المستوطنات: لا تشتموا مايك بومبيو فهو لم “يُغَمِّس خارج الصَّحن!”

المستوطنات: لا تشتموا مايك بومبيو فهو لم “يُغَمِّس خارج الصَّحن!”
Spread the love

بقلم: نصار إبراهيم _ كاتب فلسطيني/

” He Who Pays the Piper Calls the Tune” ، وبالعربي الفصيح: “من يدفع للعازف يحدِّد اللحن” (مثل إنجليزي).
وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أعلن في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تعترف بالرأي القانوني القائل إنّ بناء إسرائيل “مستوطنات مدنية” في الضفة الغربية “يتعارض مع القانون الدولي”.
وكالعادة انهالت بيانات الشجب والاستنكار والتنديد، والتنديد بشدة، ثم التنديد بأشد أشد العبارات وهكذا.
لا أدري لم كل هذا الغضب الكلامي أو الظاهرة الصوتية تجاه ما أعلنه بومبيو بخصوص المستوطنات/ المستعمرات الإسرائيلية وكأنها مفاجأة العصر، وكأن أمريكا كانت قد تعهدت وأقسمت بكل غال ومقدس بأنها ستعيد للفلسطينيين والعرب حقوقهم وأراضيهم المغتصبة، وكأن هذا الموقف جاء خارج النص والسياق الأمريكي!.
حقيقة الأمر أن هذا الموقف ما هو إل حلقة عادية في سلسلة المواقف والسياسات التي أعلنتها ونفذتها إدارة دونالد ترامب بكل وضوح وحسم منذ مجيئها، والتي بدأت: بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واعتراف إدارة ترامب في كانون الأول/ ديسمبر 2017 بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، ونقل السفارة الأميركية إليها، ثمّ اعترافها في آذار/ مارس 2019 بقرار إسرائيل ضم هضبة الجولان عام 1981. وقبلها كان إغلاق مكتب م.ت.ف في واشنطن عام 2018، ثم قطع التمويل عن السلطة الفلسطينية والمؤسسات الفلسطينية في القدس.
الفكرة هنا أن دونالد ترامب ومعه وزير خارجيته بومبيو لم يخدعا أحدا من الفلسطينيين أو العرب، أو المؤسسات الدولية إلا من أراد أن يلعب دور المخدوع بمحض إرادته، بما يذكرنا بصرخة مظفر النواب:
“هنالك حزبٌ يتخوزقُ مُختارا
لا إكراه ولا بطيخ.. بمحض إرادته”
فقبل عام بالضبط، وكان ذلك على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس يوم 25 كانون ثاني 2018، أثناء لقاء جمع ترامب وبنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل قال ترامب يومها ما يلي:”الفلسطينيون لم يحترموا الولايات المتحدة، لقد أبدوا عدم احترام تجاهنا قبل أسبوع بعدم السماح لنائب رئيسنا الرائع بمقابلتهم… (يقصد مايك بنس)، نحن نمنحهم مئات الملايين، وهذه الأموال لن تسلم لهم إلا إذا جلسوا وتفاوضوا حول السلام… لدينا اقتراح للسلام، إنه اقتراح عظيم للفلسطينيين”.
هذه التصريحات بدت للبعض صادمة، وقحة، وغير مؤدبة…
حسنا، لنهدأ قليلا… أو كما كانت تقول أمي “فضة” أو “سيلفيا” بالإنجليزية: حُطّوا ع ذيالكوا حجر!.
بالتأكيد إن هناك ألف سبب وسبب لشتم ترامب وشتم الإدارات الأمريكية المتعاقبة… ولكن ليس من بينها ما يبرر شتم الولايات المتحدة لأنها قررت وقف تقديم “الدعم المالي” للفلسطينيين لأنهم احتجوا على قرار ترامب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، أو بسبب عدم حماستهم لصفقة العصر التي يعرضها ترامب عليهم بمباركة سعودية، أو بسبب اعلان المستوطنات شرعية، أو بسبب ضم الجولان…ذلك لأن ما يسمى “الدعم المالي” الأمريكي للفلسطينيين يقدم وبكل وضوح كثمن للتنازلات السياسية التي قدمت حتى الآن، ولما سيقدم من تنازلات لاحقا بما في ذلك القدس وما بعد بعد القدس.
“أمريكا ليست جمعية خيرية!” هذا ما أعلنه ترامب أكثر من مرة إلى درجة الملل…
هنالك مثل إنجليزي شهير يقول: ” He Who Pays the Piper Calls the Tune” ، يعني بالعربي الفصيح: “من يدفع للعازف يحدد اللحن”.
