«داعش» و«البعث»: من بداية اللغز إلى فكّ الارتباط في الموصل

«داعش» و«البعث»: من بداية اللغز إلى فكّ الارتباط في الموصل
Spread the love

بقلم: عبد الله سليمان علي — كواليس العلاقة بين تنظيم «داعش» وحزب «البعث» العراقي المنحلّ ستظل عصيّةً على الاكتشاف، وقد لا تخرج أبداً عن إطار التكهّنات أو الاتهامات التي لا يوجد دليل قطعيّ عليها. لكنّ معركة الموصل باعتبارها آخر المعارك الكبرى ضد التنظيم في العراق، أتاحت على ضوء انهيار التنظيم وفقدانه الجغرافيا والحاضنة، انكشاف العديد من الروافد السرّية التي كانت تغذيه لغايات مختلفة، ومن بينها رافد «البعث» العراقي. غير أن هذا الانكشاف جاء في اللحظة نفسها التي باشر فيها الطرفان فك الارتباط بينهما، ما يعني أن الجزء الأكبر من أسرار علاقتهما سيبقى مكتوماً لفترة طويلة.

ومنذ البداية سعت العديد من الجهات المحلية العراقية والإقليمية والدولية نحو «بعثنة داعش» أو «دعشنة البعث» لا فرق، وكان لكل جهة من هذه الجهات أهدافها الخاصة. فإما أن يتعلّق الأمر بحسابات محلية لفريق عراقي ضد فريق آخر، لا سيما في ظل سياسة «اجتثاث البعث»، أو برغبة دولية في سحب هذه العلاقة نحو أنظمة أخرى بهدف معاقبتها أو إسقاطها كالنظام السوري الذي يقود البلاد أيضاً باسم «حزب البعث».

كان «حجي بكر» باسمه وتاريخه ومنصبه وتأثيره، بمثابة حجر الزاوية في حملة الاتهامات المتعددة الأطراف التي ربطت بين «داعش» و«البعث». فالعقيد البعثي السابق، واسمه سمير عبد محمد الخليفاوي، أصبح بحسب الروايات المتداولة صانع سياسات تنظيم «داعش»، بل أحد الفاعلين الأساسيين في تنصيب زعيمه أبي بكر البغدادي في عام 2010، بعدما تضافرت عوامل عديدة جعلت منه صلة الوصل شبه الوحيدة بين قيادات التنظيم العليا التي كانت قد تشتت بفعل «حرب الصحوات» المدعومة أميركياً ضدها.

ورأى كثر، ومن ضمن هؤلاء دول وأجهزة استخبارات، أن حجي بكر قام بانقلاب بعثي ضمن تنظيم «داعش» بعد مقتل زعيمه السابق أبي عمر البغدادي. وأن التنظيم الذي كان معروفاً آنذاك باسم «دولة العراق الاسلامية» أصبح مرتعاً لضباط الجيش العراقي السابق (جيش صدام أو البعث). ويستدل هؤلاء بالهيكلية القيادية للتنظيم بعد تولي أبي بكر البغدادي الزعامة، حيث أغلب المناصب العليا (وزراء ثم قادة المجالس المركزية) كان يتولاّها ضباط سابقون ذوي تنشئة بعثية.

وبالإضافة إلى غلبة ضباط الجيش العراقي السابق على هيكلية التنظيم، فهناك شواهد أخرى تصب في الخانة نفسها. ومن قبيل ذلك التصريح المنسوب لرغد صدام حسين بعد استيلاء التنظيم على مدينة تكريت في عام 2014، حيث قالت «هؤلاء جنود أبي». كما نسبت شبكة «سي إن إن» لرغد صدام حسين تصريحات تقرّ فيها بدعم «داعش» مالياً.

