نظرية الدولة عند ابن خلدون

نظرية الدولة عند ابن خلدون
Spread the love

شجون عربية _ بقلم: صفاء علي الدوري _ كاتبة عراقية / يُعرِّف ابن خلدون الدولة بأنَّها « كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية ، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية ، وهي أيضاً وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها».
يرى ابن خلدون أنَّ حاجة الإنسان للغذاء والكساء والمأوى والدفاع عن النفس هي التي تدفعه إلى الانتظام في مجتمع إنساني، فالإنسان لا يستطيع أن يسد حاجته للغذاء بمفرده ، لأنَّ ذلك يتطلب أعمالاً كثيرة لا يستطيع أن يقوم بها بمفرده ،فلابد من تعاونه مع رفاقه. والإنسان معرض للخطر ليس من جانب الحيوانات المفترسة فحسب ،بل من جانب أخيه الإنسان ، لذا لابد من وجود سلطة تحول دون اعتداء الناس بعضهم على البعض الآخر، وهذا ما أسماه ابن خلدون بـ «الوازع»، أو «وازع حاكم» ،وعبَّر عنها المستشرق «أرين روزنتال » بـ «السلطة الرادعة» ، ولها القوة الرادعة في منع الناس من قتل أو إيذاء بعضهم البعض ، حيث أنَّ العداوة والعنف سائدتان في طبيعتهم الحيوانية ، وهذه السلطة تكون في يد الملك أو السلطان.
إسس الدولة عند ابن خلدون: ويرى ابن خلدون أنَّ الدولة لا تقوم إلاَّ على أساسيْن :
أولهما : الشوكة والعصبية المعبر عنهما بالجند.
وثانيهما : المال الذي هو قوام أولئك الجند ، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. فالدولة في أولها تكون بدوية ، حيث يكون الإنفاق معقولاً ،ولذا يكون هناك إمعان في الجباية والإسراف ، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة ، فإنَّ نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف ، وينتشر الإسراف بين الرعايا ، وتمتد أيديهم إلى أموال الدولة من جهة ، ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة ، فيضطر السلطان إلى مضاعفة الضرائب ، فيختل اقتصاد البلاد ، ولكن الجباية مقدارها محدود، كما لا يستطيع رفع الضرائب إلى ما لا نهاية ،ولذا يضطر إلى الاستغناء عن عدد من الجند حتى يوفر مرتباتهم ،فتضعف حمايته، وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال محتفظة بعصبيتها.
مفهوم العصبية عند ابن خلدون:
إنَّ العصبية عند ابن خلدون لا تشمل أبناء الأسرة الواحدة الذين تربطهم بعضهم بالبعض الآخر صلة الرحم فحسب ، بل هي تتسع لتشمل أهل الولاء والحلف ، وفي مواقع أخرى نجد ابن خلدون يضم الرق والمرتزقة، وهم من يُطلق عليهم اسم «المصطنعين إلى العصبية» ،أمَّا النسب فيعتبره أمر وهمي فائدته هو الترابط الذي يوجده ، وبهذا يكون معنى العصبية عند ابن خلدون مرادف لمفهوم العصبية ، وبهذا لم يخرج عن المفهوم الإسلامي الذي نبذ العصبية القبلية .
نظمة الحكم عند ابن خلدون:
لقد حدَّد ابن خلدون أنظمة الحكم بثلاث هي :
1- حكم يستند إلى شرع الله «الخلافة».
2- سياسة عقلية ، وهي تضطلع بمصالح الدنيا فقط ،واستشهد بحكومة الفرس.
3- سياسة مدنية، وهي مثالية مفترضة مثل المدن الفاضلة عند الفلاسفة ، وهي بعيدة الوقوع.
ويقرر ابن خلدون في صراحة كاملة أنَّ الحكومة التي يجب أن تسيس شؤون مجتمع العمران ، هي الحكومة الإسلامية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس في دنياهم وسلامة مصيرهم في آخرتهم ، فيقول : «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي على مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ،فهي في الحقيقة خلافة عند صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به».