إذن السؤال الذي يجب أن يشغل البال والعقل على المستوى السياسي هنا، ليس ما قاله ترامب، بل: هل الفلسطينيون (أو بعض الدول العربية) وهم يستلمون “الدعم المالي” من أمريكا يعتقدون – عن جد – أن أمريكا ترسلها كمساعدة نزيهة، أو من باب التضامن الإنساني الذي لا قبله ولا بعده!؟… هذا هو السؤال.
من سيقول لي: نعم… حينها، عليه أن يبرهن لنا أن أمريكا كانت فعلا تقدم تلك المساعدات لأهداف إنسانية وخيرية نبيلة، بمعنى أن “الدعم المالي” الذي تقدمه أمريكا هو مجرد هبات كريمة ليس لها علاقة بمشاريعها ومخططاتها السياسية وأولها حماية مصالح حليفتها الأولى إسرائيل!؟.
لكي أمهد الطريق على من سيثبت لنا هذه الفرضية، أعيد التذكير ببعض البديهيات حتى لا يقول لنا، من سيتصدى لهذه المهمة، أنه لم يكن يعلم ، ذلك لأنه إن لم يكن يعلم ما هو معلن أصلا فتلك مصيبة، أما إذا كان يعلم ويتوقع من ترامب عكس ما قال حينها تصبح مصيبتان. لنتابع إذن:
الكل يعرف ، بما في ذلك أطفال فلسطين، أن كل التمويل، وما يرتبط به من مشاريع تنموية، التي قيل بأنها ستجعل من الضفة وغزة سنغافورة ثانية، والذي تم الوعد والالتزام بتقديمه من قبل جميع الممولين وعلى رأسهم أمريكا، كان مشروطا بموافقة الفلسطينيين وقبلوهم الدخول في “عملية السلام” وفق ما تم تحديده من أسس ومنطلقات وآليات ونواظم ورعاة، هذا هو الشرط الناظم والحاكم لاستمرار تدفق المساعدات إلى السلطة الفلسطينية، وهو ما سيبرهن على جدوى”عملية السلام” وفائدتها.
حسنا، لنعد إذن قليلا لمنطلقات وشروط ونواظم تلك العملية “السلمية” التي أوصلتنا إلى لحظة تشريع بومبيو للمستوطنات:
– أن تجري برعاية الولايات المتحدة وروسيا، أما مرجعياتها فهي ما يتفق عليه الطرفان المتفاوضان (إسرائيل ومنظمة التحرير)، فيما الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي يشاركان بصفة مراقب. ترتب على ذلك تهميش قرارات الأمم المتحدة واستبدالها بمرجعية التفاوض الخاضعة بمجملها لموازين القوى…
– أن لا تضر عملية السلام بمصالح إسرائيل وحلفائها، وأن تخدم التحالف الاستراتيجي ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا بالضبط ما قصده سلف ترامب باراك أوباما بقوله “روابط أمريكا القوية مع إسرائيل معروفة جيدا. هذه الروابط غير قابلة للكسر. إنها قائمة على روابط ثقافية وتاريخية، والاعتراف بطموحات اليهود بوطن لهم متجذرة في تراجيديا التاريخ، وهذا أمر غير قابل للرفض” (صحيفة الغارديان – 4 حزيران 2009).
ومنه وبناء عليه، فإن:
أولا: استمرار تدفق التمويل للسلطة الفلسطينية مشروط بأن يخدم هذه الأهداف وأن لا يتناقض معها. ولكي ندرك ترجمات ذلك بالضبط، دعونا نستمع لما يقوله كل من الأستاذ العمد والأستاذ عورتاني في دراستهما التي بعنوان: “الاقتصاد الفلسطيني في مرحلة التحول” حيث يعرضان الآلية التي تعتمدها الولايات المتحدة قبل تقديم أية مساعدة للسلطة الفلسطينية، يقول الباحثان: “إن تخصيص المساعدات للفلسطينيين يخضع للجنة الخارجية المعنية بعمليات الاستجواب في الكونغرس. فقبل التصديق على المساعدات، فإن هذه اللجنة تدرس تقارير المخابرات الأمريكية حول أعمال السلطة الفلسطينية وحركات المعارضة الفلسطينية، فضلا عن طبيعة وفعالية الإجراءات التي تقوم بها لضمان أمن إسرائيل، بما في ذلك المستوطنين وجنود الاحتلال” (العمد وعورتاني – 1999 ص. ص 67 – 70).