كذلك فإن عزت الدوري، نائب الرئيس العراقي السابق وزعيم حزب «البعث»، سبق له أن وجّه إلى «مجاميع أنصار السنة وفي طليعة هؤلاء جميعاً أبطال وفرسان القاعدة والدولة الإسلامية»، تحية علنية في خطاب صوتي صدر في شهر تموز من عام 2014 أي بعد تاريخ إعلان «الخلافة» من قبل تنظيم «داعش»، واعتبر الدوري في الخطاب نفسه أن «يومَي تحرير نينوى وصلاح الدين من أعظم أيام تاريخ العراق والعرب»، يقصد سيطرة «داعش» عليهما. وليس بخافٍ أن مسلحي «الطريقة النقشبندية» التي يقودها الدوري حاولت أن يكون لها دور عسكري في الموصل لكن التنظيم أجهضه بسرعة.

لكنّ جميع هذه الأدلة غير كافية لاستخلاص دلالة نهائية، خاصةً إذا كان المطلوب هو إثبات وجود علاقة رسمية قائمة على التحالف العسكري والسياسي بين نقيضين، أحدهما يمثل الأصولية الإسلامية بأقصى مظاهرها، والثاني يمثل العلمانية بحدّها الأدنى في العالم العربي.

ولرسم صورة واقعية ينبغي القول إن «البعث» و«داعش» يقف أحدهما من الآخر على طرف نقيض أيديولوجياً وعقلياً، لكنهما وجدا نفسيهما بعد الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام الرئيس صدام حسين أمام تحدٍّ وجودي واحد. لكن للمفارقة لم يكن بإمكانهما العمل معاً لمواجهة هذا التحدي لأن وحدة الجغرافيا والحاضنة فرضت أن يكون العمل وفق آلية «الإظهار والإخفاء»، فلا يمكن أن يتزامن ظهور أحدهما مع ظهور الآخر، بل على أحدهما أن يختفي مفسحاً في المجال لظهور نقيضه.

وكان من الواضح في تلك الفترة أن حظوظ «الجهاد» كانت متقدمة على حظوظ «النضال»، فتقدّم تنظيم «القاعدة» بقيادة أبي مصعب الزرقاوي ليتسلم الراية ويحتل المشهد ويهيمن على الجغرافيا والحاضنة، بينما كانت حملة «اجتثاث البعث» تتصاعد في البلاد مُحيلةً الحزب الحاكم سابقاً، ملايين من الفارّين والمطلوبين. بعد ذلك حدثت «نكسة الصحوات» وفقد التنظيم هيمنته وعاد مشرداً إلى الصحراء.

في لحظة الضعف هذه التي قُتل فيها زعيمه أبو عمر وجاء مكانه أبو بكر البغدادي كان لا بدّ للتنظيم من محاولة استرجاع قوته. وكانت الطريقة الوحيدة لذلك هي رفد بنيته المهزومة والمترهلة بكوادر جدد يعيدون إليها وهج النشاط. وفي هذه اللحظة بالذات كانت بداية اللغز المحيّر الذي نشأ بين «داعش» وبين «البعث».

وقد اكتست العلاقة خصائص اللحظة التاريخية التي نشأت في ظلالها، والتي تتمثل من طرف «داعش» بالضعف والرغبة في استقطاب كوادر الجيش العراقي العسكريين. وتتمثل من طرف «البعث» بـ «عودة التوازن» مع نقيضه الأيديولوجي، ما دفعه إلى محاولة التحايل على «آلية الإظهار والإخفاء» عبر محاولة ابتكار حل وسطي يقوم على استعارة وجه نقيضه، الذي هو «داعش»، والعمل تحت قناعه.

على خلفية هذه الصورة، تكونت بين الطرفين علاقةٌ فريدة من نوعها، إذ كل منهما يدرك حاجته إلى الآخر لكنه لا يملك ترف التكامل معه، بل عليه العمل على استقطابه إليه وإدخاله في مصنعه من أجل إعادة إنتاجه لاستخدامه بعد ذلك في أجندته الخاصة به، تارة باسم العروبة وتارة أخرى باسم الإسلام.

من هنا كان «داعش» خلال استقطابه ضباط الجيش العراقي وجنوده السابقين يظن أنه نجح في «سلفنة» هؤلاء وفق معتقده الديني، بينما كانت قيادة «البعث» ترتجي أن يكون دخول خلاياها من الضباط والجنود السابقين إلى جسد «داعش» بمثابة «اختراق» يمهد لها في ما بعد الهيمنة على هذا الجسد وتحريكه وفق غاياتها.

وقد احتاج الأمر إلى عشرة أشهر منذ تحية «فرسان الخلافة»، حدثت خلالها أحداث جسام، قبل أن تكتشف قيادة «البعث» أن «التطبيع» الداعشي يتفوق على «اختراقها»، وأنها على وشك أن تخسر كل شيء، الأمر الذي دفعها إلى الانعطاف ومحاولة الخروج من المعادلة القاسية التي زجت نفسها فيها. وعليه كان خطاب عزت الدوري في شهر أيار من عام 2015 الذي تحدث فيه بصراحة عما يقال عن علاقته مع «داعش»، فأكد أنه «رغم تقاطعنا معه من حيث العقيدة إلى الفكر والخطوة التي نخطوها في الميدان، فإنهم حتى وإن أردنا اللقاء معهم فهم لا يقبلون، لأنهم يكفّرون البعث». وكانت هذه أول إشارة إلى أن «البعث» بدأ ينفض يديه من التنظيم وإمكانية امتطائه. لكن «فك الارتباط» لم يكن ممكناً بمجرد خطاب الدوري، فالأمر يتصل بطبيعة موازين القوى على الأرض التي كانت ترجح لمصلحة «داعش».

غير أنه منذ بدء الحديث عن «معركة الموصل» أدركت قيادة «البعث» أن «داعش» يمر بلحظة ضعفه الثانية، التي يمكن لها أن تستغلّها لتغيير المعادلات مرة أخرى. وارتأت بناءً على ذلك أنّ «فك الارتباط» النهائي أصبح ممكناً للخروج من معادلة «التطبيع» و «الاختراق» التي جرت في غير مصلحتها. لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يعلن الدوري في اليوم التالي لبدء معركة الموصل، نفيه وجود أي تحالف بين «البعث» و «داعش»، مشدداً على «أننا نتعارض مع (داعش) عقائديا ومبدئيا»، متناسياً أنه في خطاب سابق دعا إلى «التوحد وحل الخلافات».

وكما أنه من الصعب تحديد الطرف الذي بدأ بالمعادلة السابقة، فمن الصعب أيضاً تحديد من منهما بدأ بفك الارتباط، إذ إن تنظيم «داعش» وفي خطوة غير مسبوقة بتاريخه، على الأقل، منذ عام 2010، اعتمد هيكلية قيادية جديدة تقوم على أسس مختلفة عن الهيكليات السابقة.

في الهيكلية الجديدة يلاحظ أن دور العراقيين، وخاصة الضباط، قد تقلص لدرجة كبيرة لمصلحة الأجانب الذين احتلوا للمرة الأولى مناصب كانت حكراً على العراقيين، مثل رئيس مجلس الشورى المركزي الذي ذهب للأردني عمر مهدي زيدان السلطي، والمفتي العام للبحريني تركي البنعلي، وغيرها من مناصب أخرى. وهو ما يعني أن التنظيم توقف بدوره عن الرهان على الكوادر البعثية وضباط الجيش السابق.

ما سبق يجعل من الصعب الإجابة عمّا إذا كان انسحاب «البعث» من المعادلة الخاسرة هو الذي أدى إلى تغييب العراقيين عن قيادة «داعش»، أم أن الأخير هو الذي استبق المرحلة الجديدة التي يكاد يخسر فيها شطره العراقي بالكامل، بعدما أدرك حاجته إلى التركيز على «عولمة» نفسه عبر إعطاء الأجانب دوراً أكبر؟

مهما يكن الجواب فإن المؤكد أن العلاقة بين «البعث» و «داعش» ستنتهي عما قريب إلى انفصال تام بينهما بطريقة تشبه تماماً الطريقة التي بدأت بها، حيث الكواليس الغامضة التي لم يحن وقت الكشف عنها بعد.

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية