيضا كالترجمة مثلاً، بلدان كاملة تركض فجأة خلف حقوق التأليف. إنه أمر غريب فعلاً. لا أظن أنه غير مستحق، أكون فخورة بعملي حين أسمح لنفسي بأن أكون كذلك. لكن السرعة التي حدثت بها الأمور فجأة جعلتني أحس بنوع من التوجس فيما يتعلق بالحياة العامة.

 

-هل يمكن لذلك أن يوقف عملك أو يؤثر عليه سلباً؟

من يعلم؟ من المبكر الحديث عن الأمر. لحسن الحظ أني أنهيت كتاباً نهاية الصيف التي سبقت الإعلان عن “نوبل” وكنت قد اشتغلت عليه لسنوات. حين حصلت على الجائزة لم أكن مركزة على الكتابة. الأهم بالنسبة لي أني أنهيت ذلك الكتاب، كما لو أنني امتلكت مرة جديدة الدليل على كوني شاعرة، الحصول على جائزة “نوبل” لا يعني لي شيئاً بهذا الشأن.

-هل يمكنك وصف المكان الذي تشتغلين به؟

لا يوجد مكان محدد أشتغل به. يمكنني أن أكتب في المصعد، في الطائرة، الحافلة، الشارع أو حتى حين أطبخ. يمكنني أن أكتب في أي مكان. حين لا أكتب لا أحتاج إلى مكان معين أيضاً.

 

-هل تكتبين بيدك؟

كتبت كتابي الأول بخط يدي. كتبي اللاحقة كتبتها على آلة كاتبة. ثم عدت للكتابة باليد، لكني أنهي نصوصي على آلة كاتبة. لا أكتب على كمبيوتر، لا أملك واحداً حتى. لا أحب الشاشات فأنا أعاني من الصرع، لدي “أيباد” ولكن لا أحب منظر الكلمات على الشاشات، أفضلها على الورق. أُصبح أكثر فأكثر جهلاً بالتكنولوجيا إلى درجة لا يمكنكم تصورها.

 

-منذ حصلت على جائزة نوبل ترفضين المقابلات. لماذا؟

لا أحب الشهرة، أحاول الفرار منها في الواقع. قررت أن أرفض جميع المقابلات مهما كانت الجهة التي تسألها. لكني أعجبت بمستوى الترجمة الفرنسية لنصوصي ولذلك فكرت في مساعدة الناشرين في فرنسا بقدر ما يمكن، ولهذا أجريت هذا الحوار معكم اليوم.