ما بعد انفجار الضمير ومقتل طائر الفينيق

ما بعد انفجار الضمير ومقتل طائر الفينيق
Spread the love

بقلم: كارمن جرجي |

وفي الختام إصطيد طائر الفينيق وسقطت كل المصائد الأخرى، فشِرك الدولار والفيروس الجائح لم يعُد يجد أجساداً يرتضي بها، فجلس يتربّص ويتحيّن الفرص.
بالله عليكم، دعوا رموز الخلود والتجدّد في صفحات الروايات، ولا تشبّهونا بطائر الفينيق بعد اليوم لأنّه تحوّل في الأساطير الى لعنةٍ وقُتِل.
لم نعُد نريد أن يُحرِق نفسه ولا أن ينبعِث من جديد. لم نعُد نريد لا الموت ولا النيران ولا الرماد لكي نعود الى الحياة.
دعونا نرقد بسلام.
عندما يموت طائركم ذلك في عشّه، تنبعث منه رائحةً عطِرة، أما هنا، يوم وفاتنا، لم يحصل ذلك، بل انبعثت رائحة الدمّ والضحايا والدمار والزجاج والبحر والقمح، وتربّصت بنا الغيوم السوداء. هي ذهبت وبقي السواد هنا يعتري قلوبنا ويعتلي أجسادنا، قاتمٌ قد جاء من عقولهم الفاسدة وضمائرهم المتعفّنة.
ملعونةٌ أنت، منحوسةٌ ومصابةٌ بالعين يا مدينتي، فضميني الى صدرك وأعدُك أن أعلّق عليه كلّ خرزاتي الزرق.
منذ ٤ آب ونحن نبكي في كلّ مرّة ألف مرّة، نذرف الدموع عليها وعليه، معه ومعها، ونفرغ وجعاً على أطفال قابلت خالقها قبل أن تولد، وعلى أرواحٍ دفنت حيّةً وعلى أشخاص تمزّقت في أحضان أحبائها…

العمل التطوّعي:
هذا الوجع والخيبة لم يُذعن أمام الهجوع والخمول واليأس، بل نفض عنه غبار الأنين والنيترات، ونبضت عاصمة الثقافة والحضارة والتعايش المشترك، بقلب مُحبّيها وشبابها الّذين هبّوا للمساعدة باللّحم الحيّ وقدر المستطاع في ظلّ تقصير المسؤولين وغيابهم الكامل عن شوارع بيروت المدمّرة وبيوتها المهدّمة على رؤوس قاطنيها.
المشهد الحالي لا يدلّ إلّا على الوعي المجتمعي وإدراك الأفراد لأهمية العمل التطوعي الفاعل والدور الإجتماعي الذي يمكن أن يلعبه الأشخاص في ظلّ الأزمة التي تمرّ بها البلاد، وفي ظلّ التغيّرات الإقتصادية، والتهديدات الأمنية والإجتماعية. فبادر اللبنانيّون وخاصة طلّاب المدارس والجامعات وبشكل لافت على مدّ يد العون وتقديم الخدمات بدافع إنساني بحت وإحساس المرء الى جانب واجبه الوطني، بواجب ديني إنسانيّ يُحتّم عليه مساعدة أخيه الإنسان لمواجهة هذه النكبة. ولم يتورّع الشبّان والشابات، من جميع الطوائف والمناطق ومختلف الجنسيّات، أن يتسلّحوا بالمكانس بطريقة عفوية ويقوموا برفع الأنقاض وإزالة الركام من خارج وداخل المنازل المنكوبة، ومساعدة السكّان في تنظيم وتوضيب ما تبقّى من ممتلكات ومفروشات وأشياء عزيزة. وأيضا لجؤوا الى جانب الأشخاص والجمعيات الأكثر إحترافية وجرأة في مجال العمل التطوعي بتنظيم حملات التبرّع بما يشمل المأكل والطعام والمشرب والأدوات المنزلية والمال بالإضافة الى اللوازم الطبية للقيام ببعض الأعمال الطبية البسيطة التي يقوم بها أطباء وممرضون متطوّعين في الميدان.
هنيئاً للوطن بأياديكم الشابّة البيضاء الناصعة. ويا ليت الجميع يدرك أنّ هذا الدعم المادّي والمعنويّ ووقوف الإنسان الى جانب أخيه الإنسان من دون تحزّب وطائفية ومحسوبيات هو الّذي تُبنى عليه الأوطان.

أطفالنا في مواجهة آثار النكبة:
في ذلك الثلاثاء، دُفِنت أحلامنا وآمالنا وضحكاتنا واستقرارنا، والأسوأ من ذلك أن تلك الغيوم الغازية إنقضّت على عالم أولادنا وأفكارهم وانتزعت منها البساطة والعفويّة وعبثت بها وصبّت مكانها ألف شعور بالخوف ومئة سؤال قلِق وخمسون نظرة ضائعة، مرتعبة، مترقّبة.
فقصّروا ما شئتم واعبثوا بنا واقتلونا كما شئتم، لا أسى ولا شجن لأنّ هناك دائماً جنود مجهولون يعملون بصمت وسط المعركة، ويقومون بما لا تُجيدوا أن تقوموا به أنتم، حتّى وإن أردتم ذلك أيّها الأبالسة ، لأنّ الإنسانية تولد من رحم الأحزان والمصائب التي لم تعرفوها بعد.
تحيّةٌ، ولهؤلاء، من قلبي سلام لهؤلاء.

كارمن جرجي كاتبة لبنانية.