مشواري مع ترجمة الأدب الألمانيّ الحديث

مشواري مع ترجمة الأدب الألمانيّ الحديث
Spread the love

شجون عربية _ سمير جريس _ كاتب ومُترجِم مصري/

بدايتي مع الترجمة الأدبيّة كانت مُحبِطة جدّاً، إذ لم تكُن سوى سلسلة من الإخفاقات التي استهلَكت وقتي وجهدي بلا طائل. كانت بدايةً تصرخُ بي: توقَّف، هذه الطريق ليست طريقكَ! خذْها من قصيرها، وتعلَّم مهنةً أخرى.

خلال دراستي في كليّة الألسن في جامعة عَين شمس في القاهرة، كان يدّرس لنا الأستاذ د. مصطفى ماهر، المُترجِم الكبير الذي أثرى المَكتبة العربيّة بترجمة أعمال من عيون الأدب الألماني على اختلاف عصوره. وبالطبع كنّا، نحن تلاميذه، نرنو إليه بإعجاب بالغ، ونودّ أن نُسهم أيضاً، ولو بقدرٍ محدود، في حركة الترجمة من الألمانيّة إلى العربيّة. لذلك أسرعتُ بعد انتهاء دراستي في كليّة الألسن بالالتحاق بكليّة الآداب في جامعة القاهرة، لأنّها تقدِّم دبلوماً متخصِّصاً في الترجمة، وكانت الترجمة الأدبيّة أحد الفروع التي كنّا ندرسها. وهناك أيضاً كان من حسن حظّي أن ألتقي بأساتذة كِبار، رافقوا برفق بداياتي في الترجمة، وأذكر خصوصاً د. الراحل كمال رضوان، رئيس قسم اللّغة الألمانيّة آنذاك وأحد المُسهمين في أهمّ قواميس الألمانيّة/ العربيّة: “قاموس شريغله”، والأستاذة د. ناهد الديب التي درستُ على يدها مادّة الترجمة الأدبيّة.

أتذكّر أنّني جمعتُ عدداً من القصص القصيرة من الأدب الألماني المُعاصِر، وترجمتُها، وتقدَّمتُ بها إلى الأستاذ كمال رضوان ليُبدي فيها رأيه، فقرأها وشجَّعني على نشْرها. هذه المجموعة تقدَّمتُ بها إلى الهيئة المصريّة العامّة للكِتاب في أواخر الثمانينيّات. وبعد شهور عرفتُ أنّ المجموعة أُجيزت للنشر؛ ليس هذا فحسب، بل لقد كُلِّف أستاذي د. مصطفى ماهر بكتابة مقدّمة لها، وهو ما فعله مشكوراً. شعرتُ بسعادة كبيرة، فقريباً ستَصدر أولى ترجماتي، وبمقدِّمة كَتبها أستاذي الجليل مصطفى ماهر.

انتظرتُ طويلاً نشْر المجموعة، وكنتُ بين الحين والآخر أسأل بالهاتف عن موعد النشر، أو أذهب إلى دهاليز الهيئة الكافكاويّة لمُقابلة الموظَّف المسؤول – لكنْ من دون جدوى. منذ ذلك التاريخ والمجموعة قابِعة في أحد أدراج الهيئة، أو لعلّ الفئران قد أتت عليها كلّها. ولأنّ الترجمة كُتبت في عصر ما قبل الكمبيوتر، لم تعُد لديّ نسخة من تلك القصص. وهكذا دُفن إلى الأبد أوّل مشروع ترجمة قمتُ به.

في تلك الفترة لم يكُن الأدب المُتَرجم – وخصوصاً لمُترجمٍ مُبتدئ – يُنشَر إلّا في دُور النشر الحكوميّة سيّئة الإدارة والتنظيم. كانت تجربتي الأولى كفيلة بأن أتوقّف تماماً عن الترجمة الأدبيّة، غير أنّني لم أتوقّف. كنتُ – وما زلتُ – أستشعر متعةً في الترجمة، على الرّغم من كلّ المُعاناة، ورغبةً شديدة في نقْل ما يعجبني من الأدب الألماني إلى العربيّة، وإشراك قرّاء لا بأس بتعدادهم في تلك المتعة.

وهكذا حاولتُ بعدها بسنوات مُحاوَلةً أخرى، وجمعتُ مجموعة من القصص القصيرة للكاتب الألماني فولفغانغ بورشرت، وتقدَّمتُ بها إلى الروائي الكبير جمال الغيطاني، الذي كان يُشرف آنذاك على سلسلة “كِتاب اليوم”. حاولتُ مُقابلة الغيطاني بعدها أكثر من مرّة، وعندما نجحتُ أخيراً، قال لي إنّ المجموعة جيّدة وستُنشر. لكنّ الشهور والأعوام مرّت من دون أن تتحقَّق أمنية النشر الأوّل. ثمّ سافرتُ إلى ألمانيا لمواصلة دراسة عِلم الترجمة، وعندما عدتُ في إحدى الإجازات اتّصلتُ به تلفونيّاً لأعرف مصير المجموعة التي كان عنوانها “شدو البلبل”، لكنّه فاجأني بأنّه ترك تلك السلسلة، وأنّ المخطوطة قد ضاعت. كانت تلك الصفعة الثانية التي تلقّاها المُترجِم الشابّ آنذاك.