ثانيا: بناء على ذلك تحدد الولايات المتحدة المعايير والأهداف التي عليها تقدم دعمها للفسطينيين، وهي تشمل:
– مشاركة الفلسطينيين في الحرب ضد الإرهاب.
– تعزيز ديناميات التبعية داخل المجتمع الفلسطيني بما يدعم سياسات الولايات المتحدة.
– تقوية دور إسرائيل في الشرق الأوسط.
– خفض استعدادات الفلسطينيين للمقاومة، وبالتالي خفض توقعاتهم السياسية. (نصار إبراهيم – 2011 – ص. ص 84 – 85)
ثالثا: لكل هذا، ولكي يبقى تدفق التمويل والمساعدات متناغما مع هذه العملية السياسية فإنه كان مشروطا بالرقابة والمتابعة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بصورة مباشرة بالإضافة للمولين، كما أن إقرار مضمون التمويل وخطط التنمية في المناطق الفلسطينية، والموازنة، وتوزعها على القطاعات الاقتصادية المختلفة وتنفيذها كان مشروطا أيضا بموافقة إسرائيل والممولين” (المصدر السابق –ص ص 42،41).
بكلمات غير ديبلوماسية، إن أمريكا حقيقة “ليست جمعية خيرية” وترامب هنا لا يكذب… وبالتالي فإن ما تدفعه أمريكا من “مساعدات نزيهة” هي مساعدات غير مجانية، إنما هي مقابل تنازلات وخدمات سياسية محددة وليس من أجل السلام أو التنمية أو (دياولو)، وحين تتناقض المواقف والاستجابات مع شروطها، فإنها ببساطة تقول: عفوا.. ليس من أجل هذا أدفع لكم… عودوا للسياق ونفذوا المطلوب والمتوقع أو سأغلق الحنفية… إنسوا موضوع القدس، لقد انتهى، إنسوا موضوع حق العودة فهذا ليس مطروحا للنقاش، إنسوا موضوع الدولة الوطنية المستقلة… إنسوا المستوطنات…انسوا كل هذا.. بعد ذلك وبناء عليه نعدكم ونؤكد لكم ونقسم أيضا، بأن لدينا اقتراح للسلام، وهو بالمناسبة، اقتراح عظيم لكم أيها الفلسطينيون… فعودوا.. وحينها ستعود الدولارات…
في هذا السياق وبناء على هذه الحقائق يتحدث ترامب، هكذا تتخذ أمريكا سياساتها ومواقفها وتعلنها.
من لا يعجبه ذلك من حقه أن يرفض طبعا، وأن يشجب ويستنكر كما يشاء، ولكن حينها عليه أن لا يطالب أو ينتظر من أمريكا الدعم والمساندة.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلا ، فماذا بإمكان الفلسطينيين أن يفعلوا؟.
بسيطة: أن لا يطلبوا أو ينتظروا مساعدات أمريكا الواضحة في شروطها وأهدافها السياسية المناقضة لحقوقهم ومصالحهم الوطنية، وأن يتوقفوا عن لومها لأنها تريد مقابل أموالها ثمنا سياسيا لم تقم بإخفائه يوما…ليذهبوا لخيارات أخرى… خيارات هم بالتأكيد يعرفونها جيدا.
أقصد؛ أن لا ينسى أحد أو يتجاهل، بوعي أو بدونه، البديهة الثابتة: أن الاقتصاد ما هو إلا سياسة ولكن بلغة الأرقام، كما هي الحرب بالضبط سياسة ولكن بوسائل أخرى… هذا ما يقوله الاقتصاد السياسي.
وبالعودة للمثل الإنجليزي، المطلوب من العازف إذن، وقبل أن يقبض الثمن أن يسأل أولا عن اللحن وبعدها يقرر هل سيعزف أم لا!أليس كذلك.. فلم الصراخ إذن!؟

مصادر:
• باراك أوباما – صحيفة الغارديان – 4 حزيران 2009.
• أ. العمد – أ. العورتاني – الاقتصاد الفلسطيني في المرحلة الانتقالية – ب. 1999 – بيكدار – القدس.
• نصار إبراهيم – وهم التنمية تحت الاحتلال الإسرائيلي: دوافع الممولين السياسية للفلسطينيين – 2011 – بيت لحم – ص ص 42،41.