كيف تحوّلت رؤية الإعلام العالمي تجاه سوريا

كيف تحوّلت رؤية الإعلام العالمي تجاه سوريا
Spread the love

بقلم: فاطمة فاضل* —

في بوتقة المؤسسة الإعلامية توضع شتى أنواع الأفكار وخلاصة الخبرات والأعمال كصرح ثابت ودليل ملموس على تعب سنين مضت، وعلى الإعلامي الناجح أن تكون لديه ثقافة كبيرة ورأي ثابت ونظرة دقيقة لكل ما يجري حوله وإيمان بسياسة الوسيلة التي ينتمي إليها، كونه في معظم الأحيان هو المسؤول عما يقدمه والقائد للحوار الذي يديره، وباستطاعته تغيير اّراء الكثير من الجمهور ممن ليست لديهم قاعدة ثابتة أو رأي محدد حول قضية معينة تشغل الشارع سواء محلية أو عالمية.
ولكن في حال باع الإعلامي ضميره للوسيلة التي يعمل بها، أو كانت بتوجهاتها تناسب أفكاره التي لا تتوافق مع القضية المطروحة، فهنا تكون المشكلة. ففي تلك الوسيلة تتم إعادة غسل الأدمغة وتحييدها بعيداً عن الموضوعية بما يتناسب مع مصالح الوسيلة الشخصية، ليخرج منها فريق قادر على تحريف الرأي العام وتغيير مسار الجماهير واللعب بعقولها على أوتار تثير الفتنة والخلاف في المجتمع الموجّهة إليه الرسالة. فالعالم العربي بخاصة قلّت فيه المؤسسات الإعلامية التي التزمت بميثاق الشرف الإعلامي، فهو رهينة رأس المال الذي يتحكم بسياسة الوسيلة كما ترغب مصالحه، ورهينة للتحالفات السياسية والاقتصادية.
وهذا ما حدث تماماً بما يخص الأزمة السورية في السنوات السبع الماضية، حيث عمل إعلام العالم بشقيه العربي والغربي على إثارة الفتنة والنعرات الطائفية كون الوتر الديني هو الأكثر تأثيراً بأي شعب عربي كان.
مع العلم أن إعلام تلك الدول كان السباق دائماً لنقل الأخبار السورية من أحداث اقتصادية واتفاقيات وفق سياسات الدول التي توجّه هذا الإعلام، وخاصة في السنوات الأخيرة ما قبل عام 2011، حيث كانت الدولة السورية في أوج علاقاتها مع دول العالم ودول الجوار.
فمثلاً علاقة تركيا بسوريا كانت علاقة ود واحترام وتبادل تجاري وثقافي حتى عام الأزمة، حتى أن دمشق كانت في أوج علاقتها مع أنقرة تروّج للسياحة في تركيا من خلال حملات إعلامية ودعائية كبيرة، إلّا أن الأخيرة غدرت بجارتها الغدر الأكبر.
وسائل إعلامهن طبّلت وزمّرت للعلاقات الثنائية بين البلدين، وأشادت بأهميتها وعمقها، حتى اللحظة المشؤومة، والتي تراجعت فيها هذه العلاقات فباتت تبث الحقد والفتنة بأعلى وتيرة.

الإعلام العربي والفكر التكفيري
قال لي الصحافي المصري “إسلام غُنيم” الذي يعمل في مجموعة قنوات مصرية منها “دي إم سي” المؤيدة لسوريا، “أن التوجه المصري كان لدعم سوريا والوقوف الى جانبها في محنتها، إلّا أن الرئيس الأسبق محمد مرسي رفض ذلك، وأمر القنوات ببث الأخبار الطائفية التي تناسب تطلعاته الوهابية من محاولة الشيعة وأتباعهم قتل السنة في سوريا ويعملون على تهجيرهم وقتلهم والاستيلاء على رزقهم، لكن بعض القنوات والإعلاميين رفضوا ذلك ولكن قوبلوا بالتهديد بالقتل والتكفير وإرهاب كل من خالف السلفيين رأيهم، إلّا ان قنوات ” مصر 25، الناس، الرحمة، الشباب”، امتثلت لأوامر الفتنة وحرضت على سوريا لكسب ود الإسلاميين المتطرفين، وبعد ثورة الشعب المصري على مرسي في حزيران -يونيو 2013 ووضعه في السجن، أُعيدت هيكلة بعض هذه القنوات مثل “الناس والرحمة” لتتماثل في بثها مع بقية القنوات وتتخذ الاتجاه الحقيقي تجاه سوريا، فيما تم إغلاق بقية القنوات التي موّلت من تركيا وقطر”.
