القامشلي: هويّاتها وعوالِمها المتعدّدة

القامشلي: هويّاتها وعوالِمها المتعدّدة
Spread the love

بقلم: خورشيد دلّي* — عندما تَكتُب كلمة القامشلي على صفحتكَ الخاصّة بالتواصل الاجتماعي (الفيس بوك)، سرعان ما يُبادِر أصدقاء أكراد إلى دعوتك لتصحيح الكلمة، والتأكيد على أنّها قامشلو وليست القامشلي. وعندما تَكتُب قامشلو، يُطالبك أصدقاء عرب، باعتماد كلمة القامشلي، وليس قامشلو، على اعتبار أنّ القامشلي هي التسمية الرسّمية المُعتمَدة للمدينة.

بَيْن هذا وذاك، ستَجد أصدقاء آخرين يقولون إنّها قامشلوكة أو قامشيليّة وليست القامشلي أو قامشلو، كما يحلو للعرب والكرد أن ينادوا. وهكذا يجد الباحث أو الكاتب نفسه في دوّامة صراعات وتجاذبات هويّاتية وثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة، لن يستطيع خلالها إرضاء جميع الأطراف المعنيّة بهويّة المدينة، مهما قدّم من أدلّة لغوية وثقافية عن حقيقة هذه المدينة التي تأسّست قبل أقلّ من قرن، وازدهرت في عهد الفرنسيّين، بفضل توافر المياه والأراضي الزراعية الخصبة والأيدي العاملة الرخيصة.

في الواقع، ينبغي النّظر إلى أنّ الجدل السابق على صفحات التواصل الاجتماعي، بشأن اسم المدينة غير بعيد عن واقعها القومي والاجتماعي والثقافي والهويّاتي؛ ففيها يعيش الكرد والعرب والأشوريّون والسريان والأرمن والكلدان وغيرهم من الأقليّات، جنباً إلى جنب منذ عقود مديدة؛ فـ”حارة الطيّ”، أصبحت رمزاً للعرب، ولاسيّما قبيلة طيّ التي يتزعمّها عضو مجلس الشعب السوري محمّد الفارس، وحيّا الآشوريّين والسريان، أصبحا مكاناً ورمزاً أكثر استقطاباً للمسيحيّين في المدينة على اختلاف طوائفهم؛ فيما الأحياء الكردية، توسّعت شرقاً وأصبحت ملتصقة بالضواحي، وهكذا باتت أحياء “قدّور بك” و”المحطّة” و”قناة السويس” و”جرنك” و”العنترية”.. وغيرها رمزاً للكرد وخزّاناً بشريّاً، بعدما نزح إليها قسمٌ كبيرٌ من أهالي القرى المجاورة بهدف العمل.

شمالاً تُجاور القامشلي – قامشلو مدينة نصيبين التاريخية في داخل تركيا، إذ لا يفصل بينهما سوى خطّ سكّة الحديد، الذي كان يسمّى خطّ برلين – بغداد، والمدينتان التوأمتان تتكآن بهدوء على كتف جبال طوروس، الممتدَّة في داخل المناطق الكردية في تركيا، وتعدّان فناءً خلفيّاً لما كان يسمّى تاريخياً بـ”سهل ماردين”، الذي قدِم منه معظم سكّان القامشلي القدامى قبل رسم الحدود بين الدولة السورية الحديثة وتركيا وريثة الدولة العثمانية. جنوباً تنفتح المدينة على عالَم شبه صحراوي في اتّجاه الحدود العراقية، حيث تعيش عشائر عربية في بلدات وقرى تعتمد بشكل أساسي على تربية الأغنام وبعض الزراعات.

يخترق المدينة نهر “جغجغ”، الذي يمرّ في وسطها ليصبّ جنوباً في نهر الخابور؛ ولنهر “جغجغ” رمزية تاريخية كبيرة، لا لأنّه يقسّم المدينة شرقاً وغرباً، وإنّما لأنّ على ضفافه أقام الفرنسيون العديد من المقارّ والثُّكن العسكرية، والتي منها كانت تُدار المنطقة وتُخطَّط السياسات.

إقليم “روج آفا”

ابن القامشلي – قامشلو، العائد إليها بعدما انقطع عنها منذ بدء الأزمة السورية، لا بدّ أنّه سيجدها مدينة مختلفة تماماً عن السابق؛ فخارج حدود مطار القامشلي الدولي، باتت الصُّور والرموز والكتابات مُغايرَة لما كانت عليها في السابق، إذ إنّ صُور الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ونجله الحالي بشّار الأسد، لم تَعُد مرفوعة في ساحات المدينة وشوارعها. كما أنّ شعارات حزب البعث التي كانت موجودة في كلّ ساحة وشارع ومبنى حكوميّ ومدرسة، غابت عن المشهد. فما أن تدخل إلى قلب المدينة، حتّى تجد صور شهداء وحدات حماية الشعب تتوسّطها صُور لعبد الله أوجلان، زعيم حزب العمّال المُعتقَل في سجن أميرالي في تركيا منذ سبعة عشر عاماً.

وإذا كان وجود النظام بات محصوراً في المطار والمربّع الأمني، فإنّ منطقة ما بعد القامشلي شرقاً، وصولاً إلى نهر دجلة على الحدود العراقية التركية، باتت منطقة كردية صرف، حيث أقام الكرد إدارة ذاتية، باتت تنظِّم أحوال الناس وتدير شؤونهم وتقدّم مختلف الخدمات لهم، عبر لجانٍ محليّة أقامتها في كلّ قرية وبلدة ومدينة، وكلّ شيء في هذه المناطق بحاجة إلى موافقة من هذه اللّجان. ومن مفارقات هذه اللّجان، أنّ معظم الذين استلموها، هُم من أبناء الطبقات الفقيرة التي كانت مسحوقة ومهمَّشة، واليوم بات الذين كانوا وجهاء بحاجة إلى موافقة هؤلاء، حتّى ولو كان الأمر يتعلّق بتسجيل سيّارة أو ترخيص قطعة سلاح. وهكذا، فإنّ التغيير يتجاوز الصُّور ورمزيّتها ليطاول البُنية الاجتماعيّة على شكل ثورة اجتماعية من تحت. وعلى الرّغم من أنّ منطقة القامشلي تخضع لحصار من كلّ الاتجاهات، حيث المعابر مُغلَقة مع تركيا، والحدود شبه مُغلَقة مع إقليم كردستان العراق، والتواصل مع الداخل السوري بات عن طريق مطار القامشلي الدولي فقط؛ على الرّغم من هذا الحصار، فإنّ كلّ شيء متوافر، بل إنّ المَواد الاستهلاكية الأساسية، مثل الخبز والمازوت والبنزين والغاز متوافرة وبكثرة، وأسعارها أقلّ من أسعار نظيراتها في العاصمة بكثير. لكنّ ما يحزّ في النفس، هو النزف الديموغرافي الكبير للسكّان؛ فهذه المناطق شهدت هجرة كبيرة، إذ إلى جانب نزوح أعداد كبيرة منها إلى إقليم كردستان العراق، هاجر عشرات الآلاف إلى أوروبا، لأسبابٍ تتعلّق معظمها بالخوف من المستقبل والأوضاع الأمنيّة والاقتصاديّة والتجنيد الإجباري.. وهكذا باتت القرى شبه خالية من الأجيال الشبابيّة ويقتصر سكّانها على كبار السّن؛ ولعلّ من تبقّى من الشباب والشابات باتوا في صفوف وحدات حماية الشعب وقوّات الأسايش (قوّات الشرطة الكردية). فهؤلاء الشباب يديرون الأمن في المدينة، وتجدهم في كلّ شارع وساحة، وعلى الحواجز يدقّقون في هويّات السيّارات وينظرون بانتباه شديد إلى ركّابها، يكتفون بكلمات قليلة، وأسئلة محدّدة.. وغالباً ما يقولون لك بالكردية “دم باش – وقتك سعيد” (من أين أنتَ قادم؟ وإلى أين أنت ذاهب؟). عندما تدخل في عوالِم السياسة، يتحدّث الكردي إليك بلغة المُنتصِر، إذ يقول إنّهم هَزموا داعش، وأجبروا النظام على الخروج من المدينة، وحافظوا على مناطقهم من التدمير الذي لحق بباقي مناطق سورية. وعندما تتحدّث عن المستقبل، يتحدّث الكردي إليك بلغة الواثق بأنّ إقليم “روج آفا” الفيدرالي، سيبصر النور، على الرّغم من اتّفاق النّظام والمعارضة على رفض الفيدرالية، وأنّ قامشلو ستُصبح عاصمة للإقليم، ولن تكون أقلّ أهميّة من أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق. وعندما تتحدّث عن الوضع الأمني، سرعان ما يبدي خشيته من التفجيرات، فأعداء الفيدرالية – حسبهم – لا يتوقّفون عن إرسال السيّارات المفخَّخة، إذ شهدت المدينة خلال الفترة الماضية العديد من التفجيرات بسيّارات وشاحنات مفخّخة أودت بحياة المئات. كما أنّ قوّات الأسايش اكتشفت العديد منها قبل أن تنفجر. وعلى وقع الخوف من هذه التفجيرات، يعيش الناس في قلق كبير، إذ ما أن يحلّ الظّلام، حتّى تبدو المدينة فارغة وهادئة إلى حدّ الصمت، ما لم يحدث إطلاق للنار هنا أو هناك لسبب ما. أصحاب الإدارة الذاتيّة من “حزب الاتّحاد الديمقراطي” المحسوب على “حزب العمّال الكردستاني” يقولون إنّهم يؤسّسون لتجربة ديمقراطية تصلح ليس لسورية فقط، وإنّما لسائر المنطقة، ولكن سرعان ما تكتشف أنّ هذا الخطاب لا يلقى قبولاً لدى الأحزاب الكردية المُنضوية في إطار “المجلس الوطني الكردي”، ولاسيّما الأحزاب المُنضوية في الائتلاف الوطني السوري. فقادة هذه الأحزاب يشكون من ممارسات الإدارة الذاتيّة، ولاسيّما اعتقال العديد من مسؤوليها، فضلاً عن الناشطين، بتُهم كثيرة، ولاسيّما العمالة لتركيا والسعي إلى ضرب تجربة الإدارة الذاتيّة. وفي ظلّ غياب مرجعية كردية موحَّدة، يتفاقم الانقسام الكردي – الكردي ويخرج من إطار حرب البيانات إلى الشارع والتخوين وسط خوف من صِدام كردي – كردي. وأبعد من الانقسام الكردي – الكردي، فقد تَجد أصواتاً عربيّة ومسيحيّة تشكو من سيطرة الكرد على المدينة ومحاولتهم فرض حُكم كردي عليهم، فيردّ الكردي بأنّهم ليسوا في عداء مع باقي المكوّنات، وكثيراً ما يستشهدون بمُشارَكة العرب والمسيحيّين في مؤسّسات الإدارة الذاتيّة، بل إنّ البعض منهم يقول إنّ نحو أربعين في المئة من عناصر وحدات حماية الشعب، هُم من المكوّن العربي، وإنّ الرئيس المُشترَك للإدارة الذاتية، هو الشيخ حميدي دهام الهادي الجربا، رئيس قبيلة شمّر العربيّة المعروفة.

في أسئلة المستقبل، يقول الكرد إنّهم أصبحوا قوّة حقيقيّة على الأرض، ولم يَعُد باستطاعة أحد تجاوزهم، وإنّ سورية المستقبل، لا يمكن أن تكون من دون الاعتراف بهم دستورياً، وهُم في تطلّعهم إلى الفيدرالية يراهنون على أنّ الأخيرة أصبحت مطلباً لكلّ سكّان المنطقة، وليس للكرد فقط، وإنّ تحالفهم مع الولايات المتّحدة وعلاقاتهم مع روسيا وغيرها من الدُّول يُحصّنهم في مواجهة الإصرار التركي على ضرب المنجزات التي حقّقوها. وعلى الرّغم من زيادة حدّة التوتّر في علاقاتهم مع النّظام، إلّا أنّ أصحاب الإدارة الذاتيّة يحرصون على إبقاء العلاقة مع العاصمة دمشق قويّة، وعلى القول إنّهم ليسوا انفصاليّين أو يريدون التقسيم، من دون أن يعني ما سبق التنازل عن الفيدراليّة، حيث يستعدّون للإعلان عنها رسميّاً.

*كاتب وباحث في الشؤون التركيّة والكرديّة

المصدر: نشرة أفق