توني موريسون.. كَلماتُكِ ساعدتني على العَيش

توني موريسون.. كَلماتُكِ ساعدتني على العَيش
Spread the love

ترجمة: د. رفيف رضا صيداوي _ باحثة في مؤسسة الفكر العربي/

في الخامس من آب (أغسطس) 2019، غيَّب الموت الروائيّة الأميركيّة – الأفريقيّة توني موريسون المولودة في ولاية أوهايو في18 شباط (فبراير)1931، عن عُمرٍ يُناهز الثامنة والثمانين. في حياتها المديدة هذه، حصدت موريسون جوائز عدّة، من بينها “جائزة بوليتزر” عن فئة الأعمال الخياليّة في العام 1988، وكانت أوّل امرأة أميركيّة سوداء تحصل على جائزة نوبل للآداب في العام 1993. موت موريسون هزَّ العالَم، فنَعتها صحفه وأقلامه من أرجائه كافّة. وفي هذه المناسبة، اختارت نشرة “أفق” أن تُترجِم مقالة للكاتبة والصحافيّة الأميركيّة السوداء “رابيكا كارول” نُشرت في دوريّة “كورييه إنترناسيونال” في عددعا الصادر في 14-21 آب (أغسطس) الماضي، ودَّعت فيها كاتبتُها موريسون، وناجتها مُظهرةً مدى تأثير هذه الروائيّة الكبيرة عليها وعلى تكوّنها الفكريّ، ولاسيّما أنّها – أي موريسون – كانت من أبرز المُناهضين للتمييز العنصري ضدّ السود.

من أجلها هي كنتُ أنا أكتُب. من أجلها ومن أجل بيكولا بريدلوف (إحدى شخصيّات رواية “العَين الأشدّ زرقة” لموريسون، الصادرة في العام 1970). لا شكّ أنّني كنتُ مبالغةً في ادّعائي هذا، وذلك بسبب شدّة الطموح والاعتزاز بالنَّفس والجنون، لكنْ وإلى لحظة إعلان مَوتها هذا الأسبوع، فإنّني في سبيل توني موريسون وبيكولا بريدلوف كنتُ أكتب دراستي المُعنونَة بـ “الصمود حيال النظرة البيضاء”؛ ذلك أنّني إذا كنتُ قد صمدتُ في وجه النظرة البيضاء، فلأجل بيكولا، وبفضل توني موريسون.

تعرّفتُ بدايةً إلى بيكولا، دخلتُ جلدَها، دخلتُ ألَمَها، شعرتُ بالخمود والخجل وبإحساس الفرد حين يكون غير مرئيّ، تلك المجموعة من المَشاعِر التي تسبَّبت بها العَينَان الزرقاوَان والفارغتَان للطفل/ الدمية الذي كان يزيِّن غلاف إحدى الطبعات الأولى للرواية. مع توالي صفحات “العَين الأشدّ زرقة”، كنتُ أشعر بروح بيكولا تتكوّر على نفسها من القلق وتستسلم لوهْمٍ أكثر وداعةً وعذوبةً من الواقع. بيكولا فَقدت عقلها ورشدها لشدّة رغبتها بالعيون الزرقاء الخاصّة بمعيار الجمال الأبيض – معيار مُلازِم وطاغٍ للغاية إلى حدّ أنّه انتهى إلى النخر بها حتّى العظم، وهذا ما كاد يحدث معي أنا أيضاً.

تعرّفتُ إلى بيكولا أوّلاً لأنّ لدى موريسون، كما فكّرتُ، طريقة محدَّدة ومثاليّة في الكتابة جعلتني عند قراءتي الأولى لـ “العَين الأشدّ زرقة”، وكأنّني بشخصيّة روائيّة تَحجب الكاتِبة. “هذا ما سوف يحدث لي، فكّرتُ يومها على ما أذكر. إذا ما واصلتُ استبطان النظرة البيضاء وتشويه صورتي عن ذاتي لتمتثلَ لتلك النظرة، لسوف أغرق في الجنون من دون أن يتوقّفوا عن إيجادي بشعة”.

بعكس بيكولا، أنا لم أرَ نفسي بشعة دفعةً واحدة. والدايّ بالتبنّي البيض، إخوتي وأخواتي بالتبنّي البيض (الأبناء البيولوجيّون لوالدَيّ)، رفاقهم، المقرّبون منهم، الذين هُم جميعهم بيض، كانوا يجدونني جميلة، ومهيبة. كانوا يجدونني أيضاً، وبشكلٍ مُثيرٍ للاستغراب، غير سوداء، كائناً غريباً دخيلاً مُنقطعاً عن الوسط الذي ينتمي إليه. كبرتُ وأنا أتغذّى بهذا الاهتمام كلّه، وشيّدتُ الشعور بقيمتي بناءً على صورة مُختلَقَة من قلقِ البيض ونواقصهم. كنتُ أصغر بيكولا بسنة واحدة عندما قالت لي معلّمتي في صفّ الخامس إعدادي إنّني “جميلة للغاية نسبةً إلى فتاةٍ صغيرة سوداء”،- وهذا ما لم يكُن بدايةً سيئة جدّاً بعد. “غالبيّة الفتيات الصغيرات السوداوت شديدات البشاعة” تابَعت معلّمتي فيما هي تثني أنفها وتُغضنه كأنّها في حالة اشمئزاز وقرف جرّاء رائحة كريهة.

لكنْ، حين جاء وقت المرحلة الثانويّة، وحفل التخرُّج، ورأى رفيقي نفسَه وقد مُنِع من طرف والده من اختياري كشريكة له في الرقص – في حين كان وراءنا خمس سنوات صداقة، وبحجّة وحيدة هي أنّه، في حال كان معي، لن يظهر في أيّ صورة، تغيّرت النظرة البيضاء بطبيعتها وأبعادها تغيّراً كاملاً. لم يعُد لديّ شيء جميل أو غريب. لم أعُد ذات بشرة كامدة ومن دون عُرق، غدوتُ فجأة سوداء، وغير مرغوبة من الصبيان.

لم أُصلِّ لأملك عينَين زرقاوَين بغية الهروب من عالَمٍ عدوانيّ مادّيّاً، شأن بيكولا، أو أملاً بأن تَصنع منّي تلك العيون الزرقاء إنسانةً أفضل، ومقبولة أكثر. “لبعض الوقت، كانت بيكولا تفكّر لو أنّ عينَيها- عينَيها اللّتَين تحفظان الصور، وتعرفان ما الذي يُمكن رؤيته -، كانتا مختلفتَين، أي جميلتَين، لكانت هي نفسها قد أصبحت مُختلفة”، كَتبت توني موريسون. أنا لم أحرص على امتلاك عيونٍ زرقاء، وكان قد فات أوان ذلك في كلّ الأحوال. لكنْ، وبمقدار ما كنتُ أكبر، كانت كلّ الفتيات الشابّات البيضاوات اللّواتي يحطن بي – هؤلاء الفتيات ذوات الشعر الناعم والحريريّ، والبشرة الصافية للغاية المرغوب بها للغاية أيضاً – انتهين جميعهنّ إلى جعلي أتبيّن رمزيّاً كم كان شعوري بإمكانيّة أن أكون جميلة موحياً بسذاجة غبيّة.

مرّت سنوات قبل أن أُعاود قراءة “العَين الأشدّ زرقة”.

لم تكُن توني موريسون مُدرَجة على برنامج ثانويّتي في نيوهامبشير، وهي مؤسّسَة ريفيّة وبيضاء مائة في المائة. ولم يكتشف والدايّ بالتبنّي توني موريسون إلّا بعد أن قمتُ أنا نفسي باكتشافها، في الكلّية، مع أوّل أستاذ أدب أسود لي. المَقاطع التي خطّطتُ تحتها، والتعليقات التي كتبتُها على هامش النسخة الأصليّة من “العَين الأشدّ زرقة”، هي بالنسبة إليّ، وفي بعض النواحي، مُقلقة ومُثيرة بمقدار ما إنّ الرواية نفسها مُقلقة ومُثيرة أيضاً. في المكان حيث بيكولا تطرح سؤال: “كيف نفعل؟ أقصد كيف نفعل لكي يحبّنا أحدهم؟”، كتبتُ بسرعة: “هي لا تعلم لأنّها لا ترى نفسها أهلاً لأن تكون محبوبة”.

ليست “العَين الأشدّ زرقة” الرواية المفضَّلة لديّ من بين روايات توني موريسون، لكنّ بيكولا لم تُغادرني أبداً. إنّها “سولا” (رواية صدرت في العام 1973) التي منحتني الرغبة بالبقاء، البقاء من أجلها ومن أجل بيكولا. الغضب والرحمة المشبعة بهما “سولا”، الأفكار المحدّدة التي تدافع عنها الرواية، وقصص الصداقة والأوراك تلك ( في الكِتاب الشخصيّة الروائيّة التي سُميّت الرواية باسمها، أي سولا، ترفض الأوراك العريضة، علامة الأمومة برأيها، أي الاستعباد) بدت لي كجنّة غزاها النضال، في الوقت الذي كانت فيه أشياءٌ كثيرة على المحكّ، وكان كثرٌ ينتظرون ساعتهم. توني موريسون هنا تسجّل في النسويّة السوداء بصمةً في غاية البساطة بقدر ما هي غزيرة: “علامة ولادتها المحفورة فوق عينَيها كانت أكثر فأكثر قتامةً، وكانت تشبه أكثر فأكثر وردةً فوق غصنها”. شخصيّة سولا، وعلى الرّغم من كلّ عيوبها وافتقارها إلى الولاء، كانت جسورة، وكنّا نحن الاثنتَين من العائلة نفسها.

