عبد الرحمن بدوي ونقد القراءات الاستشراقية للقرآن الكريم

عبد الرحمن بدوي ونقد القراءات الاستشراقية للقرآن الكريم
Spread the love

صلاح حسن رشيد — لم يحظَ كتاب بالنقد، والمقارنة، والمتابعة، والتحليل، والترجمة، والتفنيد مثل القرآن الكريم. فقد صار حديث القاصي والداني، الموضوعي والمتعصب، المتبحر والجاهل، المنصف والمغرض. ولا ريب في أنه دارت حول القرآن حلقات الدرس والنقاش حتى في دوائر اللاهوت الكنسي، بصورة فاقت دراسات العهدين القديم والجديد. فمع بداية القرن التاسع عشر، ساد الاتجاه العلمي في الغرب، في إطار الدراسات المنشورة حول القرآن الكريم، من خلال البحوث ذات الاتجاه اليهودي، أو المتعلقة باليهودية، والبحوث ذات الاتجاه المسيحي، أو المتعلقة بالمسيحية.
يقدم الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917-2002م) في كتابه «دفاعاً عن القرآن ضد منتقديه»، قائمة بأسماء هؤلاء المؤلفين، فيقول: «هي كتب ذات نزعة يهودية، ونذكر منها: 1- أبراهام جيجر: (ماذا أخذ محمد من النصوص اليهودية؟) بون سنة 1833م. 2- هير شفيلد: (العناصر اليهودية في القرآن) برلين 1878م، و(مقالة في شرح القرآن) لايبزغ سنة 1886م، و(أبحاث جديدة في فهم وتفسير القرآن) لندن سنة 1902م. 3- سيدرسكي: (أصل الأساطير الإسلامية في القرآن)، باريس سنة 1923م. 4- هاينريش سبرنغر: (قصص الإنجيل في القرآن) باريس ط5، وبرلين ولايبزغ سنة 1929م. 5- هورفيتز: (بحوث قرآنية) برلين ولايبزغ سنة 1926م، و(الأسماء اليهودية ومشتقاتها في القرآن) حوليات الكلية العبرية سنة 1925م. 6- إسرائيل شابيرو: (الحكايات التوراتية في أجزاء القرآن)، برلين 1907م. أما الكتب ذات التوجه المسيحي، فيمكن أن نذكر منها: 1- ريتشارد بيل: (أصل الإسلام في بيئته المسيحية) لندن سنة 1926م، و(مقدمة في القرآن) أندنبرغ سنة 1953م. 2- تور أندريا: (أصل الإسلام والمسيحية)، أوسلو سنة 1926م».
ويقوم عبد الرحمن بدوي بتحليل مناهج هذه الكتب وتعريتها، من خلال معرفته التامة باللغات العربية واليونانية واللاتينية والألمانية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية، فيؤكد بداية أن «هؤلاء الكتّاب عدوا محمداً مؤلفاً للقرآن، اقتبس أغلب القصص وعدداً كبيراً من الصور البيانية، وكذلك الحِكَم والأمثال من الكتب المقدسة، أو شبه المقدسة لدى اليهود والنصارى». ويرد بدوي عليهم قائلاً: «ولكي نفترض صحة هذا الزعم، فلا بد من أن محمداً كان يعرف العبرية، والسريانية، واليونانية، ولا بد من أنه كانت لديه مكتبة عظيمة، اشتملت على كل نصوص التلمود، والأناجيل المسيحية، ومختلف كتب الصلوات، وقرارات المجامع الكنسية، وكذلك بعض أعمال الأدباء اليونانيين، وكتب مختلف الكنائس، والمذاهب المسيحية، فهل يمكن أن يعقل هذا الكلام الشاذ، لهؤلاء الكتّاب؟! وهو كلام لا برهان عليه! إن حياة محمد، قبل ظهور رسالته وبعدها، معروفة للجميع، على الأقل في مظاهرها الخارجية، ولا أحد، قديماً أو حديثاً، يمكن أن يؤكد أن النبي محمداً كان يعرف غير العربية! إذن، كيف يمكن أن يستفيد من هذه المصادر كما يزعمون؟!».
ويورد عبد الرحمن بدوي اعتراضاً آخر للمستشرقين، «وهو يعتمد على الصياح بالقول إن في القرآن انتحالاً، ويحدث ذلك منهم عندما يذكر القرآن حقيقة عامة ذُكرت في الكتب المقدسة: اليهودية والنصرانية، وكأنه يجب على القرآن الكريم حتى يكون بريئاً من أي انتحال، أن يقول أشياء مخالفة للعلم العام، أو الرشاد، ففي كل مرة يجد هؤلاء الكتّاب كلمة أو كلمتين متشابهتين بين القرآن وأيِّ جزء من التوراة، فإنهم ينتهون إلى المطابقة بين القطعتين، ويمكن أن يذهب بهم السخف إلى أبعد من ذلك. ويعد هير شيفلد أستاذَ هذا الاتجاه العقيم العبثي».
ويأتي بدوي بنماذج من نقد هير شفيلد، وحديثه عن وجود بعض المتشابهات بين القرآن والتوراة، ومن ذلك عقده للمقارنة بين الآيات (5، 6، 7، 9) من (سورة الرحمن) وبين (سفر المزمور) في العهد القديم. فالآيات القرآنية تقول: (الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، والأرض وضعها للأنام). أما آيات المزامير، فتقول: (الشمس لحكم النهار، والكواكب لحكم الليل، الصانع السماوات بفهم، الباسط الأرض على المياه)، (الآيات من المزامير: 5، 6، 8، 9).
ويفند عبد الرحمن بدوي كلام هير شفيلد، ويفككه، فيكشف هراءه، فيقول: «إنني أدعو القارئ الى أن يتمعن في النصين، ويوضح لي وجه الشبه بينهما. في الواقع، لا يوجد أي شبه بينهما، فالقرآن يتحدث هنا عن السمة الدائرية لحركة الشمس والقمر، بينما لا يذكر المزمور عن ذلك أي كلمة. وكذلك، فالقرآن يؤكد أن الأعشاب، والأشجار تسجد لله عز وجل، وهذه فكرة غائبة بالكلية في المزمور أيضاً، فإن المزمور يتحدث عن الحكمة التي خلق بها الله السماوات، ولكن القرآن لا يتحدث إلا عن فعل الله في رفع السماء، من خلال الآية رقم (9)، فأكد القرآن أن الله وضع الأرض لمصلحة الإنسانية جمعاء، بينما تتحدث الآية (6) في المزمور فقط عن ظاهرة جغرافية بسيطة، وهي أن الأرض تتمدد فوق المياه. إذن، أين وجه الشبه بين القرآن والمزامير في هذا النص؟ وأي تهيؤات جعلت هير شفيلد يؤمن بوجود شبه، أو ربما اقتباس هنا؟».
ويتعرض بدوي لحالة أخرى ظهر فيها تحامل هير شفيلد، وجهله، وهي التي عقد فيها مقارنة بين آيات من سورة النحل، والمزمور رقم (104)، فيقول بلسان التهكم والسخرية: «إن الآية رقم (2) من سورة النحل تقول: (ينزل الملائكة بالروح من أمره عــلى مــن يــشاء مــن عبــاده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون). والآية رقم (4) من المزمور (104) تقول: (الصانع ملائكته رياحاً، وخدامه ناراً ملتهبة). لقد تحدث القرآن الكريم في سورة النحل عن إرادة الله عز وجل المطلقة، في أن يختار من بين الناس من عباده شخصاً يؤدي المهمة النبوية الشريفة، وأن الله ينزل عليه ملكاً مثل جبريل عليه السلام، لينقل إليه أمر الله في هذا الموضوع. بينما على العكس من ذلك، فإن الآية (4) من المزمور (104) لا تتحدث إلا عن ظواهر جوية وطبيعية».
وبعد استعراض بدوي لنماذج من مقارنات هير شفيلد، ومشابهاته المزعومة بين القرآن والتوراة، يورد بدوي رأي بعض العلماء الغربيين في أعمال هير شفيلد، ليكشف عن فساد منهجه، وزيغه، ومن هؤلاء: سيدرسكي في كتابه «أصول الأساطير الإسلامية»، الذي قال فيه بعد أن عرض عناوين مؤلفات هير شفيلد: «للأسف، فإن هذا العالم لم يضف أي شيء يذكر في ما يتعلق بأصل الأساطير القرآنية».
ويتناول رودي باريت في الجزء الثاني من كتابه «القرآن تعليق وتحليل» كتاب هير شفيلد «بحوث حديثة» في ما يتعلق بمسألة الحروف الموجودة في أوائل بعض السور القرآنية، فيقول: «لكن مرجعه ليس دقيقاً، لأنه في صفحتي (141، 142) وليس في صفحتي (101، 103) حيث تناول هير شفيلد قضايا الجذور».
ويذكر باريت رأياً آخر لهير شفيلد في ما يتعلق بكلمة (حطة) في سورة البقرة، الآية (58) التي تقول: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين). يقول هير شفيلد: ربما تكون كلمة حطة مأخوذة من صيغة الاعتراف بالذنب، التي تعود إلى المشناة (يوماً). يقول بدوي: لكن باريت لا يعلق على رأي هير شفيلد، ذلك الرأي الخاطئ، لأن المشناة في الموضوع الذي استشهد به، لا توجد بها كلمة حطة، أو كلمة لها المعنى ذاته، أو النطق ذاته، أو قريب منه، ما يؤكد مرة أخرى، أن هير شفيلد يقول أي شيء من دون أدلة، أو وثائق يستند إليها.
ويطعم باريت كتابه بآراء سبيير، وهي المتعلقة بتفسير كلمة حطة، والتي لا يزالون يتشبثون بأنها كلمة عبرية، أو محرفة عن كلمة عبرية! في حين أن في التفاسير الإسلامية – والكلام لبدوي – كلمة حطة معناها، باعتبارها عربية: «اغفر لنا ذنوبنا، أو حط عنا أوزارنا». إن سبيير يزعم أن كلمة حطة هي تحريف للكلمة العبرية (حطنو) (الآية 40 من الكتاب الرابع لموسى، سفر العدد) حيث يقول: (غداً في الصباح الباكر، ينطلقون نحو قمة الجبل قائلين: إننا مستعدون أن ننطلق نحو المكان الذي حدده الله، لأننا أذنبنا)!
ويرد بدوي على سبيير: ومع أن هذه الآية تطابق المعنى المقصود، فإن سبيير يقول: «إن محمداً ظن أن اليهود الذين رفضوا أن يدخلوا الأرض المقدسة قد قصدوا بهذه الكلمة معنى ثانوياً، بمقتضاه عضدوا رأيهم السابق (أرسي حطة): (الأرض الحنطة) إذن، كان يمكن أن يقول الإسرائيليون: حطانو، ولكن من دون أن يقصدوا المعنى الحقيقي، ولكنهم يقصدون (فاكهة تلك الأرض المقدسة) وليس أمر الله»!
ويرد بدوي قائلاً: ولكن تفسير سبيير هذا متعنت، ومعقد، ومن الصعب أن يكون حقيقياً، إنه يعتمد على القول، إن الإسرائيليين عندما كانوا في مواجهة الأرض المقدسة، كان موسى قد أرسل أناساً يستطلعون تلك البلاد، وعند رجوعهم من مهمتهم، وصفوا تلك البلاد، وأحسوا بالذنب لكذبهم! وفي الغد منذ الصباح الباكر سينطلقون نحو قمة الجبل قائلين: إننا مستعدون للمسير نحو المكان الذي أراده الرب، لأننا أخطأنا (حطانو) ولكن بدلاً من أن يقصدوا بتلك الكلمة معناها الحقيقي، فإنهم قرنوها بمعنى آخر، بحسب لوم محمد كما يقول سبيير، وفكروا في كلمة حطة بمعنى قمح»! ويتندر بدوي بتفسير سبيير، فيقول: «يا له من تفسير رائع، ذلك الذي يفترض أن محمداً كان عالماً ممتازاً بالعبرية، وإلا من أين له بلوم الإسرائيليين؟!». ويضيف بدوي تقريعاً لهم: «إن سبيير يختلق أكذوبة، ويصبح ضحية لتلك الأكذوبة، وهو مُجْبَرٌ أن يوضح بكل الوسائل حقيقة أكذوبته المزعومة»!

Optimized by Optimole