التداعيات النفسية والاجتماعية للأزمة الاقتصادية اللبنانية

التداعيات النفسية والاجتماعية للأزمة الاقتصادية اللبنانية
Spread the love

خاص – شجون عربية – بيروت – بقلم: كارمن جرجي |
“عايشين من قلة الموت” مقولة تسمعها أينما حللت في وطن جعل منّا كهولاً ونحن ما زلنا في عمر الشباب، وصنع من أولادنا رجالاً وهم ما زالوا صغاراً.
أيجوز أن تصبح “سويسرا الشرق” بلداً فقيراً يفتقر لأدنى مقومات الحياة البسيطة والعيش الكريم؟ أيعقل لبوابة أن تصبح حائطاً؟ سداً منيعاً أمام اللبنانيين وطموحاتهم! أيعقل أن يضحي هذا البلد العصري المتعدد الثقافات والأديان والحضارات مقبرة للأدمغة والمفكرين والفلاسفة وبناة المستقبل؟
لقد أصبح في كل واحد فينا شيطاناً أخرس في حين أنّ شياطين الإنس الناطقين تضيّق الخناق على أعناقنا مستخدمة حبال النسيج نفسها وتغزل ثوب السلطة من نفس الخامة، فهم وكلاء الإقليم والدول الغربية، كبار التجار والصيارفة وأصحاب المصارف ووكلاء كبار الشركات والأشخاص التي اقترنت أسماؤهم بحسابات مالية ضخمة في الخارج.
ولهؤلاء أن يتحسّبوا لأنه وكما قال الفيلسوف الألماني، العالم الإقتصادي والمؤرخ كارل ماركس، إن وعي الفقير يصنع الثورات التاريخية، ثورة حلم، تصوّب المصير وتوقف انتهاك الدستور والميثاق الوطني الذي يتضمّن أسساً لحكم لبنان مع مراعاة التوافق الوطني والتعدد الطائفي، من دون اللجوء الى الحماية من الغرب ولا الاتحاد مع الشرق.
إنه حلمﹲ بوعي فقير يوقف انتهاك النظام السياسي الذي يجب أن يحمي الحرية الفردية وحرية التعبير عن الرأي الذي أمسى مظهراً زائفاً يغطّي على سياسة كمّ الأفواه والقمع. وعي فقير يذكّر بنصّ الدستور وما يتضمنه من صيانة ممتلكات اللبنانيين الخاصة التي أصبحت الآن عالقةﹰ بين مخالب الإنهيار الإقتصادي والفساد.

نسبة الفقر في لبنان – تموز 2020:
ﺇنّ التدهور الحاصل قد أطبق على صدور اللبنانيين ودفع نسبة الفقر الى مستوى خطير يتجاوز الـ45% من السكان، منهم 22% تحت خطّ الفقر المدقع كما حدّدته بيانات الإحصاء المركزي ودراسات البنك الدولي التي أشارت أيضاً أن هناك حوالي 356 ألف أسرة فقيرة و160 ألف أسرة تفتقر للغذاء بالكامل، وهذا ما يعادل 1.7 مليون شخص من أصل ما يقارب ال 6 ملايين و800 ألف نسمة كتعداد رسمي للسكان. هؤلاء يعيشون بمبلغ يتراوح بين 5 و8 دولارات يومياً.
هذه أرقام صادمة لكنها دقيقة كونها صادرة عن جهة لبنانية رسمية وجهة دولية مختصّة. هذه أرقام سترتفع في الأشهر القادمة وتنذر بانفجار اجتماعي وشيك.

الحاجات البشرية وعلم النفس الإنساني:
لقد وضع عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو نظرية عرفت بـ”هرم ماسلو” يدرج فيها الإحتياجات الإنسانية حسب أولويتها وأهميتها في الحياة البشرية وذلك ليبرهن نظرية الدوافع البشرية التي تحرك الإنسان وتدفعه للقيام بأفعال محدّدة تتناقض أحياناً مع طبيعته وأخلاقياته. وقد جاءت كالتالي: حاجة الإنسان لتحقيق الذات والتقدير، الحاجات الإجتماعية، الشعور بالأمان، والحاجات الفيسيلوجية كالمأكل والملبس والطّبابة وغيرها…

الى متى سيصمد المواطن اللبناني الذي أصبح يفتقد الى كل هذه الحاجات الأساسية من دون القيام بردود فعل توازي حجم الضرر الذي يلحق به؟!

ما الذي يعزّز ظهور الدوافع البشرية السلبية في ظلّ ما يحصل في لبنان؟
– يعيش اللبناني مع أمل ضئيل في تحسين أوضاعه المعيشية في ظلّ غياب خطّة إنقاذ واضحة وغياب أية بوادر إيجابية جرّاء التفاوض مع “صندوق النقد الدولي” وفي ضوء غياب أية مبادرة دولية لدعم لبنان للحفاظ على إستقراره.
– إزدياد الفقر وسيطرة قلّة على الثروات اللبنانية والغلاء الفاحش الذي لا يعود بالكامل الى ارتفاع الأسعار عالمياً وفقدان الدولار وسعر الصرف، بل أيضاً الى الإحتكار والسياسات الداخلية وجشع التجّار وسعيهم لنسبة الربح القصوى مع غياب منصّة ثابتة ومتابعة فعلية من الإتحاد اللبناني لحماية المستهلك.
– إنهيار قطاعات مهمّة في لبنان، وخاصة القطاع الإقتصادي، المصرفي، الصناعي، والبيئي وما يرتبط به من سوء إدارة ملف النفايات، بالإضافة الى عدم توافر الكهرباء وتدنّي قيمة الرواتب واحتجاز أموال المودعين إذا أردنا استعمال تعبير أقل تشاؤمية.
– غياب القدرة عن الترفيه عن النفس وخاصة من خلال السياحة الخارجية أو الداخلية، وذلك بسبب فقدان القدرة الماديّة.
– تدنّي القدرة الشرائية والقدرة على تأمين الحاجات العائلية اليومية.
– الطائفية الفتّاكة والإنقياد الأعمى وراء مذهب أو حزب أو سياسي أو قائد معيّن.

العواقب والتأثيرات النفسية والإجتماعية المترتبة عن هذا الوضع :
الضرر النفسي:

ﺇن البؤس والكبت والإحباط وكثرة القلق والتفكير والهموم والإكتئاب ينتج
.“Generalized Anxiety Disorder” عنها مرض نفسي يعرف ب
هذا الإضطراب النفسي ﺇذا لم يعالج يمكن أن تكون له نتائج سلبية كثيرة، فيصبح الشخص عاجزاً عن متابعة حياته بشكل طبيعي، كالذهاب إلى العمل أو متابعة التعليم، أو ﺇقامة علاقات اجتماعية طبيعية. الأشخاص المصابون يشعرون كما لو أنهم يختنقون أو على وشك أن يصابوا بالجنون.

– الإنتحار:
“أنا مش كافر” قصة هزّت المجتمع اللبناني وتنبئ بالمزيد.
“Embrace فبناء على الإحصاءات التي أشارت اليها جمعية ”
والبرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة، أن 4 حالات إنتحار سجّلت في لبنان خلال يومين فقط وأن هناك لبناني يفكّر بالإنتحار كل 6 ساعات.

الإنحراف الأخلاقي
الجريمة والجنحة: ﺇن مجتمعنا اللئيم يخلق مسببات الفقر ثم يعود ويحتقر الفقراء وهذا ما ينجم عنه عقداً نفسية عندهم ويشعرهم بالرغبة بالإنتقام، هذا الشعور بالإذلال والحاجة والنقمة يريق بدماء المبادئ والأخلاق. فقد قيل في الفقر إنه أبو الجرائم. عندما يشتدّ العوز ويضيق الذرع وخاصة عندما يتعلّق الأمر بمسلّمات الحياة كالإستشفاء والطعام، يضيع الشرف ويتم اللجوء الفردي الى أساليب جانحة تؤدي الى تصدّع الأمن الجماعي والى كثرة الجرائم والتفلّت الإجتماعي كالسرقة، النشل، القتل، عمالة الأطفال، التهريب، الإحتيال، العنف، التمرّد والإتجار بالبشر وغيرها من الأمور غير الشرعية… وهذا كلّه ردّة فعل عن سابق اصرار وتصميم على أحكام الحياة والنظام والوضع المتردّي، وهو وليد الحقد والقهر الذي يتغلغل في النفوس ويملؤها كراهية.

الإنحراف السلوكي:
عندما يشعر الإنسان بأنّ كرامته أهدرت وأنه يعيش ذليلاﹰ، وعندما يفقد الشعور بلذّة الحياة ويشعر بالكآبة، يتلاشى تمسكّه بالمبادئ والأسس الإنسانية السليمة، فكل هدفه يصبّ على تأمين لقمة العيش وخاصة عند وجود عائلة وأولاد.
ويتميّز الإنسان بسعي غريزي للترفيه عن النفس، وحين لا يستطيع القيام بذلك، يشعر بالخيبة والحزن وتتدنّى عنده القدرة على التفاؤل والتأقلم، مما يدفع بالبعض وبهدف نسيان مصاعب الحياة، اللجوء الى المخدرات أو الإدمان على الكحول والممنوعات والتصرّف بطريقة تتعارض مع الأسس الأخلاقية.

– إرتفاع معدّل الهجرة:
كفر المواطن اللبناني ولم يعد يشعر بالإنتماء ولا بالوطنية ولم يعد هناك ما يحفّزه على البقاء لبناء مستقبله ولبناء وطن أفضل. وحسب البيانات الصادرة عن الإحصاء المركزي، سجّلت حركة الهجرة من لبنان الى الخارج رقم وصل الى 100 ألف وهو يفوق نسبة الهجرة التي حصلت خلال الحرب اللبنانية. وهذا دليل على أن القدرة النفسية على الإستمرار لم تعد ممكنة.

– البطالة:
إن انهيار الوضع الإقتصادي أدّى الى انهيار الكثير من الشركات والمؤسسات وتسريح العديد من الموظفين واليد العاملة بشكل متسارع وصلت إلى نسبة 40% ومتوقع أن تصل الى 50% وخاصة في فئة الشباب.

– تفكك الأسرة والروابط الأسرية:
العائلة هي المنصّة الأولى لنشر الثقافة المجتمعية، وذلك بسبب الضائقة وما تولده من كبت وضغط نفسي وعنف منزلي وبالتالي زيادة نسبة الطلاق والإنفصال.

– تراجع المستوى التعليمي وانهيار القطاع التربوي:
لم تكف واقعة الأب الذي أحرق نفسه في صرح المدرسة بالإنذار عن الخطر المداهم. ففي العام الدراسي المنصرم، هناك نسبة كبيرة من أولياء الأمور لم يتمكنوا من تسديد الأقساط المدرسية مما سيؤدي بالتالي الى إخراج العديد من الطلاب من المدارس وأيضا الى تهديد عدد كبير من المؤسسات التربوية بالإغلاق الكامل. وكلّما اشتدّت سيطرة الجهل على المجتمع كلما أطبق الشذوذ الفردي الفكري على آماله ونموّه.

– تراجع خدمات القطاع اﻹستشفائي:
في الأسبوع المنصرم، فارق طفلان الحياة على أبواب المستشفيات بسبب إهمال العاملين في المسشتفيات التي تعاني من نقص في المواد والمعدات الطبية والأدوية واللقاحات. والوضع سيتأزم أكثر، وعلى المدى البعيد سينشأ جيل كامل يفتقر لمقومات صحية جيدة وسليمة مما سيؤدي الى ارتفاع نسبة الأمراض والإعاقات.

– تدني مستوى الطموح:
لم يعد لبنان الصرح المناسب لتنفيذ المشاريع ومطاردة الأحلام ولم يعد للّبناني الإمكانية للسعي الى تحقيق أهدافه ولا الطاقة الإيجابية للنظر بتفاؤل الى المستقبل وبذل الجهد وأخذ المجازفات من دون أيّة ضمانات.

كيف يمكن المساهمة على صعيد فردي في تخفيف وطأة هذه المرحلة الصعبة؟
-يجب العمل على نشر الطاقة الإيجابية وخاصة من قبل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي ومن خلال الوجوه البارزة في المجتمع.

– عقد الحلقات الحوارية البنّاءة على شاشات التلفزة لترشيد المواطن الى كيفية التعامل نفسياﹰ مع الضائقة الإقتصادية، كما يجب أن تقوم الجمعيات والمنظّمات المختصّة بالعمل على التوجيه الإجتماعي.

– المساهمة في نيل ثقة المجتمع الدولي لكي يستحصل البلد على الدعم المالي والخدماتي ولتشجيع عودة الاستثمارات، وذلك من خلال ابراز صورة المواطن الصالح، المنطقي، المستقل، الحرّ والمفكر.

– المساهمة في تعزيز القطاع الصناعي والزراعي وتحسين نوعية الإنتاج المحلّي والتشجيع على استهلاكه.

– تقبّل التوجه الى المهن الحرّة واحترام اليد العاملة كافة بهدف تحريك سوق العمل والتشجيع على ﺇقتناص فرص العمل المتوفرة ودرء مشكلة البطالة حتى وان لم تكن الفرص ترضي الطموحات، والتركيز على التدريب على اكتساب المهارات.

– تقبّل تغيير نمط الحياة اﻹجتماعي المعتاد وتدنّي المستوى المعيشي وعدم امكانية الترفيه عن النفس كالسابق.

-التطوّع، الزكاة، الصدقة والتبرّع اذا سمحت الظروف.

-عدم الوقوف على الأطلال والتحسرّ على ما قد مضى ومحاولة التأقلم والتصرّف بوعي وإصرار، وتعلم كيفية العيش كلّ يوم بيومه لتقليص نسبة الخسائر المعنوية.

-تعزيز ودعم المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية التي ستشهد نزوحاً كثيفاً من تلامذة المدارس والجامعات الخاصة.
-على الحكومة والأحزاب السياسية التوافق الوطني على خطة إصلاحية اقتصادية والمباشرة في وقف الهدر والفساد وبدء محاكمة الفاسدين وإعادة الأموال المنهوبة والمهربة.
-على الدول العربية الشقيقة والدول الغربية والشرقية الصديقة تفهم ظروف لبنان وتنوعه وتشرذمه وعدم حصاره اقتصادياً لتصفية حسابات مع حزب أو دولة أخرى، أو جعل لبنان يدفع ثمن الصراعات الإقليمية والدولية، فإذا انهار لبنان وسقط سيسقط على رؤوس جميع مواطنيه وطوائفه ومناطقه وأحزابه وزعمائه.
-لن يقبل اللبنانيون وخاصة الوطنيون والشرفاء منهم، استخدام الدول الكبرى الأزمة الاقتصادية لتمرير مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين في لبنان.

في الخلاصة، لن يتساقط الشعب اللبناني على هذه الدرب كما لم يسقط سابقاﹰ رغم حدّة الأزمات التي توالت عليه وسيقف شامخاﹰ رغم أنف المنظّمات العالمية والدول التي تدّعي الصداقة للبنان وكل الطبقة الحاكمة، الذيم يقفون جميعاﹰ مكتوفي الأيدي أمام جوعﹴ يقتات الغذاء من مستوعبات النفايات، وطفولةﹴ حياتها أبخس من حيواناتكم الأليفة، وشرف رجال يزهق برصاص ونار سياساتكم ونواياكم الخبيثة.
كفاكم عجرفة وتشدّقاﹰ بالكلام والإدّعاء بالرأفة والإستعطاف، كفاكم استباحة لبرّادات الفقراء لتسوّقوا لأهدافكم وبرامجكم الدولية، كفاكم فتّ الخبز في أفواه الأغنياء ليتقيؤوها سموماً على الهياكل العظمية الخاوية وعلى الأحياء الأموات.

كاتبة وتربوية لبنانية.