الإنسان الفائق: ليس كيف بل متى؟!

الإنسان الفائق: ليس كيف بل متى؟!
Spread the love

كانت كلمات عالِم الجينات الأميركيّ “كريغ فينتر” في ذلك اليوم من أهمّ ما يُمكن لإنسانِ القرن الحادي والعشرين أن يسمعه: “نجحنا في تخليق خليّة بشريّة حيّة”. الإعلان كان شديد الوقع، ولاسيّما أنّه لم يصدر عن عابر سبيل بل عن عالِمٍ معروف ورئيس معهد أبحاث رائد يحمل اسمه، وأحد أبرز مؤسّسي معهد أبحاث الجينوم الأميركيّ، وسبق أن صنَّفته مجلّة “تايم” من بين الأشخاص المائة الأكثر تأثيراً في العالَم. وعلى الرّغم من ذلك، فقد اضطرّ الرجل لتكرار عبارته غير مرّة ليُطفئ الذهول الذي ساد القاعة.

لم يمضِ وقتٌ طويل على ما أدلى به “فينتر” حتّى صدرت أولى ردّات الفعل، وكانت من البروفسور الأميركي “آرثر كابالان”، رئيس قسم أخلاقيّات الطبّ في مركز “أنجون” الطبّي التّابع لجامعة نيويورك. وهو اختصر ما تحقَّق بجملةٍ ما زالت تتردّد في الأوساط العِلميّة: “أعتقد أنّ هكذا نشأت الحياة”. وعلى الرّغم من دعوة د. “بول وولب” ــ مدير مركز “إيمري” للبحوث الحيويّة ــ إلى “التمهّل قليلاً حتّى يتسنّى لنا إجراء المزيد من الأبحاث والتجارب للتأكّد ممّا إذا كان هذا العمل سيُمكّننا من تخليق حياة جديدة”، كما قال، إلّا أنّ الوسط العِلمي أقرّ بأن ما تحقَّق هو إنجازٌ عظيم غير مسبوق في ميدانٍ علميّ بات قائماً بذاته يُعرَف باسم “التقانة الحيويّة أو التكنولوجيا البيولوجيّة”.

إضاءة على المفهوم

كما يُفهم من اللّفظة، فهذا العِلم يعمل على جبهة مُشترَكة تجمع مهارات التقانة والعلوم البيولوجيّة في حقلٍ مُشترَك: التقانة تعمل على هندسة إنتاج الأعضاء من عناصر حيّة، وعِلم البيولوجيا يهتمّ بدمْجها في الجسم. هذه هي البيولوجيا التركيبيّة التي هي تطبيق لمبادئ الهندسة على أجزاء بيولوجيّة. والأمر هو تماماً كما يبدو عليه: مُزاوَجة بين التكنولوجيا والبيولوجيا في الجسم الحيّ لتعزيز قدراته.

لكن.. ولو باستدراكٍ متأخّر: ماذ يعني بالضبط هذا العِلم الناشئ الذي ما برح في خطواته الأولى الواعدة، وماذا عن ماهيّته؟

البيوتكنولوجي – Biotechnologie أو التقانة الحيويّة تعبير يعني التعامل مع الكائنات الحيّة كالنباتات والحيوانات وحتّى البشر أنفسهم في حالات خاصّة (لأنّ الإنسان هو المُستفيد ولا يكون المُستفاد منه)، أو المواد الناتجة منها (أنزيمات، هورمونات…) واستخدامها لتحسين الخواصّ والصفات الوراثيّة للجنس الحيّ، بغرض تحقيق أقصى الاستفادة منها صحيّاً وعلاجيّاً وفي مَيادين الطبابة والصناعة والزراعة وحماية البيئة. وعلى الرّغم من أنّها تقنيّة قائمة بالأساس على عِلم الأحياء، إنّما يجري العمل على تطويعها وإدخالها فى مجالات أخرى مُختلفة، وبالتالي فهي تقتضي تطبيق المبادئ الهندسيّة والتقنيّة في مَيادين علوم الحياة، ما يشكِّل فتحاً جديداً في هذا الميدان. الباحث “ريتشارد كيتني” من “إمبريال كوليدج” اللّندنيّة، وصفَ ما أُنجز بأنّه “ثورة حقيقيّة في عِلم الأحياء تُضاهي الثورة الصناعيّة”. وبات معروفاً الآن أنّ جوهر هذه الثورة يقوم على الجينوم البشري الذي هو مجمل المادّة الوراثيّة المسمّاة “DNA” التي يحملها الحُيين (الحيوان) المنوي أو البويضة، ويبدو على صورة حبل طويل يتألّف من ثلاثة وعشرين جزءاً يسمّى كلّ واحد منها “كروموزوم”.

