قصتي مع الحاخام

قصتي مع الحاخام
Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم* – خلال إحدى زياراتي للعاصمة الأميركية واشنطن في نيسان أبريل 2004، إقترح صديق عربي كان يقيم هناك ويدير مركزاً للدراسات، أن أجري مقابلة صحافية مع الحاخام اليهودي، إسرائيل فايس، وهو أحد قياديي حركة “ناطوري كارتا” المعارضة للصهيونية.

أجريت اتصالاً هاتفياً بالحاخام فايس، الناطق الرسمي باسم “ناطوري كارتا”، فأعطاني موعداً بعد ثلاثة أيام، وأوضح لي أنه لن يرد على الهاتف بدءاً من مساء الجمعة وحتى صباح الأحد، وذلك التزاماً بحرمة يوم السبت(Sabbat) لدى اليهود، حيث هو يوم عبادة يمتنعون فيه عن استعمال الأجهزة الالكترونية بما فيها الهاتف والتلفزيون وحتى السيارة ومصباح الكهرباء.الحاخام فايس يقيم في بلدة تدعى “مونسيه”(Monsey)، التي تبعد نحو 55 كيلومتراً عن مدينة نيويورك، أي مسافة ساعة بالسيارة. لكنني استقليت الباص بعد منتصف الليل من “واشنطن دي سي” إلى نيويورك، وهي رحلة خمس ساعات تقريباً، وصلت نيويورك في السادسة تقريباً. ومن هناك إنتظرت الباص المتجّه إلى بلدة مونسيه، وهي بلدة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها العشرين الفاً، وفيها جالية مهمة من اليهود الأرثوذكس، الحريديم، أي المتشددين دينياً.

عندما وصلت قرابة الساعة الثامنة صباحاً إلى محطة الباصات في مونسيه، إتصلت هاتفياً بالحاخام فايس، فردت عليّ آلة البريد الصوتي(Answer machine)، فتركت له رسالة بأنني وصلت المحطة وأنا في انتظاره.

كان الجو ماطراً وكنت قد اصطحبت حقائبي معي، لأن عودتي إلى بيروت ستكون من نيويورك، ولم يكن لدي وقت كي أذهب إلى الفندق لترك حقائبي. بعد انتظار نحو نصف ساعة وبعدما يئست من قدوم الحاخام، قرّرت التوجّه إلى منزل الحاخام، فطلبت من سائق التاكسي إيصالي إلى العنوان الموجود على بطاقة الحاخام التي أعطاني إياها صديقي في واشنطن.

وصلت إلى المنزل بعد ربع ساعة أو أقل، وأخرجت محفظتي كي أدفع للتاكسي، وأريه العنوان مجدداً كي يتأكد من أنه المنزل المقصود. أخرجت حقائبي وطرقت باب المنزل. فتحت لي سيدة تضع حجاباً، فسألتها إن كان الحاخام فايس موجوداً، فأجابت أنه ذهب إلى محطة الباصات لجلبي بعد سماعه لرسالتي الصوتية على هاتفه. دخلت المنزل وكان أصحابه مهموكين في ورشة تنظيف، أخبرتني السيدة أنهم يحضرون لعيد الفصح(Passover)، ويجب عليهم أن ينظفوا المنزل وألا يتركوا أي آثار للخميرة والخبز فيه.

لفت انتباهي أن إبنة الحاخام، وهي فتاة في عمر السادسة عشرة، لا تضع حجاباً، فسألت الأم عن ذلك، فقالت إن الفتاة يسمح لها بعدم ارتداء الحجاب حتى تتزوج، وبعد زواجها تلبس الحجاب.
إن هي إلا دقائق، وصل الحاخام فايس، وما أن رآني حتى بادرني بالتحية باللغة العربية قائلاً: “السلام عليكم”.. رددت السلام، فأقبل وضمني إلى صدره وقبّلني وكأنه صديق قديم، برغم أنني ألتقيه للمرة الأولى.
أدخلني غرفة مكتبته، حيث كان جهّز لي طعام الإفطار، وقال لي تفضل: إنه طعام شرعي، وهو فعلاً كان طعاماً شرق أوسطياً، أذكر منه الفلافل والحمص، وليس فيه لحوم.

بدأت بتناول القليل من الطعام، وكنت أود إعطاءه بطاقتي التعريفية، فمددت يدي إلى جيبي، فلم أجد محفظتي. عندها توقعت أن تكون وقعت في الخارج عندما كنت أخرج الحقائب من سيارة التاكسي، ولكن لا شيء في الطريق. أبلغت الحاخام بأن المحفظة ربما وقعت داخل سيارة الأجرة عندما كنت أدفع للسائق أجرته، وعلينا الذهاب إلى محطة التاكسي، عسى أن نرى السائق ونستعيد المحفظة.
في المحطة، جلسنا في سيارة الحاخام فايس ننتظر، على أمل أن نعثر على سيارة التاكسي، والسيارات كلها متشابهة والسائق كان كمعظم السائقين في تلك البلدة من الأميركيين الأفارقة، وبالتالي السائقون كانوا متشابهين بالنسبة لي.

المحفظة فيها نقودي وبطاقاتي المصرفية، وعليّ أن أعود إلى نيويورك وأن أنزل في فندق ليلة وأتوجه منه إلى المطار للعودة إلى بيروت، أي عليّ دفع بعض النفقات. نتيجة هذا الجوّ النفسي، لم يعد الحوار مع الحاخام أولوية بالنسبة لي! ولكن، قلت له بينما ننتظر في السيارة، فلنبدأ بحوارنا، وأدرت المسجّل وبدأنا. لم أعد أذكر كم دام الحوار نصف ساعة أو أكثر. ولكن ما أذكره أنه بعدما إنتهى الحوار، وأوقفت المسجل، تذكر الحاخام شيئاً أراد أن يضيفه، فبادر إلى تشغيل المسجّل وأضاف..

ضحكت في سرّي من هذا الموقف، برغم وضعي النفسي القلق والمنزعج بعد اليأس من العثور على سعادة السائق. سألني الحاخام عن ما تحتويه المحفظة، فأبلغته بأني أحتفظ بجواز سفري وتذكرة سفري في الجاكيت، ولكن نقودي وبطاقاتي في المحفظة، فقال كم تحتاج إلى نقود لتيسير أمورك. لم أرغب في طلب مبلغ كبير، كل ما طلبته هو ما يوصلني إلى نيويورك وهناك أتصل ببعض الأصدقاء حتى أدبّر أموري، وهي ليلة واحدة وأعود إلى بيروت. وهكذا كان..

بعدما حلّت هذه المشكلة، إصطحبني الحاخام إلى منزل أستاذه الحاخام الأكبر، ليعرّفني عليه، ومن ثم توجهنا إلى كنيس، أي معبد الصلاة. ورأيت أنهم مشغولون بورشة التنظيف إياها، تحضيراً لعيد الفصح.
كما تجوّلنا في البلدة، وشاهدت مدرسة اليهود الأرثوذكس، والتلاميذ، وهم يلبسون اللباس الديني التقليدي ويطيلون شعرهم، مع القلنسوة.
ما لفتني في تعاليمهم هو تشددهم الديني، فهم لا يأكلون لحم الخنزير ولا اللحم غير المذبوح على الطريقة اليهودية المسمى “كوشير”، ولا يشربون الخمر. وهم يتجنبون مشاهدة التلفاز وتصفح الانترنت، لما فيهما من مواد خلاعية وإباحية قد تفسد الشباب.

الدكتور هيثم مزاحم متوسطاً الحاخام يسرائيل فايس من اليمين والحاخام موشي بك من اليسار في مونسية، نيويورك

أما حركة “ناطوري كارتا” فهي جماعة دينية يهودية معادية للصهيونية ترفض الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل لأنها “دولة مخالفة لتعاليم التوراة والدين اليهودي”، بحسب الحاخام فايس. وأوضح لي أن اليهود المتديّنين (الأرثوذكس) يعتقدون “أن فلسطين الأرض المقدسة “قد أعطاها الله للشعب الإسرائيلي بشرط تطبيق الشعائر التوراتية وعندما أخلّوا بذلك سحبت منهم هذه الأحقية وخرجوا للشتات، ومنذ ذلك الوقت منع عليهم بمنع توراتي إقامة مملكة لهم في الأرض المقدسة أو أي مكان آخر”، وأن على اليهود أن يكونوا موالين للممالك التي يعيشون تحت سلطتها، وهو الوضع الذي كان قائماً منذ ألفي سنة إلى أن قامت الحركة الصهيونية بانتهاكه من خلال إقامة دولة يهودية في فلسطين المحتلة”.ويعتبر الحاخام فايس أن “اتباع تعاليم التوراة يعني أنه يجب عليك ألا تكون صهيونياً، فالصهيونية عمرها فقط نحو مئة عام، أما التوراة فعمرها آلاف السنين. فمبدأ الصهيونية مخالف لتعاليم التوراة وكذلك للتلمود الذي عمره أربعة آلاف سنة اللذين يحرّما إقامة دولة يهودية مزيفة وجعل اليهود في هذه الدولة عبر اضطهاد وظلم شعوب أخرى”.وتعتبر جماعة “ناطوري كارتا” أن الذين أنشأوا الصهيونية لم يكونوا يهوداً متدينين بل كان معظهم علمانيين يكرهون التوراة والدين وكانوا يريدون تحويل الدين اليهودي واليهود في أنحاء العالم الى قومية وأمة وكيان سياسي. لقد أرادوا تحويل اليهودية من دين يقوم على عبادة الله الى مفهوم قومي مرتبط بالأرض. لكن ذلك أمر جنوني لأن اليهودية لا تقوم على أساس الأرض”.ويوضح الحاخام أن “الله قد وعد ابراهيم بأن يعطيه أرض فلسطين لأبنائه اليهود لأن الشعوب الأخرى فيها لم يكونوا مؤمنين بالله ولم يكونوا مقدسين وطاهرين كفاية ليعيشوا فيها.. لكن تم إخراج اليهود من فلسطين الى النفي والشتات مرات عدة من خلال اليونانيين والرومان لأنهم خالفوا تعاليم الأنبياء ولم يكونوا مؤمنين كفاية. وقد حرم الله على اليهود ثلاثة أمور هي: 1 ـ عدم العودة الى الأرض المقدسة بشكل جماعي. 2 ـ عدم انشاء دولة لليهود في أي مكان في العالم. 3 ـ عدم محاولة إنهاء الشتات”.ويضيف الحاخام فايس: “نحن نؤمن بأنه سيأتي يوم يرى فيه الله الوقت مناسباً لإنهاء الشتات وهذا سيكون يوم الخلاص أو الافتداء، وهو مفهوم نؤمن بأنه سيكون هناك تغيير مادي في العالم بحيث يعترف فيه كل الناس بمملكة الخالق بإله واحد ويعم السلام البشرية”.

سألت الحاخام عن عقيدتهم تجاه المسجد الأقصى وهل يعتبرونه مكاناً مقدساً يوجد فيه هيكل سليمان، فأجابني قائلاً: “نحن نعتبر أرض المسجد الأقصى أرضاً مقدسة وهي نفس مكان الهيكل الذي دمر لكننا نؤمن أنه لا يجوز لأي إنسان بناء الهيكل الثالث بل سيتم بناؤه من قبل الله. وحسب التوراة يمنع علينا منعاً مطلقاً دخول أرض المسجد الأقصى ولا يوجد لليهود أي حق أو ملكية لهذا المكان المقدس، الذي هو ملك الشعب المسلم. وهناك حاخام من حركتنا يحرّم على أتباعه الصلاة في حائط البراق أو “حائط المبكى” (بحسب تسمية اليهود) حتى لا تكون الصلاة هناك نوعاً من إعطاء الشرعية للصهاينة في مزاعمهم بشأن المسجد الأقصى. ومع ذلك هناك يهود متدينون يصلون هناك ولكن لا مطالب سياسية من وراء ذلك.
weis2

 الحاخام فايس وزملاؤه مع الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في طهران خلال مؤتمر معادٍ للصهيونية

وعن رأيهم للحل الأمثل للقضية الفلسطينية، قال فايس: “نحن ندعو الى التفكيك السلمي لدولة إسرائيل. أما بشأن بقاء اليهود وعدد اليهود الذين يجب أن يبقوا في فلسطين، فذلك الأمر بكامله عائد للقيادة والشعب الفلسطينيين. فالفلسطينيون الذين كانوا ولا يزالون ضحايا إجرام الحركة الصهيونية لهم الحق في أرضهم في فلسطين وفي تعويضات مالية عن خسائرهم المادية التي خسروها خلال العقود الماضية. ونأمل أن يتم حل هذه المشكلة بشكل سلمي وعادل كي يتوقف نزيف الدم بين العرب واليهود”.أما عن سؤالي عن عقيدة اليهود الأرثذكس تجاه المسلمين والمسيحيين خاصة أن اليهودية لا تعترف بالمسيحية والإسلام، فأجاب: “نحن أصحاب كتاب والتوراة تأمرنا بأن نكون على مثال الله فالله غفور رحيم ويجب أن نكون رؤوفين رحيمين، ويجب أن نقلّد الله ونكون أمة مقدسة تكون مثالاً للآخرين يتعلّمون منها الأخلاق الحسنة. ونحن نؤمن بأن كل إنسان لا يرتكب المحرمات الكبرى كالقتل والزنى والسرقة الخ.. ويعبد الله يمكنه الخلاص ولا يجب أن يكون يهودياً من أجل الخلاص. وكل إنسان يمكنه أن يصبح يهودياً ولكننا لا نشجع الناس على التهود لأن الالتزام بالشريعة اليهودية شاق جداً وفيه معاناة كبيرة، كاحترام يوم السبت وأكل الكوشير والاحتفال بالمناسبات الدينية وهي معقدة جداً الى الامتناع عن جميع المحرمات”.

*د. هيثم مزاحم رئيس مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط.

Optimized by Optimole