وكذلك الأمر مع الإعلام الخليجي وبخاصة قناة “العربية” السعودية، و”قناة الجزيرة” القطرية التي كانت الداعم الأبرز للحرب السورية، وذلك بعد علاقات طيبة جمعت سوريا وقطر وزيارات رسمية متبادلة تكررت واستثمارات تطورت.. كل ذلك ذهب مع الريح بغمضة عين، إذ صممت “الجزيرة” على نشر الفكر “الإخواني” والتطرف في البلاد العربية بالتعاون مع النظام التركي لسهولة السيطرة على عقول الشعوب، فحرّضت هذه القناة على الاحتجاجات والتمرد والقتل والتدمير عام 2011 أو ما سمّي “بالربيع العربي”، فب حرب إعلامية تضليلية وفبركات غير مسبقة. ولم يقتصر عملها على توفير الزخم الإعلامي، بل تخطى دورها من المشاهدة الى المشاركة في صنع الأحداث كما تخطت دورها الى توجيه المحتجين والمتظاهرين، حيث كان الإرهابيون يتلقون أجهزة مخصصة من قناة “الجزيرة” للتواصل معها ونقل الأخبار والصور لها وهذا ما كشف زيف حقيقتها.

حرب المصطلحات
عن الإعلام التركي وتحولاته تحدث الصحافي التركي “موسى أوزاوغورلو” الذي عمل مع “تي أر تي تورك” قائلاً: إن الوسائل الموالية للحكومة التركية كانت تعدّل الأخبار التي يرسلها في مركز القناة وتبدل كلمة الرئيس بشار الأسد بـ(أسد) (القاتل .. المجرم بشار الأسد) وكلمة الجيش السوري بـ(الجماعات التابعة للأسد، أو الشبيحة، أو ميليشيات الأسد) والجماعات المسلحة المتمردة والمنشقة بـ(الجيش السوري الحر).
وكانت القناة التركية تحرر تصريحات المسؤولين السوريين بـ”ادعى، هدد، زعم..” وتصريحات المعارضين بـ( أكّد .. شدّد.. أوضح.. بيّن..)،
وعوضاً عن تعبير حصل اشتباك بين الجيش والجماعات المسلحة كان يستبدل بتعبير “اعتداء لميليشيات الأسد على المدنيين”. فكل من هو ضد الحكومة السورية كان (مدنياً) بلغتهم.. ولكن مؤخراً بدأت تقول “الرئيس السوري بشار الأسد.. الجيش السوري” بشكل غير واضح، ولكن ملامح الانعطاف واضحة.
وقال الصحافي السوري “كميت يوسف” الذي عمل مع الإعلام التركي: لا يوجد في تركيا كما في معظم دول العالم إعلام مستقل أو حيادي. فكما تقول السلطات يردد الإعلام، وكما يقول الرئيس رجب طيب ردوغان يستجيب إعلام بلاده: كان أردوغان قبل الحرب يقول “أخي بشار” وفي بداية الحرب في سوريا “الرئيس بشار الأسد” ثم صار يقول الأسد، وهكذا معظم وسائل الإعلام التركية كانت تقول”.
أما وسائل الإعلام المستقلة عن حكومة حزب العدالة والتنمية والمعارضة له، فأثقِل كاهلها بالغرامات والمخالفات المالية، أو إغلاقها وزج أفرادها في السجون وإنهاء تشغيلهم، أو وضع قيّود من الهيئة العليا للراديو والتلفزيون (ر توك) مثال قناة “أون فور تي في On4 TV ” التي أُغلقت بمرسوم الطوارئ الرئاسي في 22 كانون الثاني – يناير 2017 وحتى 5 حزيران -يونيو 2018.
وبالنسبة للتهمة فهي “دعم الإرهاب وممارسة نشاطات تضر بالأمن القومي التركي”.
وقال المراسل العامل فيها حسن أكاراس “إن القناة أغلقت لأننا نقلنا الأحداث والصورة الحقيقية للوضع في مختلف مناطق حلب ولممارسات مَن تدعمهم حكومة بلادي”.
كما زُج نائب حزب الشعب الجمهوري “أنيس بربرأوغلو” في السجن بسبب تسريبه صور قاطرات السلاح التي أرسلتها الاستخبارات التركية إلى الإرهابيين في سوريا، وفرّ رئيس تحرير صحيفة جمهورييت “جان دوندار” الذي نشر الخبر إلى ألمانيا.
فكان على القنوات التي لديها مراسلون في سوريا، ولا تقوى على مواجهة الحكومة، الالتزام بمصطلحات محددة كـ (المعارضة– الجماعات المسلحة– جبهة النصرة – الجيش السوري الحر) وعدم وصف أي منهم بالإرهابي سوى “داعش” مع التشبث بوصف حزب الاتحاد الديمقراطي بـ”الإرهابي” وبأنه امتداد لحزب العمال الكردستاني، ووصف قتلى الجيش التركي (شهداء)، كما كانت تقول (النظام السوري – جيش النظام – قتلى الجيش السوري- اللاجئين وليس النازحين).
قناة “أولوصال قنال” التي وقعت مذكرة تفاهم مع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في عام 2012، تحدث عنها ممثلها (دنيز بستاني)، بأن القناة قد بررت للحكومة التركية كل إجراء ضد الكرد في سوريا وفي تركيا، بما فيها عملية “درع الفرات”، وعملية سليمان شاه، وعملية غصن الزيتون، وعمليات الجيش التركي في بعشيقه وجبل قنديل .. في العراق. ولكن القناة قد دافعت عن ضرورة عودة العلاقات مع سوريا وإعادة حكومة العدالة والتنمية إلى السكة الصحيحة في السياسة تجاه دول الجوار. وسعت إلى فتح قناة تواصل بين البلدين رغم استعار مشاعر البغض، واستقدمت وفوداً تحت مظلة حزب الوطن التركي الذي تتبع له القناة، حيث التقت بشخصيات سياسية سورية، وكان آخرها في 4 مايو – أيار 2018.
وكنتيجة لهذه المساعي تم طرح مسألة إعادة العلاقات مع سوريا وضبط الحدود لمنع تسرّب الإرهابيين إلى سوريا عن طريق ممثل حزب الشعب الجمهوري عن لواء اسكندرون سركان طوبال.
ممثل القناة دنيز بستاني كتب خبراً تحت عنوان (النصر القومي لسوريا في حلب) في 13 كانون الأول – ديسمبر 2016 في صحيفة آيدنليك التي تتبع لحزب الشعب الجمهوري، وبعد يومين من نشر الخبر اعتقلته الشرطة التركية من منزله الكائن في أنقرة وتم استجوابه وطرح الأسئلة التالية عليه: (هل أنت تدعم انتصارات الظالمين في سوريا؟ فأجاب: لا ولمَ؟ أنا أدعم الجيش العربي السوري الذي يدافع عن وطنه وشرفه ضد قطعان الخونة الذين باعوا الوطن بالمال، فهم في سوريا كما حزب العمال الكردستاني في تركيا، في الظاهر معارضون وفي الباطن إرهابيون” وتم إطلاق سراحه بعد ثلاث ساعات.
أما الصحافي عمر أودميش المختص في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة “إيه بي جي” وتلفزيون تيلي بير حالياً وصحيفة يورت سابقاً، والذي التقى بالرئيس بشار الأسد وكتب كتاب “بشار الأسد وهزيمة حزب العدالة والتنمية”، فقد اعتقل في 7 نيسان – أبريل 2018 لمدة أسبوع تقريباً بتهمة الترويج لتنظيم “حزب جبهة التحرير الشعبي الثوري” التركي وبسبب منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، وأطلق سراحه بعد تأكيد المحكمة أن التنظيم المذكور أغلق في عام 1997 وزعيمه الأخير (معراج أورال) يتزعم ميليشيا في سوريا (اللاذقية) تقاتل تحت لواء الجيش السوري.

الثلج يذوب
بدأت حكومة حزب العدالة والتنمية منذ عام 2010 تعطي إشارات أنها ستخطو خطوات نحو التغيير بالسياسة تجاه سوريا، وبدأت بضخ سيول الأخبار الكاذبة والدعاية لتشكيل رأي عام يناسبها، ومارست كل أنواع الضغوط على الصحافيين الذين ينقلون الحقائق عن سوريا من سجن وغرامات مالية وطرد من العمل.
