سياسة الغموض لترامب يمكن أن تتضح أنها خطر أكيد

سياسة الغموض لترامب يمكن أن تتضح أنها خطر أكيد
Spread the love

بقلم: حيمي شاليف – محلل سياسي إسرائيلي —

•في تشرين الأول/ أكتوبر في سنة 1969، قرر الرئيس ريتشارد نيكسون فجأة رفع درجة التأهب النووي في الجيش الأميركي في شتى أنحاء العالم. فأُخرجت الصواريخ من مخازنها، وتدربت الغواصات على إطلاقها، وقامت القاذفات الضخمة B-52 المحملة بالقنابل الهيدروجينية بالتحليق مدة 72 ساعة بالقرب من حدود الاتحاد السوفياتي. وسرّب موظفون أميركيون بقلق أن نيكسون يدرس حسم الحرب في جنوب شرق آسيا بواسطة قصف نووي يستهدف هانوي عاصمة فيتنام الشمالية. معظمهم لم يعرف أنه يُستخدم كأرقام في مناورة خادعة معقدة وخطرة وضعها نيكسون مع مستشار الأمن القومي آنذاك، هنري كيسنجر، هدفها الضغط على موسكو وهانوي للموافقة على تسوية مقبولة من جانب نيكسون في فيتنام. أطلق نيكسون على هذه الاستراتيجية اسم “نظرية المجنون”.

•لا يزال المؤرخون يختلفون حتى الآن بشأن إلى أي حد حقق هذا التضليل هدفه. بعضهم يعتقد أن مناورة المجنون لنيكسون وكيسنجر أجبرت السوفيات على التوصل إلى اتفاقات على تقليص السلاح النووي، بينما يشير البعض الآخر إلى عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين الذين قُتلوا خلال السنوات الست التي مرت بين المناورة وبين المغادرة الأميركية النهائية لفيتنام، كدليل على فشل هذا التكتيك. إن أحد العيوب الأساسية في محاولة نيكسون تصوير نفسه كأبو علي نووي، أن أغلبية العالم كانت تعرفه جيداً منذ عشرات السنوات في السياسة الأميركية وتعرف أنه سياسي عاقل ومتوازن- وهذا ما لا يمكن أن يقال عن دونالد ترامب في نهاية 15 شهراً على الرئاسة.

•يؤمن الرئيس الأميركي بخلق حالة من عدم اليقين لدى خصومه وأصدقائه على حد سواء. وقال ذات مرة: “لا أريدهم أن يعرفوا بما أفكر فيه”. يعترف علماء في علم النفس وفي العلوم السياسية بأن الغموض يمكن أن يشكل ميزة مهمة في إدارة مفاوضات تجارية وأزمات دولية أيضاً، لكن بشرط أن يكون غموضاً موجهاً ومضبوطاً. ويعتقد كثيرون أن هذا الأسلوب نافع حتى الآن مع كوريا الشمالية، لكن التوتر على الحدود الشمالية لإسرائيل في أعقاب ما يبدو أنه هجوم بالسلاح الكيميائي لقوات الأسد على ضواحي دمشق هو اختبار معقد، بل وخطر جداً، وستوضح نتائجه ما إذا كان غموض ترامب وعدم منطقيته هما أداة بيدخبير في”فن الصفقة” أو هما مزيج خطر من الجهل والأنانية والجنون وعدم الخبرة وعدم الاتزان الكامل. والاحتمال الثاني يضع إسرائيل طبعاً في مواجهة تهديد خطر.

•إعلان ترامب في الأسبوع الماضي أنه ينوي إعادة 2000 جندي أميركي يخدمون في سورية إلى بلادهم كان كافياً لإثارة قلق المستشارين العسكريين وتخويف بنيامين نتنياهو حتى قبل التصعيد الأخير، في أعقاب الهجوم الكيميائي على بلدة دوما. حاول نتنياهو إقناع ترامب بالتراجع عن موقفه شارحاً له أن إعلانه يشجع إيران على تعميق قبضتها على سورية، لكنه، على ما يبدو، فشل. وبحسب كلام السيناتور جون ماكين، شجع إعلان ترامب الأسد على تحدي الأميركيين من خلال إبادة العشرات من مواطنيه بواسطة الغازات السامة.

•لقد حظي ترامب بتصفيق حار العام الماضي عندما أمر بإطلاق 59 صاروخ توماهوك رداً على هجوم بالسلاح الكيميائي شنّته قوات الأسد في نيسان/أبريل 2017 على منطقة إدلب. وقال مناصروه إن ترامب قد أثبت أنه رجل، بخلاف ضعف أوباما الذي هدد وتوعد وفي النهاية اكتفى باتفاق مليء بالثغرات يقضي بإخراج مخزون السلاح الكيميائي من سورية. لكن منذ هذا الهجوم الأميركي استخدم الأسد السلاح الكيميائي ثماني مرات على الأقل، ومن أجل المحافظة على الانطباع بأنه على الرغم من ذلك فإن ترامب لقّن الأسد درساً لن ينساه، تجاهل أنصار ترامب في واشنطن وفي القدس ذلك ببساطة. لقد كان الهجوم في دوما كبيراً إلى حد لا يمكن إخفاؤه. أدخلت أشرطة الفيديو الرعب إلى كل بيت. وفي الوقت عينه، سخر الأسد من ترامب ومن العالم كله.

•إن ثقة الأسد بنفسه ناجمة طبعاً عن نجاحه المتوقع والنهائي في الحرب الأهلية المدمرة التي هدفت منذ البداية إلى الاطاحة به، وكذلك ناجمة عما يبدو اليوم تشدداً معيناً في الخط الروسي، سواء حيال الولايات المتحدة أو حيال إسرائيل. وبعد أن عززت روسيا سيطرتها في سورية تسعى للتصرف وكأنها السيد الوحيد فيها. وإذا انعكس هذا التغيير ميدانياً أيضاً، فإنه سيكون خبراً مقلقاً للقدرة الإسرائيلية على منع انتقال السلاح إلى حزب الله وردع إيران عن زيادة وجودها في سورية عموماً، وبالقرب من هضبة الجولان خصوصاً. في مثل هذه الظروف، فإن نية ترامب إعلان رغبته في الخروج من الاتفاق النووي مع إيران الشهر المقبل – إذا لم يتراجع عن ذلك- قد تُفرح نتنياهو وخصوماً آخرين للاتفاق، لكنه يمكن أن يورط إسرائيل في تصعيد إقليمي سيكون بالغ الخطورة أضعافاً مضاعفة إذا غاب ترامب عن الصورة. فجأة سيتذكر الجميع أن ترامب غرّد في 2013 بأن أوباما سيكون غبياً إذا هاجم سورية وكتب: ” أمور كثيرة سيئة قد تجري في حرب لا تربح منها الولايات المتحدة شيئاً”.

•يتفاقم الغموض بسبب عدم وجود معرفة داخلية وعميقة لطبيعة علاقات ترامب مع فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من ارتفاع حدة تصريحاته حيال الرئيس الروسي، وعلى الرغم من موافقته على فرض عقوبات جديدة مؤلمة على الكرملين، ومن أن مستشاره الجديد للأمن القومي جون بلتون يدعم انتهاج خط عدائي ضد موسكو واستخدام القوة في مواجهة الأعداء في الشرق الأوسط، فإن الخفي أكثر من الظاهر بشأن توجّه ترامب الحقيقي، من دون الحديث عن الشك الذي يصدع الرأس بشأن قدرة الروس على ابتزاز الرئيس الأميركي حرفياً.

•إسرائيل، والولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وسورية، وتركيا، وحزب الله، والشعب الكردي يواجهون ورطة كبيرة يمكن أن تُدخل إسرائيل في مواجهة خطرة مع موسكو، أو تورطها، لا سمح الله، في حرب إقليمية لا تريدها. ويخلق انتهاء الحرب الأهلية في سورية مأزقاً استراتيجياً متعدد الأبعاد يمكن، في السيناريو الأسوأ، أن يؤدي إلى كارثة كبيرة. فلو كان نيكسون وكيسنجر هما اللذان يديران الأمور لكان في الإمكان أن ننام بهدوء أكثر، وأيضاً لو كان أوباما هو الرئيس الآن لكان الأمر كذلك في مواجهة ثعالب مخضرمة مثل بوتين وأردوغان وروحاني والأسد ونصر الله، وأيضاً نتنياهو، هناك جنرالات أميركيون صارمون وأصحاب خبرة، لكن القرارات المصيرية لمستقبل العالم يتخذها رئيس لا يمكن توقع ردات فعله مطلقاً. وعندما يعِد بأنه سيعطي جوابه خلال “48 ساعة”، لا أحد يستطيع أن يعرف إذا كان هذا سينتهي بقصف أو بنحيب.

المصدر: صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole