حنظلة

حنظلة
Spread the love

بقلم: الكاتب والروائي الفلسطيني نصار إبراهيم |
هبطت الشمس كبرتقالة حزينة، وغابت في بحر صيدا كدمعة.
في ذلك المغيب الشجي لاذ حنظلة بصمت المنافي. ولد في العاشرة يحضن فكرته ويقف أمام الخيمة الأخيرة في مخيم “عين الحلوة”. أمسك حَبل الخيمة وهزه وكأنه حبل سُرّي يمتد بين قلبه وقرية “الشجرة” التي تغفو هناك، في أعالي الجليل، بين طبرية والناصرة.
قال: وطني على مسافة حبل خيمة. محاصر بالجنود والأسلاك الشائكة التي تهزها الرياح العابرة وتمضي على دروبها حيث تشاء.
يقف حنظلة عند حد الخيمة الأخيرة، يشدّ وعيه وهمته ويتهيأ. يقول: مشكلتي ليست مع الجغرافيا. مشكلتي مع الحدود التي تقيمها الأرواح الميتة، فتحاصر الفكرة بألف قيد. تحاصر إرادتي كي لا أتجاوز ما أرى إلى ما لا أرى، وما أستطيع إلى ما لا أستطيع.
هنا حدود أمامها حدود وراءها حدود. تقيم ما بين العقل والجسد. بين القصيدة واللغة. بين ما أريد أن أقوله وما أفكر به فعلاً. بين الحب ووهم الحب حدود تجعل من الممكن مستحيلاً، فتمتد وتصعد وتهبط وتتلوى. تراوغ وتتخفى. وعلى جانبيها تنوس الأحلام والأمنيات. تتناثر عارية تحت شمس البؤس الواطي ونذالة الخيارات الجبانة.
تغيب الشمس على مهلها وحنظلة يلازم حد الخيمة الأخيرة. يفكر: كيف يمكن أن يقطع المسافة الفاصلة بين الهبوط والصعود، بين السفح والذروة، بين الفكرة ومعناها الحقيقي، بين الكرامة العالية ومستنقع الذل الآسن!؟.
كيف يا حنظلة ستحطم متوالية الحدود اللانهائية تلك!؟ كيف ستحطم الحدود في أعماقك كي تلتقي مع ذاتك من جديد؟ كيف تحرر مساحات روحك من الحدود الوهمية الحمقاء؟ كيف ستهدم حدود الخوف والجهل والتردد والنفاق؟ كيف ستتجاوز المسافة ما بين الفكرة الصادقة الصافية والفكرة الباهتة؟ كيف تتجاوز الحدود المهينة بين “نعم” الواضحة الباسلة بمعناها الابتدائي ونعم التي تخون ذاتها في كل لحظة؟. كيف تتجاوز الحدود المهينة بين “لا” الواضحة الباسلة بمعناها الابتدائي و”لا” التي تخون ذاتها في كل لحظة؟ كيف… كيف يا حنظلة!؟
يهز حنظلة حبال الخيمة فيما أضواء خافتة تتلامع في الأفق الغربي البعيد. هناك وراء الجبال على مسافة عين من “عين الحلوة” ترقص شجرة سَرْو في مهب الوعي. يهمس حنظلة: هناك حيث تقيم ذاكرتي يتخلق الوعي. يتشرب ندى الليل في ضوء القمر فتستيقظ البراكين الغافية في أعماق الأرض. تشق القشرة الهشة وتنهمر على المنحدرات نهراً من نار فتطهرها من ثرثرات التاريخ المزيف.
صمت حنظلة قليلاً ثم تابع بحسم: لا بأس. سأعيد كتابة الرواية من جديد. سأرسم وطني بالأسود والأبيض بلا حدود. بالضبط كما هي أحلامي ليس لها حدود. سألازم النهر وحافة البحر وأركض ما استطعت سبيلاً.
* من نص “حنظلة الراكض عند حافة البحر”.