تأتي بعد ذلك روايات “أغنية سولومون”(1977)، ثمّ “طفل التار” (1981)، فرواية “جاز”(1992)، و”محبوبة” ( رواية عن العبوديّة صدرت في العام 1987 واعتبرها كثيرون أهمّ أثر فنّي لموريسون)، “حُبّ” (2003)، “البيت”(2012)، “الهِبة”(2008). قرأتُ هذه الروايات كلّها. بعضها قرأته مرّتَين أو ثلاثاً. وتبقى روايات توني موريسون – الحكايا الغنيّة والمحموحة التي نَسجتها، جمال عوالِمها الذي يكاد يكون مُتنافراً، الأحكام المُثبتة لتلك العوالِم وهويّتها السوداء العميقة- من بين أهمّ الروايات في تاريخ الأدب. مقالاتها وكِتاباتها غير الروائيّة تُبرهن أيضاً إتقانها اللّغة بشكل هائل، وتزخر بكنوزٍ من الصيغ التي لا تُنسى، ومن مفاتيح من أجل العيش معاً، في إطار الصرامة الفكريّة واحترام الذّات.

كان يجدر بي انتظار العام 1998 ومقابلة أجرتها موريسون مع تشارلي روز Charlie Rose (صحافي أميركي مشهور توقّف بَرنامجه على محطّة “بي بي إس” PBS في العام 2017 بعد اتّهامات له بالتحرّش الجنسي)، الذي كنتُ أعمل له آنذاك، لأبدأ بتقدير إلى أيّ درجة كنتُ أسيرة ما يُمكن أن نسمّيه “النظرة البيضاء”. يوم حضورها إلى البَرنامج، حملتُ إلى توني موريسون نِسخي من رواياتها لكي تكتب لي عليها إهداءها، وهو ما قامت به بطيبة خاطر: “إلى رابيكا. مع محبّتي، توني موريسون”.

أمام حضورها المهيب، ومنكبَيها العريضَين، وجدائلها الطويلة الفضّية، وعينَيها العذبتَين والآسرتَين، كنتُ على وشك البكاء. بَدت كتمثالٍ حيّ، من لحمٍ وعظم، لكلّ أسلافنا ولكلّ واحدٍ منّا، جميعهم مُتمركزون فيها.

شاهدتُ المُقابلة واستمعتُ إليها من خلف زجاج غرفة التحكُّم. تجمّدتُ حين سألَ تشارلي روز توني موريسون ما إذا كانت ستكتب يوماً كِتاباً غير “متمحور” حول المسألة العرقيّة. كان تشارلي روز شديد التمركز حول ذاته إلى حدّ أنّه كان عاجزاً عن رؤية كم أنّ تحليله الشخصي يؤكّد الجواب الذي كانت تقدّمه موريسون عن هذا السؤال الذي سبق وأن طُرح عليها بألفِ طريقة وطريقة: “انتقادات كثيرة سبق أن وجِّهت إليّ في الماضي بكوني لم أكتب عن البيض… ممّا يحملك على الظنّ بأن ليس لحيواتنا أيّ معنى، وأيّ عمق، خارج إطار النظرة البيضاء”. هنا، وفجأة، لم أعد أرغب إلّا بأن أتحرّر من النظرة البيضاء. لم أعد أريد أن أغدو مجنونة مثل بيكولا. أردتُ أن يكون لحياتي معنىً خارج إطار النظرة البيضاء. باستثناء أنّه، كما سوف أكتشف لاحقاً، لا يكفي أن نرغب بذلك للنجاح في التخلّص من النظرة البيضاء.

غير أنّني حين أفكّر بتوني موريسون وهي تشكِّل الكلمات وتصيغها وتمنحها حياةً، أشعر بأنّني أقوى من ذي قبل. هي قامت بصنْع الكلام. لقد مَنحت هذا الكلام لنا، ولي أنا. “سوف نموت. ربّما يكون هذا معنى الحياة”؛ هذا ما صرَّحت به توني موريسون في خطاب تسلّمها جائزة نوبل في الأدب في العام 1993. وتابَعت: “لكنّنا نحن الذين نصنع الكلام. وربّما كان ذلك مقياس حيواتنا”. فأيّ هديّةٍ هذه التي لا تنضب ولا نهاية لها!

أشعر بالأسف، لا بل بحزنٍ ساحق، لفكرة أنّ توني موريسون لن تقرأ دراستي، لكنّني سأتابع كِتابتها من أجلها هي ومن أجل بيكولا. بذلك، ربّما أكون قد تحرّرتُ أخيراً من هذه النظرة البيضاء، التي صمدتُ في وجهها ودفعتُ ثمنَ ذلك، أي ثمن هذا الصمود، جهوداً جبّارة.

رابيكا كارول