لكنّني لم أفقد الأمل، وحاولتُ مجدّداً. جمعتُ ما لديّ من ترجمات، أو أعدتُ كتابتها على الآلة الكاتبة، ثمّ تقدَّمت بها إلى هيئة قصور الثقافة في مصر التي كانت تُصدِر سلسلة بعنوان “آفاق الترجمة”. وبعد أعوام – طويلة – نُشرت مجموعة “شدو البلبل” في العام 1998، أي أنّني احتجتُ إلى نحو عشرة أعوام حتّى أستطيع أن أنشر أوّل كِتاب مُترجَم لي.

ولأنّ الارتزاق من الترجمة الأدبيّة أمر شبه مستحيل، وخصوصاً بالنسبة إلى مُترجمٍ يتلمَّس طريقَه، كان لا بدّ من مُمارَسة مهنة تدرّ دخلاً معقولاً، وتتيح في الوقت ذاته بعض الوقت لإشباع هواية الترجمة الأدبيّة. وجدتُ في الترجمة الصحافيّة طريقاً جيّدة لكسْب لقمة العيش، وتطوير أدواتي كمُترجِمٍ أيضاً. لكنّ العمل في الصحافة يلتهم وقت الصحافي، ولا يكاد يتبقّى وقت للترجمة أو للكتابة.

كنتُ إذن أسترق الوقت لكي أُنجز أولى ترجماتي الطويلة، وكانت للكاتب السويسري ماكس فريش رواية بعنوان “مونتاوك”. أتذكّر جيّداً أنّني كنت أُترجم هذه الرواية على المقاهي، أو في القطار أثناء السفر، أو في فترات الاستراحة بين الحصص عندما كنتُ – إلى جانب الصحافة – أُدرِّس اللّغة العربيّة في معهد بوخوم في غرب ألمانيا. وهكذا صدرت “مونتاوك” في العام 2001 عن دار الجمل، وهي ترجمة أعتزّ بها كثيراً، على الرّغم من أنّها تحمل كلّ أخطاء البدايات. “مونتاوك” من أبرز أعمال ماكس فريش، وهي سيرة ذاتيّة من طراز فريد. جذبني إلى تلك السيرة تعامُل فريش الجريء والصادم والصريح مع النَّفس وأخطاء الذّات. هي صراحة نادرة في الأدب العربي. “مونتاوك” عمل حداثي أيضاً، يتلاعب بالزمان والمكان، ويلغي الحدود بينهما، كما أنّه عمل يتميّز بشاعريّة خاصّة. بعدما ظهرت الترجمة سعدتُ للغاية عندما جاءتني رسالة من الروائي الكبير صنع الله إبراهيم، هنَّأني فيها على اختياري لهذا العمل وما اعتبره “ترجمة موفَّقة حافظتْ على شاعريّة الأصل”. وأعتقدُ أنّ “مونتاوك” أثّرت بطريقة ما على صنع الله إبراهيم عندما كتبَ روايته الجميلة “التلصّص” متحدِّثاً فيها بصراحة وجرأة عن أبيه.

بعد ذلك توالت ترجماتي، حيث كنت أنجز في كلّ عام تقريباً – وإلى جانب عملي الأساسي – ترجمة أدبيّة جديدة. كان همّي، ولا يزال، هو نقل أعمال متميّزة من مُختلف اتّجاهات الأدب الألماني المُعاصِر، سواء من ألمانيا أم النمسا أم سويسرا. ومن أهمّ ما تَرجمت: رواية “عازفة البيانو” للنمساويّة إلفريده يلينك (نوبل 2004)، ونوفيلّا “حلم” لأرتور شنيتسلر، ورواية “العاصمة” لروبرت ميناسه، ورواية “دون جوان” لبيتر هاندكه (نوبل 2019)، وروايتَي “الوعد” و”العطل” للسويسري فريدريش دورنمات، ومونودارما “الكونترباص” لباتريك زوسكيند. وقبل أسابيع قليلة انتهيتُ من ترجمة رواية من أهمّ الروايات الألمانيّة. هذه الأعمال المُختلفة كلّ الاختلاف، يجمعها، في رأيي، القيمة الأدبيّة، وأنّها أعمال تستطيع – على الرّغم من التصاقها بالتربة المحليّة – أن تُخاطِب وجدان القارئ العربي وعقله.

التفرُّغ لترجمة “عازفة البيانو”

العمل الوحيد الذي تفرَّغت له بالكامل كان “عازفة البيانو” للكاتبة النمساويّة إلفريده يلينك.

ليست “عازفة البيانو” أفضل روايات يلينك بإجماع النقّاد فحسب، بل إنّها رواية مفصليّة لفهْم حياة الروائيّة النمساويّة وعالَمها. كنتُ أعلم بالطبع صعوبة نقْل أجواء “عازفة البيانو” وألفاظها الصريحة إلى العربيّة. وحتّى اليوم تصيب الدهشة ألماناً عديدين عندما يسمعون عن ترجمة أعمال يلينك إلى العربيّة. فعندما سألت الناقد الألماني هيلموت بوتيغر عن الأعمال التي يرشّحها للترجمة إلى اللّغة العربيّة ذكر لي بعض أعمال يوديت هيرمان وإنغو شولتسه وفريدريش دليوس. وعندما سألته عن أعمال يلينك لم يستطع أن يخفي تعجّبه: يلينك؟ للقارئ العربيّ؟ ومَن سيقرأ رواياتها الحافلة بالخلاعة والشذوذ؟ في العالَم العربي؟ ومَن سيطبعها؟ ألن تُمنع؟ وعندما ذكرتُ له أنّ العلاقة المعقّدة بين الأمّ والابنة في “عازفة البيانو” ذات راهنيّة لعددٍ كبير من الفتيات والنساء في العالَم العربي، وكذلك الكبت والقمع والحياة السريّة التي تحياها البطلة، صمتَ لحظات، ثمّ قال: بالفعل، أنتَ مُحِقّ. هذا سبب وجيه للترجمة!

قرَّرت أن أُترجِم الرواية بـ “أمانة”. كان هدفي أن أخلق أجواءً مُشابِهة في النصّ المتَرجَم. ولم يضايقني أن تكون تلك الأجواء منفّرة في كثير من الأحيان، أو أن تثير الاشمئزاز والغثيان في بعض الأحيان. لم يكُن هدفي أن أقدِّم “ترجمة مهذّبة”، على غرار طبعة “ألف ليلة” المعدّة للفتيات والفتيان، ولم يكُن يخطر لي على بال أن أستعيض عن بعض العبارات “المُبتذَلة” أو المكشوفة بنقاط على طريقة الروائي إحسان عبد القدّوس. أردت أن أقدِّم نصّاً مُقابِلاً أو مُناظِراً للأصل – والحُكم في نهاية الأمر بالطبع للقرّاء والنقّاد. نصّ يلينك صادم وجريء، فاضح ومكشوف، وعليه – هكذا رأيت – أن يكون كذلك في صورته العربيّة.

غير أنّ المَشاهِد الإباحيّة لم تكُن هي الصعوبة الوحيدة في ترجمة يلينك. الصعوبة الكبرى كانت في السخرية والتلاعُب بالكلمات، إذ إنّ ترجمة السخريّة – كما هو معروف – من أصعب الأمور، فما يُثير السخرية أو الضحك في ثقافة، ليس بالضرورة كذلك في لغة أو ثقافة أخرى.

كان هدفي إبراز سمات يلينك الأسلوبيّة عبر النصّ المُترجَم، وأن أقدِّم ترجمةً تثق بخيال القارئ وذكائه، من دون أن أتوقّف عند كلّ كلمة وأشرح في الهامش قصد الكاتبة. ترجمتي تنطلق من فرضيّة أنّ القارئ العربيّ سيستمتع بنصّ يلينك وسيفهم سخريّة روايتها، وأنّ النصّ المُترجَم يستطيع أن يستقلّ عن الأصل.

كانت ترجمة “عازفة البيانو” تجربة شاقّة جدّاً، لكنّها كانت مُثمِرَة.

المازوخيّة ومُترجِمو الأدب

الترجمة الأدبيّة مُعاناة. ولولا استعداد المُترجِم لتحمُّل المُعاناة في صبر، لَما أتمّ ترجمة عمل أدبي واحد، إذ إنّ “مبدع الأدب العالَمي” – كما يصف الروائيُّ البرتغاليُّ جوزيه ساراماغو المُترجِمَ الأدبيّ – يظلّ يتحرّك كالمقيَّد في عالَم كاتب آخر، ويظلّ سجين أفكاره ولغته، لا ينساق وراء ما يراه مناسباً أو جميلاً، بل عليه دائماً أن يرجع إلى الأصل، وأن “يتقيَّد به”. فإذا أضفنا إلى ذلك المكافآت المُتدنيّة التي يتلقّاها مُترجِمُ الأدب في معظم الأحيان، أصابتنا الدهشة لإصرار البعض على المضيّ في هذه الطريق. هذا ما دفعَ مُترجِماً ألمانيّاً للقول في مُقابلة نَشرتها صحيفة “زود دويتشه” الألمانيّة إنّه لولا “المازوخيّة” التي تصيب، على ما يبدو، كلّ مُترجمي الأدب، لَتَوقَّف منذ زمن طويل عن النقل، ولَبَحَثَ عن مهنة أخرى. كنت قرأتُ هذه المقابلة في أثناء دراستي عِلم الترجمة في جامعة ماينتس، وكانت تحذيراً كافياً لي. لكنّ هذا التحذير لم يجعلني أحيد عن الطريق الذي اخترته، وسرتُ فيه بشغف على الرّغم من كلّ المُعاناة.