وكمثال على ذلك عمر أودميش ممثل صحيفة “أ ب ج” في الشرق الأوسط: وقد كتب أودميش الرسالة التالية إلى الرأي العام: “عملتُ طوال 5 سنوات على نقل الحقيقة في سوريا للرأي العام التركي والعالمي بواسطة الأخبار التي كتبتها، حيث كتبت قرابة 650 خبر وتقرير ورأي، وكتبت كتاب “الأسد وهزيمة حزب العدالة والتنمية في سوريا”، وكتبت 300 خبر لتصحيح الأخبار الخاطئة، عندما كانوا يقولون “سقط الأسد وكاد يسقط” كنت أقول “لم ولن يسقط، وسيخرج منتصراً وسيستعيد استقلاله وحريته، ونقلت كل ما شاهدته ووثقته الى الشعب التركي بكل موضوعية”.
قمعت حكومة حزب العدالة والتنمية معارضيها الذين حذروا من انقلاب أردوغان وجماعته على سوريا، واستحواذها على وسائل الإعلام التركية حال دون إيصال الصوت. فقد حاول حزب العدالة والتنمية منذ سنوات تطويع الإعلام لصالحة تماماً، ونجح بنسبة كبيرة جداً. ولفهم ذلك يجب النظر إلى سياسة حزب العدالة والتنمية تجاه الإعلام منذ بدايته إلى اليوم:
“دوغان هولدينغ” هي شركة قابضة تُعدّ من أكبر شركات الاحتكار في تركيا وتملك عشرات التلفزيونات (قنال د دريم ت ف، دريم تورك ت ف، فيكس ت ف، يورو ستار ت ف، قنال اتش دي ت ف..) والراديوهات (راديو د، سلو تورك راديو، راديو موضا)، والصحف (حرييت، بوستا، راديكال، فاناتيك، حرييت ديلي نيوز”تركش ديلي نيوز”)، ووكالات الأنباء، والمجلات، ومواقع الإنترنت بالإضافة إلى شركات الطاقة والشركات الصناعية والتجارية والسياحية والمالية، والقنوات المشتركة بين آيدن دوغان وتايم وورنير غروب: سي إن إن تورك، ت ن ت تركيا، كارتون نيت ويرك، ومحطة سي إن إن تورك الإذاعية.

إعلام ممنهج
في وسائل الإعلام العراقية قال الصحافي العراقي حسنين الخزاعي إن قناتي “الفلوجة” و”الرافدين” افتُتحتا بعد اندلاع الحرب في سوريا، وقام ممولوها بالتحريض على “أن إيران الشيعية تدعم النظام السوري ضد السنّة ولا بد للنظام الديكتاتوري الذي يرتكب جرائم بحق شعبه من السقوط، مع العلم أن مموّل قناة الفلوجة هو “خميس الخنجر” متهم بالإرهاب ولكن شُمل بالعفو العراقي مؤخراً”.
أما عن قنوات التحريض الطائفي والتي ساهمت في سفك الدماء السورية والمصرية وغيرها، وأبرزهما قناتا “صفا و”وصال”، فكانت قناة “صفا” تبث من القاهرة في مصر لمالكها السلفي السوري “عدنان العرعور” والذي يملك ملفاً أسود من التحريض على الفتنة في سوريا، قبل أن يشتريها أمير سعودي يدعى خالد بن طلال بن عبدالعزيز. ولكن وبسبب فتنتها بين المذاهب وتحليل القتل والذبح والتكفير للغير، توقف قمر النايلسات عن بثها لمدة 3 أشهر بعد أمر من وزير الإعلام المصري، إلّا أنها عادت للبث بعد قيام ثورة 25 كانون الثاني والتي أطاحت بحكم حسني مبارك، وتم نقل مقرها لتبث الفتنة بأوسع نطاق من العاصمة السعودية جدة.
بالنسبة لقناة “وصال” الكويتية، فكان هدفها تكفير الشيعة كنظيرتها “صفا”، ولكنها اتبعت أسلوباً أخطر في الإدارة، حيث نشرت مكاتبها في ثلاث دول، فكان مالكها في دولة، وإعداد البرامج في دولة والبث في الدولة الثالثة، حتى لا يتم تضييق الخناق عليها من قبل الحكومات، ففي حال تم إغلاق بثها في دولة ما، فإنها تستطيع البث بشكل سريع من دولة ثانية. ونظراً لسرية القناة لم يُعرف مالكها إلّا أن المعروف للعامة أن لديها مالكين كويتي الجنسية، ولكن قاما ببيعها الى أمير سعودي بثمن بخس، يقال أيضاً إنه ذاته مالك قناة صفا خالد بن طلال، ولم يعرف أيضاً العاملون فيها ولكنهم قدروا بـ30 شخصاً فقط يديرهم “بندر النصار” المعروف بانتمائه لفكر القاعدة. ويظهر منهم على الشاشة الداعية محمد العريفي الذي كان يفتي يميناً ويساراً، والغالبية ترجح أنه المالك وقد ذُكر اسم النائب الكويتي السابق “وليد الطبطباني” و”شافي الهجمي” و”عثمان الخميس” كأكبر الداعمين لها أيضاً.
ويعتبر مشروعها الذي تحدثت عنه القناة هو الأخطر من بين جميع القنوات الدينية الأخرى، فهي تسعى إلى بث برامج الفتنة والطائفية باللغة الفارسية موجهة الى الشعب الإيراني قاصدة بذلك توجيهه ضد دولته وانهيارها.
ولا يفوتنا ذكر القنوات الرمادية والتي كانت تتقلقل في توجهاتها وسياستها التحريرية كقناة “الجديد” اللبنانية لصاحبها “تحسين خياط” وبإدارة إبنته “كرمى خياط” والتي عُرفت بتشددها بالتوجه ضد سوريا بسياسة القناة. فالمحطة كانت تتبع أسلوب دس السم في العسل من دون الثبات في موقف تجاه سوريا بعد أزمتها في عام 2011، فكأنما قصدت إدارة القناة الانتظار حتى رجوح الكفة لصالح أحد طرفي النزاع، لتخرج معلنةً عن رأيها مع الطرف الرابح.
مهما حاولنا أن نقرأ ما بين السطور ومعرفة أسباب الخلافات الدولية ومصالح الدول في الحرب السورية لن نصل الى السبب الحقيقي، برغم أن الكثير من الإعلاميين والسياسيين الغربيين العاملين في المؤسسات التابعة لأنظمتهم حللوا بعض النقاط ووصلوا الى استنتاجات كثيرة حول العوامل التي جعلت الغرب ينقلب على سوريا وكان من أبرزها إسقاط النظام والسيطرة على سوريا لضرب إحدى حلقات محور المقاومة التي تصل بين إيران ولبنان وتعدم المقاومة في لبنان وفلسطين، وكذلك مشروع خطوط الغاز القطرية إلى أوروبا عبر سوريا، وإدخال عدد من الأحزاب الإسلامية إلى السلطة.

انقلاب الإعلام العالمي على حاله
-عمل السياسيون الغربيون والحكومات العربية على تهويل الوضع السوري بعد تظاهرة بعدد قليل من بعض المدنيين تنادي بالإصلاح، ما حرّض القنوات الغربية والعربية على سحب تراخيصها من البلاد بشكل مدروس، وبالتالي فقدان عناصر النقل الحقيقية للأحداث والاعتماد على فيديوهات مصورة بأساليب رديئة قام بها شبان معارضون، وأخذ تلك المواد كدليل على ديكتاتورية النظام وقيام حرب أهلية وتسييسها.
-عمل الإعلام الغربي والعربي المعارض للدولة السورية على الوتر الطائفي المحرك الأكبر للصراع في البلاد، بسبب ضعف ثقافة سكان الأرياف في سوريا وانتشار الفكر السلفي المتشدد بينهم، وعدم وجود تكامل فكري وتماسك اجتماعي، فجميع المحافظات السورية تحتوي على نسبة كبيرة من ضعيفي الانتماء، والذين استخدمتهم تلك الوسائل كفتيل تم إشعاله وإحراق كل من حوله، في مقابل مبالغ مالية باهظة كانوا يتقاضونها خلال شهر واحد فيما كانوا يحلمون بتجميعها في سنين، وخاصة بعد جذب العاطلين عن العمل والمراهقين المضللين بأفكار دينية حول الشهادة والحور العين، وإظهار الرئيس السوري بالمجرم وقاتل الأبرياء من الطوائف الأخرى، لحثّهم على سفك دماء الأقليات وإنهاك الجيش السوري، وتخويفه بعمليات قتل قاهرة كالذبح والحرق والتقطيع وغيره. كما قام بعض الباحثين الغربيين والعرب بالاندماج في المجتمعات الإسلامية لمعرفة نقاط ضعفها وقوتها وكيفية توجيهها والضغط على هذه الدول من خلال استخدام شعوبها في الثورة والتمرد.
وبذلك يكون قد تم تنفيذ الجزء الأكبر من خطط الكارهين عن طريق الإعلام فقط، من دون خسائر مادية تذكر لتلك الدول في هذه العملية.
– تهويل الأوضاع في سوريا لتأليب الرأي العالمي عليها، وتدمير اقتصاد البلاد السياحي من خلال منع السياح الأجانب والعرب من المجيء الى سوريا بسبب الاوضاع فيها، إضافة الى قطع جميع العلاقات الدبلوماسية وسحب جميع السفراء وإغلاق السفارات، لمنع أي محاولة من الحوار مع البلاد بهدف تأطير نفوها وعلاقاتها وتضييق الخناق عليها لجعلها تستسلم أو تسقط. وقد ساعدهم في كل ذلك قدرة تلك الوسائل على احتكار المعلومات وصناعة الخبر كما يرغبون وضخه في السوق الإعلامي. كما عملت تلك القنوات على الإضاءة على اعلاميين معينين على حساب اّخرين ليصبحوا مصدر رأي وثقة عند المتابعين وبالتالي عن طريقهم يتم تلقين المشاهد المعلومة التي يرغبون بدسها في المجتمعات.

التأثير السلبي للفبركة والتضليل
في الحقيقة الذي أضرّ بسوريا من تلك المواقف المسيئة هو تخويف الشعب من خلال رسائل إعلامية لم يكن لها وجود أصلاً على الأرض، فكانت قناة الجزيرة مثلاً من السباقين الى بث الأكاذيب بطرق مذهلة ويمكن تصديقها لوهلة، فهناك بعض الاتهامات للقناة من قبل الحكومة السورية بأنها قد بنّت مجسمات عمرانية مزيفة في قطر تشبه مباني معينة في سوريا لتمثيل أحداث تعطي الانطباع بأن ما يجري مشاهدته، يحدث في سوريا، بهدف إثارة الرأي العام السوري وتأجيج الصراعات الداخلية.
وكان هناك اللعب على الوتر الإنساني من خلال استخدام معاناة الأطفال في الحرب لإثارة الرأي العام العالمي، وإعطاء ذريعة للولايات المتحدة للبدء بالعدوان على سوريا.
وقد تفاجأ من عمل في تلك القناة بسياستها التحريضية ما أدى الى جملة من الاستقالات أبرزها استقالة الإعلامي التونسي غسان بن جدو، والإعلامي المصري وسام فاضل والذي اتهم القناة بالتدليس والكذب العلني والتضليل الإعلامي، موضحًا أنها تذيع مشاهد قديمة من ميدان التحرير في مصر وهو خالٍ من الناس وتدعي أنها منذ قليل.
ثم هناك دور الإعلام الغربي المعادي لسوريا والذي كان قد نشر مراسليه في مناطق تواجد المسلحين المعارضين وعمل على أخطر أنواع التحريض والفبركة كما جرى في خان العسل أو الغوطة الشرقية من اتهام الحكومة السورية بضرب المدنيين بالسلاح الكيمائي كان خير دليل.
ناهيك عن قناة “البي بي سي” الإنكليزية والتي استغلت تاريخها في بث الأخبار عن المنطقة العربية والشرق الأوسط، إضافة الى فرانس 24 أو “سكاي نيوز عربية” الإماراتية والتي لعبت على حرب المصطلحات وتطبيق الصور بحرفية.