ويبين ابن خلدون أنَّ وظيفة الخلافة دينية اجتماعية سياسية ، وذمَّ الملك القائم على العصبية ، لأنَّه يؤدي إلى القهر ، ورفض المُلك القائم على السياسة وحدها لأنَّه مجرد من الصبغة الدينية التي نظَّمتها شريعة السماء في حراسة نور الله ، ويستشهد ابن خلدون بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ،فيذكر قوله تعالى : (ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّما هي أعمالكم تُرد إليكم».
وبيَّن ابن خلدون سبب تسمية الخليفة بذلك بأنَّه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الإنسان خليفة الله في الأرض لقوله تعالى : (إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ، فالله جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ، ويردهم عن مضارهم.
وبذلك يتفق مع الإمام الماوردي في توصيف الخلافة بأنَّها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
قد نظر ابن خلدون للدولة على أنَّها كائن حي يولد وينمو ، ثُمَّ يهرم ليفنى فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تماماً ،وقد حدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عاماً ،لأنَّه يرى أنَّ العمر الطبيعي للأشخاص كما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرين عاماً ، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر إلاّ إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب مستشهداً بقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وذكر أنَّها تتكون من ثلاثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة ، وذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة ، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهداً بقوله تعالى : (حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) .
ولهذا بيَّن أنَّ متوسط عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل ، ويؤيد ذلك في حكمة التيه الذي وقع لبني إسرائيل في أربعين سنة ، والمقصود بالأربعين سنة فيه فناء الجيل لإحياء ونشأة جيل آخر لم يعهد الذل ولا عرفه.
وقد ضرب ابن خلدون أمثلة لأعمار الدولة على بعض الدول مثل : (المرابطين والموحدين والمزينيين في المغرب ، وملوك الطوائف في الأندلس ، والحمدانيين في حلب) .
الأسس الإسلامية في نظرية الدولة عند ابن خلدون:
بنى ابن خلدون نظريته على أنَّ للدولة أعماراً مثل أعمار البشر على الأسس القرآنية ، فالقرآن الكريم ينص على أنَّ للدولة أعماراً ينتهي كيانها بنهايتها ،ثُمَّ تخلفها دولاً أخرى أكثر نظاماً ،وأشد قوة ،وأوفر صلاحاً، من ذلك قوله تعالى : (وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ). والقرية هنا ، وفي آيات أخرى هي الدولة أو الدول ،والقرية الظالمة هنا هي الدولة الفاسدة ،فالظلم هو أشد ألوان الفساد .
والمرحلة الثانية في حياة الدولة ، وعمرها هي مرحلة القوة والنماء ،ورغد العيش ،ولين الحياة مع الحفاظ على نعم الله ،والامتثال لأوامره ونواهيه ،وهذه المرحلة تستمد من الآية الكريمة (وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ،فإذا مالت إلى البطر والظلم انتهى الأمر بها إلى الانحلال والضياع فتدخل في المرحلة الثالثة ،وهي مرحلة السقوط ،ويتمثل ذلك في الآية الكريمة : (وتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً) .
على هذه الأسس القرآنية استمد ابن خلدون هذه الأطوار الثلاثة ، وهي طور النشأة والميلاد ،وطور القوة والارتقاء ، وطور التفتت والسقوط ،أمَّا الطور الثاني في الدولة عند ابن خلدون ، فهو مرحلة انتقالية للطور الثالث ، والطور الرابع مرحلة انتقالية للطور الخامس ، وقد استمد هذين الطورين من الواقع التاريخي للعالم الإسلامي،ومن القرآن الكريم استقى فصله بعنوان «الظلم مؤذن بخراب العمران» .
أمثلة أطوار الدولة من واقع الدولة الإسلامية:
طور التأسيس: وقد ضرب ابن خلدون مثلاً بالدولة الإسلامية في طور تأسيسها ، وهوعهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعهد الخلفاء الراشدين ، والذي قضى فيه الإسلام على العصبية القبلية القائمة على التفاخر بالآباء والأنساب ،وحلَّ محلها الأخوة في الدين لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وقوله تعالى : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) ،فآخى بين الأوس والخزرج وسمَّاهم بالأنصار ، وآخى بينهم وبين المهاجرين .
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليهم وسلم قامت الخلافة ولم يقم ملك ، وكانوا محافظين على حياة البداوة من خشونة العيش والبعد عن الترف بالرغم من أنَّ المال الذي جاءهم من فتوحات الشام والعراق وفارس لا يحصى ، وقد بلغ نصيب الفارس الواحد في بعض الغزوات ثلاثين ألفاً من الذهب ،ومع ذلك كان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يرقع ثوبه بالجلد وبالرغم ممَّا جاءهم من مال حلال من الفيء والغنائم ، لم يكن يصرفهم فيها بإسراف ، وإنَّما كانوا على قصد في أحوالهم.
ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد ، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل على حق ، وإنَّما اختلف اجتهادهم في الحق واقتتلوا عليه ، وإن كان المُصيب علياً كرَّم الله وجهه ، فلم يكن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قائماً فيها بقصد الباطل ، وإنَّما قصد الحق وأخطأ.
طور الانفراد بالمجد : يمثله قيام الدولة الأموية إلى سقوط الدولة العباسية : كان خلفاء بني أمية يسيرون على الحق حتى نهاية عصر عمر بن عبد العزيز ، ثُمَّ بعد ذلك استعمل خلفاؤهم طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ، ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق ، فانصرف الناس عنهم وأيَّدوا الدعوة العباسية ،وصرف العباسيون الملك في وجوه الحق ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد فكان منهم الصالح ومنهم الطالح ، ثُمّ أفضى الأمر إلى بنيهم ، فأعطوا الملك والترف حقه ، وانغمسوا في الدنيا وباطلها ، ونبذوا الدين وراءهم فأذن الله بحربهم ، وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة.
هذا ولو طبقنا باقي أطوار الدولة على الدولة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي نجد أنَّ الدولة الأموية لمَّا قرَّب بعض الخلفاء عرب الشمال «المضرية» على عرب الجنوب «القيسية» أصبح هناك تناحراً بين العرب .
وفي عصر الدولة العباسية أدخل الموالي ، وأدخل السودان والأتراك والصقالبة والأرمن ، وعناصر أخرى كثيرة دخلت في الدولة الإسلامية ، تناحرت هذه العناصر ، كل يتعصب لبني جلدته ،وكل يتعصب لتركيز سلطانه ،وبذلك ضعف الخلفاء ،وظهرت إمرة الأمراء ، وأصبح الخليفة لا حول له ولا قوة ، وقوي جند المرتزقة ، واستولوا على كل ما في خزانة الدولة ، وأصبح الخليفة يسترضي الجند المرتزقة لأنَّهم هم عدته وسلاحه بعد أن أبعد عصبيته ، وأهله ، فلمَّا تخْلو الخزينة ، ويشغب الجند يصبح الخليفة لا قيمة له ، ويمشي حافي القدميْن ، وتُسمل عينه ، ويمكن أن تصبح مدة وزارة شخص يوم أو ثلاثة أيام ،أو شهر ،وتضعف الدولة ، وينقض عليها العداء من كل جانب ، كما حدث مع المغول والصليبيين ، وينقض المماليك على الحكم كما حدث في مصر ، ثُمّ بعد ذلك تنهار الدولة تماماً.
قد فصل ابن خلدون الدولة تفصيلاً دقيقاً مبنياً على الامثلة العميقة من الامم السابقة والتاريخ المدون والفترة التي كانت معاصرة لحياته وكان انموذجاً مميزاً ولازال لوقتنا هذا ينظر اليه بأنه الامثل للدولة ولقيامها .