إلى هنا ينتهي التوصيف العِلمي لهذا المَبحث الدقيق والمعقّد. لكنّ المُلفت هو أنّه ليس بالإمكان بذلك تجنُّب الكثير من التساؤلات الواسعة التي يطرحها هذا العِلم القائم على الثورة البيوتكنولوجيّة. فما هي الحدود العلميّة المفروضة (حتّى الآن) على عمليّة تخليق أشكالٍ جديدة من الحياة؟ وهل من المُمكن، ولو في المستقبل، أن يُنتج أجناساً جديدة من حيوانات أو كائنات مجهولة حتّى الآن، أو حتّى جيلاً جديداً من “الإنسان الفائق” أو السوبرمان بقدرات فوق بشريّة؟

هذه التساؤلات ليست للإثارة ولا هي بنت اللّحظة، بل إنّها جزء من معضلات جدِّيّة من جملة ما طرحه عالِم الفيزياء الأميركي “ميتشيو كاكو” في كِتابه “Visions”- أو “رؤى مستقبليّة” الذي شرحَ، بناءً على تجارب وآراء وأبحاث أكثر من 150 عالِماً فى جميع المجالات، كيف أنّ العِلم سيغيّر حياة البشريّة فى القرن الحادي والعشرين. والواقع أنّ هذا النمط من التساؤلات لم يعُد غريباً بعد تحقيق عمليّة الاستنساخ وانتقالها من عِلم النباتات إلى عالَم الحيوان، في طريقها إلى عالَم الإنسان. فمِن حيث المبدأ، أصبح من المُمكن عمليّاً استنساخ كائنات حيّة. واستنساخ النعجة دولّلي (1997) على يد “إيان ويلمت ــ Wilmut” لم يكُن مجرّد خاتمة سعيدة لسلسلة طويلة من الأبحاث، بقدر ما كان إيذاناً بدخول الإنسان في عصر جديد.

متى وكيف

في العام 1919 ابتكر عالم الاقتصاد الزراعي المجري “كارل إيركي” مصطلح Biotechnologies. وبفضل التقانات الحيويّة التي استُحدثت في تلك المرحلة، تسنّى للمزارعين اختيار و توليد محاصيل أفضل نوعيّة، ما أفضى إلى تضاعف الغلال وبالتالي إنتاج غذاء كافٍ لدعم تزايد السكان. ولم يلبث أن تمدّد ذلك في مختلف الحقول والمباحث والعلوم العصريّة، وراحت بعض التقانات الحيويّة تستغني عن الكائنات الحيّة (مثلما في مصفوفة DNA) ، وتجلّت هذه القفزة بشكل واضح في تقنيّة الاستنساخ والتوصّل إلى فكّ لغز الجينوم البشري.

لا أعلم ما إذا كان “ألبرت آينشتاين” يعني تماماً التفاؤل الذي يُفهم من عبارة تركها لنا من جُملة إرثه العِلمي الباهر، ومؤدّاها: “علينا أن نكون مُتفائلين بالمستقبل، مهما ظهرت الآفاق محدودة”. لكنّه على ما يبدو كان على حقّ في تفاؤله. فعبارته أصبحت تميمة للعُلماء، فتُحرِّك الهِمم وتعزِّز التصميم والأمل وتدفع للمضيّ قدماً نحو المزيد من الإنتاجات. وراحت قدرات الإنسان تتضاعف بمرور السنوات، كأنّما العُلماء والعِلم قد خَلَفا السَحَرة والسحر في إبداع ما يُزاوج بين الخيال والخرافة لتوليد الأعاجيب التي تُضاهي أساطير الأوّلين. حدث ذلك بينما عُلماء كثر كانوا يشكّكون في نظريّة النسبيّة وصاحبها ولم يُصدّقوه.

وكما شكَّك البعض في آراء آينشتاين العِلميّة في البداية، كذلك فلا أحد في الأمس القريب صدَّق العالِم النيويوركي المُعاصر “كيرل كرزويل” حين توقَّع لذكاء الآلة أن يتجاوز الذكاء البشري ويتفوّق عليه. وهو بلغ الذروة في تقديراته من خلال كِتابه “عصر الآلات الروحيّة” حيث تحدَّث عن حال مُبهمة من التوافق بين الروح و… رقائق السيليكون…، “عندما ستتمكّن التقنيّات الحيويّة من جعْل الذكاء الاصطناعي في مستوى الذكاء البشري، بما في ذلك الجزء الذي يخصّ العاطفة والمَشاعر، بحيث يتلاشى أو يكاد الفارق بين الإنسان والآلة، ويصبح البشر خليطاً من أناس “تقليديّين من الصنف الشائع وآخرين “مٌعدّلين” يجري تعزيز قدراتهم ودعمها بتقنيّات شديدة التطوّر (روبوتات صغيرة يجري تصنيعها من الحامض النووي ذاته) تجعلها قادرة على التفاعل مع مُستخدميها. وسيتحوّل تفكير البشر إلى مزيجٍ بين التفكير البيولوجى وغير البيولوجي”. وفي ملاحظة بالغة الأهميّة، طمأَن العالِم المُتسائلين إلى أنّ “السيطرة ستبقى حكراً على المخلوق العاقل الذي من لحم ودمّ وروح…، وأنّ الإنسان سيبقى هو السيّد الذي تُطاع توجيهاته، وذلك بفضل ذكائه (الطبيعي والسيبراني الاصطناعي) ما سيجعله على الدوام في موقع التفوّق على الآلة”.

هذا الإنجاز، إذا تحقَّق على ما يعتقده “كرزويل” (وهو بالمناسبة خرّيج معهد “مساشوساتس” للتكنولوجيا وكبير مُهندسي “غوغل” ومُخترع أكثر تقنيّات العصر إبداعاً)، سيكون إيذاناً بدخول البشريّة مرحلة متقدّمة على السايبورغ ــ Cyborg، أي المخلوق البشري “المُعدَّل” بفضل التقنيّات الحيويّة، والذي يُعتبر اليوم قمّة “تأليل” الإنسان. أمّا الإنسان “الجديد” فسيكون مُكوَّناً من جزء حيوي وجزء آلي- حيوي، ويتمتّع بقدرات استثنائيّة خاصّة. والمقصود أنّه لن يتميّز بالآلات التي تزرعها التقانة في جسمه، بل ستكون قدراته التقنيّة المُستجدّة، بيولوجيّة.

لكن هل سيكون هناك في المستقبل فعلاً أشخاص بهذه المواصفات ؟

الجواب يعتمد على المنطق الاستنتاجي: فمنذ ابتكار مصطلح “سايبورغ” من قِبل العالِمَين الأميركيَّين “مانفرد كلاينز” و”ناثان كلاين” في العام 1960، والكلمة تتردّد مع مرافقة استثنائيّة من الحفاوة والدهشة، إنّما في قصص وأفلام الخيال العِلمي فقط. وعلى الرّغم من هذا الواقع، فالعِلم يُشير إلى أنّ القرن الحالي الحادي والعشرين، هو المرحلة التي سيظهر فيها “ما بعد السايبورغ” واقعيّاً وعمليّاً… وحتّى الذكاء الفائق لن يعود اصطناعيّاً بل… بيولوجي. وهذه ستكون قمّة الإثارة.

الأمر يبدو ضرباً من الخيال، لكنّ يوميّاتنا تقول إنّنا في سبيلنا بالفعل إلى تحقيق ذلك. أنظر مليّاً إلى وضعكَ…هل يُمكنكَ التخلّي عن هاتف الجيب…؟ بل إنّ علاقتكَ به واعتمادكَ عليه يزدادان يوماً عن يوم. ألم يُصبح جزءاً يكاد يُكمل ذراعك وذاكرتك ومَسارات علاقاتك الاجتماعيّة ووسيلة تواصلك مع الآخر أينما كان واطّلاعك على المعلومات والأخبار وأحوال الرفاق والغرباء والعالَم؟ ألا تتردّد أحاديث في الأوساط العِلميّة عن دراسات جارية في كيفيّة “زرع” محتوى محرّك “غوغل” في الدماغ البشري، بحيث يُمكن للشخص استدعاء مختلف المعلومات في ذهنه، كما يستعرضها اليوم على الشاشة؟

وقائع تكاد لا تُصدَّق

صحيح أنّ معظم ذلك لا يزال مجرّد كلمات على ورقة أو نصوصاً تُضيء على شاشة. إلّا أنّ هذا ليس جداراً مسدوداً… فقد نُقِلَ عن عُلماء أميركيّين (كما جاء في مجلّة “Science” العِلميّة الرصينة) عن النجاح في تصنيع جزء من قلب بشري (صمّام) من مادّة الكولاجين عبر تقنيّة متقدّمة باستخدام طابعة ثلاثيّة الأبعاد. وفي السياق ذاته أعلن “آدم فاينبرغ” الأستاذ في هندسة الطبّ الحيوي في جامعة “كارنيغي ميلون” في بنسلفينيا، والذي شارك في تخليق الصمّام: “نحن لم نضع الصمّام بعد في جسم حيوان، لكنّنا أنشأنا نظاماً يُمكنه مُحاكاة ضغط الدمّ ومعدّل تدفّقه في جسم الإنسان، ووضعنا الصمّام فيه، وتبيّن أنّه يعمل. إنّ ما تمكنّا من إظهاره هو أنّه بات بالإمكان طباعة صمّام قلب من الكولاجين”. وهذه على ما هو معلوم، مادّة مثاليّة تتواجد في كلّ الأنسجة البشريّة.

ولا مبرّر للإضافة التي باتت واضحة: إذا نجح العِلم في “طباعة” صمّامٍ للقلب، فسوف ينجح في ما بعد بإعادة إنتاج الهياكل البيولوجيّة المعقّدة في جسم الإنسان.

أمام هذا كلّه لم يعُد في الأمر شكّ: لقد قَطعت علوم البيوتكنولوجي جزءاً، ولو قصيراً، من الطريق الذي يجعل من أحد أحفادنا القريبين أو البعيدين مشروع إنسان “فائق”.

السؤال لم يعُد محجوزاً في مقصورة الـ”كيف”، بل هو انطلق على قطار الـ:”متى”. وكلّ آتٍ قريب.

محمود برّي/ كاتب من لبنان