في ضرورة مُقارَبة المسألة الدينيّة بالمَناهِج الحديثة

في ضرورة مُقارَبة المسألة الدينيّة بالمَناهِج الحديثة
Spread the love

د. محسن التليلي _ كاتب وأكاديمي من تونس/
إذا سلّمنا بأهمّيّة دَور العلوم الحديثة في تطوير المعرفة وبنية التفكير وأنماط العيش، بخاصّة في مجالَيْ التنمية البشريّة واستخدام التقنيّات الذكيّة وأدوات التواصل الاجتماعيّ، وقفنا على أهمّيّة الحاجة إلى تطوير أنظمة الاستيعاب والفَهْم ومُعالَجة القضايا ذات العلاقة بالأديان والمُعتقدات وآليّات توظيفها من قِبَل حركات أيديولوجيّة وسياسيّة تعتمد أدوات التواصل للتأثير في الأوساط الاجتماعيّة بأفهام مُتطرّفة آلتُها التشدُّد والعنف والترهيب وهدفُها السلطة والحُكم والنفوذ.

وإذا كان من الثابت اليوم، في ظلّ مناخ العَولمة وانفتاح مَسالك التجارة وسرعة الاتّصال، اعتبارُ المَوقف المنهجيّ مسألةً ضروريّة لاستيعاب هذه الظاهرة والنّظر من خلالها في أوضاعنا، فإنّ استمرار عمليّات النقل والاستهلاك المتدفّقة على مجتمعاتنا يقتضي منّا أيضاً مُكاشَفة أنفسنا ومُساءلتها، لا إزاء تدفّق أنماط السلع الواردة علينا فحسب، بل الأهمّ والأخطر من ذلك، إزاء تدفّق الكثير من المشروعات والأفكار المؤثِّرة في مُعتقداتنا ومَجال توظيفها. وفي هكذا سياق يُصبح توجيه الدراسات الاستراتيجيّة نحو واقعنا الاجتماعيّ أمراً مُلحّاً لإنجاز مَباحث عميقة ودقيقة تكون في مستوى التحدّيات والعوائق الفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي تجعل حراكه في أغلبه استهلاكيّاً لا إنتاجيّاً، حتّى في حقل المُعتقَد والتفكير الدينيّ، وأقرب إلى التأثّر والاتّباع وإظهار الانفصام والعنف منه إلى الأخذ بأسباب التقدّم والتفكير الإبداعيّ والسلوك السلميّ.

وإنّه إذا سلّمنا بأنّ المُقارَبة التاريخيّة في دراسة أوضاعنا تتّجه في أغلبها نحو الماضي باعتباره مجالاً لإبراز فاعليّة إشعاعنا الحضاريّ، فإنّ اعتماد هذا التمشّي يقتضي منّا مُراجَعة تقويميّة لمحتوى ذلك الماضي، في صيرورته وتطوّره، وفي انكفائه وتراجُعه. فتأثيرات الحداثة وما بعدها في المُجتمعات العربيّة والإسلاميّة بما تمثّله من تحدٍّ كبير لإرثنا الحضاريّ أدّت بفئات اجتماعيّة كثيرة إلى الاحتماء بالماضي بحثاً عن وضْعٍ مريح يسمح لها بتبادُل تجارب جماعيّة عبر الأجيال المُتعاقبة غافلين عن أنّ ما ينشدونه توارى اليوم وراء مؤسّسات الدولة والمدرسة والإعلام والسياسات والمخطّطات والتنظيمات وأنشطة الاتّصال. وحتّى هذه المؤسّسات باتت تشهَد تحوّلات سريعة نحو المستقبل بفعل طموح الشباب وذوقه المُختلِف جذريّاً عمّا ارتضاه الكهول والشيوخ لعقودٍ طويلة، فضلاً عن أنّ التغييرات العميقة التي تُحدثها ثورة تقنيّات التواصل في الحياة الأسريّة والمهنيّة والاجتماعيّة تجعل الأبناء – على عكس ما يتصوّره الكثيرون – أوسع معرفة وأدقّ تقنيّة من آبائهم، ويزداد هذا الواقع إشكالاً كلّما كان الوضع الاقتصاديّ صعباً بسبب حاجة المُجتمعات إلى السند المادّيّ والمعنويّ في مُواجَهة ارتفاع وتيرة الاستهلاك وتكْلفة العَيش وحِدّة التباعُد بين الأفراد والمجموعات، ويزداد معه الحنين إلى الماضي بدافع البحث عن سُبُلٍ للاستلهام ورموزٍ للاقتداء. وهذه من الأسباب التي “تفرض” على مؤرّخينا اليوم الاتّجاه نحو الاهتمام بدراسة العامل الاقتصاديّ وما يتضمّنُهُ من مؤثّر اجتماعيّ وتحفيزٍ مادّيّ وبُعدٍ رمزيّ وعاملٍ سياسيّ يستوعب الأفراد والمجموعات والتنظيمات وينعكس أثره على السلوك والعلاقات والرغبات والطموحات وغيرها.

هويّة الدّين ليست تاريخيّة فقط

وإنّ الإقرار بوجود تاريخيّ مهمٍّ للدّين مُؤثّر في أنماط عَيش مجتمعاتنا لا يعني البتّة تجريده من تعاليه وقداسته وروحانيّته لأنّ هويّة الدّين ليست تاريخيّة فقط، بل هي أخلاقيّة أساساً؛ ومن البديهيّ القول إنّ الدّين يجب أن يَحظى اليوم بمَكانة رفيعة، لكنّه وفي الآن نفسه يجب أن يظلّ في تناغُمٍ مع ما له صلة بتحوّلات الإنسان واحتياجاته وقِيَمِه وطموحاته المتجدّدة. وإنّ ملاحظتنا المتّصلة بمُقارَبة الدّين بأدواتٍ منهجيّة مفيدة في تحسين أوضاعنا تُحيل ضرورةً على مُقاربات من قبيل الاجتماع الدينيّ والثقافيّ وعِلم النَّفس الدينيّ والمُقارَنة بين الأديان وأنظمة التديّن ومؤسّساته، بعد ضبط مجالات هذه المُقاربات ومَساراتها وآفاقها وكيفيّة إجرائها في فضاءات التديّن الإسلاميّ بما ينسجم مع تطوّر حاجات المُسلم المُعاصِر ومَطالبه بمزيد التنمية والحرّيّة والمُشارَكة.

إنّ التحوّلات الهائلة بفعل الثورتَيْن المَعرفيّة والتقنيّة والتقدُّم المُبهر في تقنيّات التواصل من العوامل التي لم تقتصر على إثارة مسائل اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة جديدة للباحثين في مجال الدّين – ومنها مسائل البحث في قضايا الإسلام المُعاصِر – بل جَعلت المعلوماتيّة ومنظومات القراءة والفهْم واللّسان والتأويل والتصوُّر في قلب دوائر التفكير في مَظاهر التديُّن في عصرٍ يتميّز بتنوّعٍ ثقافيّ يَسمح بتنمية مجال البحث العِلمي في الإنسانيّات كافّة. والاصطلاح على البحث المُعاصر في الأديان يُمكن أن ينسحب في مثال الدراسات الإسلاميّة على حقول عريقة كالتشريع والتفسير والكلام باعتبارها ثمرة جهدٍ فكريّ أسهَم تاريخيّاً في تألّق الإسلام فقهاً وتفسيراً وتأويلاً وإفتاءً، وهذه العلوم الدينيّة التي هي في الأصل تفكير خصب في أوضاع بشريّة قديمة ما زالت إلى اليوم فاعلة بقوّة في الساحتَين العربيّة والإسلاميّة، وهي تتحوَّل لدى بعض المُتشدّدين أداةً من أدوات التكييف الذهنيّ والشحن العقائديّ والتوظيف السياسيّ والدفْع نحو عنفٍ يُقوّض أُسُس المجتمعات وعلاقاتها الإنسانيّة ضمن مشروعاتٍ موجَّهة لتوظيف تلك العلوم والمَعارف توظيفاً مُناقضاً لروح الإسلام السمحة ومبادئه النبيلة القائمة على إعمال العقل والفكر والنظر والمُراجَعة، وعلى قِيَم العدل والرحمة والمحبّة بما يضمن كرامة الإنسان وجدارته بخلافة الله في الأرض، بالتقدّم والإعمار لا بالقتل والدمار.

ونحن نرى أنّ تصنيف الدراسات الدينيّة إلى علوم تقليديّة وأخرى حديثة هو من الاصطلاح الزمنيّ الذي يسعى إلى مُراعاة السياقات التاريخيّة للأبنية الاجتماعيّة والفكريّة المتّصلة بوضع الإنسان قديماً وحديثاً، لكنّ هذا التصنيف الزمنيّ يُمكن أن يُنبّه أيضاً على مناحي أخرى ذات أهمّيّة للباحث في ضوئها يُمكن أن يُعمّق مُقارَبة التبايُن المَعرفيّ بين تصوّرَين للدين وتعاليمِهِ مُفيدَين للمُقارَنة، ولأسبابٍ موضوعيّة يجب أن تتجرّد مصطلَحَات مثل “تقليدي” و”تراثيّ” و”حديث” و”جديد” و”مُعاصِر” من كلّ اعتبارٍ قِيميّ أو معياريّ ذي صلة بإصدار أحكام غير علميّة. فالتقليديّ أو التراثيّ لا يعني بالضرورة أمراً عتيقاً استنفذ جدواه ولم يعُد نافعاً، كما أنّ الحديث أو الجديد أو المُعاصِر لا يدلّ حتماً على قيمة مُضافة قد تمنح البحث أهمّيّةً خاصّةً. فالرؤية العقلانيّة الأصيلة للدين يجب في مثال الدراسات الإسلاميّة المُعاصِرة أن تَستوعب إنتاج العُلماء المُسلمين قديماً كما تجلّى في الثقافتَين العربيّة والإسلاميّة استيعاباً يستفيد من التصوّر المنهجيّ الحديث باعتباره رؤية مُغنية للبحث تقوم على الاعتراف بتعدّد القراءة وتحليل الخطاب وتأويله من دون إقصاءٍ للرؤية التأسيسيّة.

نحو تصوّرٍ منهجيّ حديث

إنّ أهمّيّة التصوّر المنهجيّ الحديث تكمن في أنّه لا يرى الدّين رسالة متعالية وأحكاماً وتعاليم فحسب، بل كذلك مُعطىً ثقافيّاً متفاعلاً مع الاجتماع الإنسانيّ في كلّ عصر. وعلى الرّغم من أنّ المناهج الحديثة تبدو ظاهريّاً وكأنّها لا تتقاطع مع القراءات التقليديّة، فإنّ عمليّة التوافق بينهما مُمكنة ومُولِّدة باعتبار أهميّة الدّين ودَوره المركزيّ في حياة الإنسان قديماً وحديثاً. وعلى الرّغم من اختلاف المُنطلقات والتصوّرات والسياقات والرهانات، فإنّ مَناهج القراءة الحديثة في العالَم المُعاصر باتت تُنافِس القراءة القديمة لتنبِّه أكثر على أنّ الدّين رسالة إلهيّة مُطلقة للإنسانيّة كافّة على مرّ العصور، وأنّ بعض مَناهج البحث الدينيّ يجب أن تتخلّى عن مقولة أنّ الدّين يُدرس تاريخيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً فقط بصرف النّظر عن مَصدره وتعاليمه لتعترف بأنّ الدّين حقيقة مُتعالية ذات تأثيرات وتحوّلات إنسانيّة وقيميّة كُبرى، وأنّ تعدّد مستويات هذه الحقيقة ونموّها في السياق المُعاصر يؤدّي إلى إثبات الاحتياجات التي تدعو إلى الانفتاح على المُقاربات كافّة والإفادة منها.

لقد بات من المؤكّد للمُجتمعات الإنسانيّة كافّة أن تتّجه الدراسات الدينيّة إلى استقراء الماضي والحاضر في ضوء احتياجات المستقبل الاجتماعيّة والثقافيّة انطلاقاً من دراسة مَظاهر الانتماء الدينيّ واتّجاهاتها في إطار سيرورة التاريخ لتحليل أصنافها ووظائفها وكيفيّة تمثّلها واستمرارها في الحياة المُعاصرة وفهْمها. ولهذا يجب أن يسعى المهتمّون بإجراء مَناهج البحث التاريخيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والنفسيّ في حقل الدراسات الدينيّة، بخاصّة الإسلاميّة منها، إلى جعْل هذا الحقل جزءاً من الدراسات والأبحاث الاستراتيجيّة في ضوء ما يُمكن أن يلعبه الدّين من أدوار مؤثّرة محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً في سياق العَولمة ومتغيّراتها الإنسانيّة المُكثَّفة، المتوَقَّع منها وغير المتوقَّع.