بعد مرحلة التصعيد والفبركات الإعلامية، بدأت الحرب الحقيقية مع المسلحين والجماعات الإرهابية وهنا زادت القنوات والصحف المعارضة للدولة السورية من حدتها بحجة قتل الأبرياء باسلاح الكيمائي وغيره. ومع دخول الجيش السوري الى كل منطقة لتحريرها من رجسهم، لإحباط عزيمته وبث الرعب في قلوب المواطنين المدنيين بتخويفهم من أن الجيش دخل الى مناطقهم ليقوم بذبح من فيها على حسب الطائفة وآخرها ما حدث في دوما، فبعد تحريرها وإجراء مصالحات مع حملة السلاح، قال الأهالي إنه تم تخويفهم من نظام الأسد وجيشه وفي حال لم يقفوا مع المسلحين في معاركهم، فإن الجيش يستطيع دخول المدينة وذبح كل من فيها. وكانت كل المعونات والأغذية التي كانت تصل للمدنيين يستولي المسلحون عليها ويبيعونها بمبالغ خيالية للمدنيين بحجة أن النظام هو من يقوم بعمليات الحصار الغذائي عن المنطقة ولكن الواقع كان عكس ذلك.
في أوقات أخرى تحدثت وسائل الإعلام هذه عن ضعف الجيش السوري وانهياره أمام قوة المسلحين وتخويف المواطنين من ذلك مما جعلهم في حالة عدم ثقة بالدولة، والتأثير الأكبر كان يستهدف الحالة النفسية للجيش. فمن كان في درعا تصله أخبار عن انهيار أصدقائه في دير الزور، وبالتالي حدوث خلل في المنظومة العسكرية وتهاوي قوى العسكريين ودفع البعض إلى الهروب أو الانشقاق أو الاستسلام، وزعزعة إيمان المواطنين من حولهم.

حقيقة الميدان: تغيّر أسلوب الخطاب
بدعم من روسيا وإيران وحزب الله والفصائل العراقية، تمكن الجيش السوري من بسط سيطرته على الجزء الأكبر من الأراضي السورية التي عاث فيها الإرهاب فساداً، وانقلبت الموازين على الأرض لصالح الحكومة السورية وحلفائها، وظهر كذب هذه “الثورة المزعومة” وانخداع بعض المضللين بها وانخراط البعض الآخر في التمرد المسلح لخدمة أجندات دولية وإقليمية و”جهادية” إسلامية، وبرز أن الشعب السوري في غالبيته يؤيد الرئيس بشار الأسد، بحسب بعض الاستطلاعات وأن ما أشيع عن ممارسات النظام عارٍ عن الصحة، ويدخل في بوتقة الفبركة الإعلامية السياسية.
هنا بدأت بعض وسائل الإعلام بالتحول في اّرائها فمرة نرى الجزيرة القطرية تبث خطاب الرئيس السوري كاملاً بعد انقطاع عن بث أي كلمة له لمدة 7 سنوات ووصفه بالرئيس السوري بعد أن كانت تصفه برئيس النظام السوري. أيضاً بدأنا نرى التقلب في قناة الجديد اللبنانية وكأن القناتين تمهدان لعودة البث الطبيعي للأخبار السورية وإعادة العلاقات مع دمشق شيئاً فشيئاً.
وقد رفض عدد من السياسيين والإعلاميين الغربيين والعرب الدعاية الغربية والعربية المعادية لسوريا، وكل من زار البلاد بعد سيطرة الجيش السوري على غالبية المناطق أكد أن هناك حالة خداع حقيقية كانت تجري للرأي العام الاقليمي والدولي بينما الواقع في سوريا يختلف بشكل هائل عما يقدم في بعض وسائل الإعلام.
فقناة الجزيرة فقدت مصداقيتها تجاه جمهورها. ففي دراسة أميركية مختصة بقياس اّراء الجمهور أكدت تراجع عدد مشاهدي الجزيرة في اليوم الواحد من 46 مليون مشاهد الى 6 مليون مشاهد فقط، وهو رقم مدمر لها ولا يمكن الاستهانة به أبداً.

توصيات
1- علينا الإستفادة من كل ما سبق من هذا التجارب و توجيهها بما يخدم مصالحنا بالتصدي للإعلام الفاسد المضلل.
2- يجب الاهتمام بالتوعية الإعلامية والتثقيف المجتمعي، وإقامة المؤتمرات العلمية ونشر الدراسات والكتب التي تقدم الثقافة البديلة. والأهم من ذلك كله أن تكون كل تلك المواد التي تطرح جميعها سلسة وغير مملة لأن ما نعانيه اليوم هو الاعتماد دائماً في المؤتمرات على أسلوب المحاضرة الجامعية المملة والتي لا تبعث على الفائدة مطلقاً.
3- على الدولة بمؤسساتها المختصة نشر ثقافة التنوير والانفتاح على الاّخر وتقبل اّراء وأديان ومذاهب الاّخرين، وأن كل طرف لا يكتمل إلا بارتباطه بالطرف الثاني.
4- ضرورة تدريس مادة التربية الإعلامية التي أقرتها منظمة اليونيسكو عام 1999، فالمراهق يتغذى من مئات القنوات الفضائية يومياً فيما تقف المدارس عاجزة عن مجاراة أو رفد الطالب بالحصانة الذهنية لانتقاء الأفضل من هذه الفضائيات.
5- على إعلامنا السوري تخصيص جزء كبير من برامجه للحديث عن تجربته مع الإرهاب ونقلها إلى جميع الشعوب، وعن قوة وحنكة الحكومة السورية في التصدي لها، ويفضل أن تكون من خلال أفلام وثائقية.
6- إعادة دمج الشعب السوري مع بقية الشعوب بالتأكيد على أنه شعب مسالم وبعيد عن الإرهاب كل البعد، وكل ما ظهر في السنوات الأخيرة هو إشاعات ومحاولات وضيعة لجعل العالم يرفض السوريين دائماً.
7- الاستعانة بالكفاءات الإعلامية الحقيقية، لتطوير المنظومة الإعلامية في سوريا، وتدريب وتأهيل جميع العاملين في الإعلام ليكونوا أسوة بغيرهم من السوريين المبدعين في الخارج، والتمسك بالخبرات وثنيها عن عزمها الهجرة خارجاً بتوفير الموارد والمغريات. ىكنا في الحقيقة نفتقر في السنوات الماضية الى عقليات وأدوات تستطيع إدارة ما يروّج من حملات ضدنا، فكان إعلامنا الرسمي يقف عاجزاً عن الرد حتى الاّونة الأخيرة، فكان يتبع أساليب توعوية تقليدية جداً وغير مقنعة. لذلك كان التوجه الأكبر نحو إعلام الخارج المتكامل في صياغة قصته وإن كانت كاذبة. ونحن اليوم وبعد كل ما مررنا به مع بعض الأشقاء العرب بحاجة الى قوة وقدرة كبيرة على المواجهة والتصدي لأي حملة افتراء، وردها من حيث جاءت، من خلال إنشاء مركز خاص للأبحاث والدراسات بخبرات متكاملة تُقدم خططاً واستراتيجيات لمواجهة أخطار تدمير الدول وتماسك المجتمعات نفسياً قبل تدميرها مادياً.
8- عند عودة الإعلام العالمي عن قراره بمحاربة الدولة السورية وعدوله عن حديته بالتعاطي مع الأحداث هنا، على الدولة الاستفادة من تلك القنوات بكسبها لخدمة قضايانا. فعند رجوعها عن قرارها ستعود لمحاولة لاسترضاء سوريا وكسب ودها، فالإعلام حقيقة مرتبط بالسياسة ويتأثر بها بشكل عميق وكأنهما توأمان لا يفترقان. وهنا يقع على عاتق الحكومة السورية جذب نظر تلك الوسائل لإقامة حملات دعائية وإعلانية عن إعادة الإعمار والاستثمار في البلاد، لاستقطاب العدد الأكبر من الممولين حول العالم.
9- التأكيد على أهمية السياحة في سوريا وجذب السياح من كل حدب وصوب، كما تفعل تلك القنوات من ترويج لمناطق عديدة في العالم والذي زاد رفع اقتصاد تلك الدول الى أرقام هائلة.
10- إقامة ندوات مشتركة لتبادل وجهات النظر وتجارب الحرب والنهوض منها، بين سوريين ومواطنين من دول أخرى، ونقل الوقائع من خلال تواصل شخصي مباشر.
11- تخصيص برامج بشكل أعمق وأدق لنشر الثقافة الدينية وبث روح التاّخي بين الطوائف من جديد، وترسيخ مبدأ أن الوطن هو القاسم المشترك لكل شيء.

*فاطمة فاضل صحافية وإعلامية سورية.

Optimized by Optimole