تحولات مفهوم الأمة في الاجتماع الإسلامي

تحولات مفهوم الأمة في الاجتماع الإسلامي
Spread the love

بقلم: إبراهيم البيومي غانم — لا مفهوم أكثر من مفهوم «الأمة الإسلامية» باتَ عرضةً للتفكيك المعنوي والتحريف، ولإعادة الترسيم السياسي العنيف؛ على امتداد جغرافيا العالم الإسلامي الحديث والمعاصر. ومن الموافقاتِ غير الحسنةِ، أن عمليات التفكيك وإعادة الترسيم جرت ولا تزال تجري منذ أكثر من مئة سنة في سياق الانتقاص الدائم من «سيادة الدولة القومية» التي كانت أداة سياسية فعالة في إزاحة مفهوم «الأمة» وتقويض سيادتها التشريعية والسياسية، ووراثتها بعد تقسيمها جغرافياً إلى أقطار متعددة؛ متساكنة في حالات، ومتناحرة في حالات أخرى.
أما «التفكيكُ» المعنوي فقد كان سبباً من أسباب زوال خيمة السلطنة العثمانية. ولا يزال المفككون ماضين في مسارهم من أجل اقتلاع مفهوم «الأمة» من ذاكرة الأجيال الجديدة؛ بحجج كثيرة منها: أن مفهوم الأمة «غامض» سوسيولوجياً، وأنه يضم تكوينات متنافرة وغير متجانسة، وأنه لا يساعد على الأمن والاستقرار. أو أنه مفهومٌ ديني إقصائي لا يتناسب مع الدولة المدنية الحديثة. ولتأكيد تلك الحجج يستخدم المفككون آليات كثيرة منها: إنكار جدوى مفهوم الأمة، ونفيه، والتشكيك فيه كمفهوم اجتماعي سياسي جامع؛ على رغم أن التاريخ يشهد أنه نجحت في ظله واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية.
جرت عمليات التفكيك ومحاولات إزاحة مفهوم «الأمة الإسلامية» من الخطاب المعاصر لمصلحة مفهوم «الشعب» أو «القوم». ولكن ما أن كشف التفكيك عملياً عن مجموعة من «الشعوب»، أو «الأقوام»، حتى ظهر للمفككين أنفسهم أنَّ كلّ «شعب» أو «قوم» يتكون من مجموعات متباينة أيضاً، بل ومنقسمة على أسس: لغوية، وجهوية، ودينية، ومذهبية، وطبقية، ومن ثم عادوا لشحذ سكين التفكيك كي يمزق نسيج الشعب، ويفرقوا جمع «القوم» الواحد ويقسموه رأسياً وأفقياً، إلى مذاهب، وأعراق، وغالبيات وأقليات متشاكسة ومتناحرة.
كانت متواليةُ التفكيك المعنوي لمفهوم الأمة على هذا النحو مقدمة، وأحياناً كانت متزامنة، مع إعادة ترسيم الحدود السياسية لشعوب الأمة ومجتمعاتها بقوةِ الحديد والنار. وجاءت الموجة الأولى للتقسيم وإعادة الترسيم العنيف غداةَ انفراط عقد الخلافة العثمانية بعد أن عانت من مشكلات كثيرة لا مجال لسردها هنا. وعلى رغم وهنها؛ كانت تلك الخلافة آخر رابطة سياسية تلم شمل شعوب الأمة ومجتمعاتها، فلما انفرطت ورثتها دول ودويلات كثيرة بأسماء «القومية»، أو «الوطنية»، أو «القطرية»؛ وتعلقت بها أمال عراضٌ لم تتحقق لا في التقدم والاستقلال، ولا في الوحدة القومية والعدالة الاجتماعية. وجاءت الموجة الثانية بدرجة أكبر من العنف، وإن كانت على نطاقٍ جغرافي أضيق، في ظل نظام القطبية الثنائية، إلى أن زال الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي. ثم جاءت الموجة التفكيكية الثالثة وهي الأشدُّ قسوة ومأساوية في سياق «الربيع العربي»؛ حيث نشطت سكاكين التمزيق، واشتغلت عملياتُ إعادة الترسيم على نطاق واسع باتساع جغرافية الأمة. واشتغلَ عمال التفتيت الدوليون والإقليميون والمحليون بهمة ونشاط داخل كل دولة قطرية على حدة؛ بل داخل بعض العواصم والمدن. والأمثلة العملية لا تزال قيد «الشغل» في فلسطين، والعراق، وسورية، واليمن، وليبيا، وهلم جرا.
لم تفلح أيّ دعوة «وحدوية» لبناء كيان سياسي جامع بعد الإطاحة بالخلافة؛ فلا الأساس القومي العربي نجح، ولا حتى الأساس الإسلامي أفلح على مدى قرن من الزمان. واليوم تبدو مفردةُ «وحدة» غريبة على مسامع الأجيال الجديدة، وشاذة في الخطاب الحكومي الرسمي، وفي الرطانة السياسية المعارضة في آن واحد. ولم تستقر غالبية «الدول» التي تناثرت من العباءة العثمانية على هوية محددة حتى الساعة. وفي الوقت الذي زادت ارتباطات كل منها على حدة بالعواصم والمؤسسات الدولية لصنع القرار، ضعفت صلاتها بشقيقاتها التي تربطها بها أوثق الروابط التاريخية والجغرافية والدينية والحضارية، إضافة إلى المصالح الاقتصادية والإستراتيجية المشتركة التي لا تخطئها عين.
ولكن؛ وعلى رغم قسوة عمليات تفكيك مفهوم الأمة فكرياً على هذا النحو، وشراسة محاولات إزاحته من المخيال السياسي ومن الذاكرة الجماعية للأمة، وعلى رغم دموية عمليات التمزيق وإعادة الترسيم طبقاً لولاءات أولية وبدائية؛ على رغم كل هذا، لم يفقد مفهوم «الأمة» مكانته ودلالته المعنوية في الوعي الجمعي(على الأقل) لأبناء شعوب ومجتمعات «الأمة»؛ من مختلف الأعراق والسلالات والجهات، بمن فيهم غير المسلمين الذين ساهم أسلافهم في بناء صرح الحضارة الإسلامية. وهذا المكون غير الإسلامي للأمة هو ما أود لفت الانتباه إليه، وفتح أعين الإدراك عليه؛ بيقظة سياسية وبوعي «أصولي» وتاريخي في آن واحد لكونه أحد مفاصل التحولات التاريخية لمفهوم «الأمة الإسلامية».
لقد كانت للتكوينات الاجتماعية غير المسلمة في تاريخ الحضارة الإسلامية أياد بيضاء في الكشف عن العمق المدني والإنساني البالغ الثراء لمفهوم «الأمة «. وكان وجود تلك التكوينات وعيشها ضمن النسق الاجتماعي الإسلامي المفتوح؛ شرطاً سياسياً وعقيدياً (نعم وعقيدياً) من شرائط استكمال وصف الأمة بأنها «إسلامية»؛ إذ لم يكن ممكناً اختبار إنسانيتها عملياً، أو كونها خير أمة، وكون رسالتها رحمة للعالمين؛ إلا حيث تضمن في داخلِها وجود المخالف في العقيدة والدين والعرق، وإلا إذا كان هذا المخالف جزءاً من كيانها، ومشاركاً فعالاً في بنائها الحضاري العام. وهذا ما كان؛ وكان أحد أهم أسرار عظمة «الأمة» وازدهارها وتطورها الحضاري وصمودها التاريخي، وهو أيضاً أحد أهم عوامل استعصاء مفهومها على كل ما أشرنا إليه من محاولات التفكيك المعنوي على مدى أكثر من مئة سنة.
هذا الصمود المعنوي لمفهوم «الأمة»، وإن لم يكن صموداً سياسياً أو واقعياً، يرجع في جانب أساسي منه على الأقل إلى تجذره في أصول المرجعية الإسلامية العليا (القرآن والسنة)، وفي وقائع الاجتماع السياسي للأمة؛ منذ عصر النبوة وتأسيس دولة المدينة، وعبر عصورها القديمة والوسيطة.
ففي القرآن الكريم، نجد أن كلمةَ «الأمة» قد وردت في أربع وستين آية بمعان متنوعة من أهمها: الجيل، والرجل الجامع لخصال الخير، وطريقة، ومذهب، ومدة زمنية، وجماعة من الناس، وجماعة كثيرة. وأكثرية هذه المعاني تدور حول «الجماعة». وهذا المعنى الأخير هو الذي يهمنا في تتبع تحولات مفهوم الأمة في تحولاته التاريخية، وفي مصائره في الواقع البئيس الراهن. وإنه لأمر ذو مغزى وجودي ألاّ تَرد مفردة «الأمة» ولا مرة واحدة في القرآن الكريم مشفوعة بصفة دينية، وإنما وردت في سياقها بمعنى الجماعة والكثرة، مشفوعة بوصف «الوحدة». والوحدة أقرب المفاهيم لنواميس الاجتماع السياسي. وتؤكد ذلك السنة النبوية العملية؛ فقد تحدد مفهوم الأمة فيها بنص صريح في صحيفةِ المدينة، وهي أول ميثاق دستوري مكتوب في العالم، ومما جاء في هذه الصحيفة: «هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم: أنهم أمة واحدة من دون الناس…».
ومن ظاهر هذا النص؛ يتضحُ أن مفهوم الأمة في الاستعمال السياسي الإسلامي يشمل «غير المسلمين»، وهم الذين أشار إليهم النص السابق بـ « ومن تبعهم، ولحق بهم، وجاهد معهم…». وفي الصحيفة أيضاً وفي غيرها من مصادر الفقه السياسي الإسلامي ما نستنتجُ منه: أن جماعة المسلمين إذا اقتصرت عليهم وحدهم، فإنها تفقدُ أحد الشروط التكوينية لمفهوم «الأمة» الموصوفة بأنها «إسلامية»؛ أي أنها لا تكون أمة إسلامية بحق من جهة التكوين الاجتماعي والسياسي، إلا إذا اشتملت على مجموعات غير إسلامية الديانة، أو مجموعات متنوعة الهويات والثقافات والأعراق.
ويدعم استنتاجنا السابق شاهدان: أولهما تاريخيٌ يشهد بأن «الأمة الإسلامية» لم تخل من غير المسلمين في أي عصر من عصورها، ولا في أي بقعة من بقاعها الجغرافية. وثانيهما أصوليٌ فقهي، وسياسي حضاري، يتمثل في ما توصل إليه عدد من العلماء المجتهدين، من أنّ أول دستور مكتوب، وهو المعروف باسم «وثيقة المدينة» قد عرَّف «الأمة» بهذا الاتساع والشمول الاجتماعي والعقيدي والسياسي الذي أشرنا إليه. ومن هؤلاء على سبيل المثال: في الجانب السياسي؛ السياسيُّ المخضرم عبد الرحمن عزام باشا (1873 – 1976) في كتابه «الرسالة الخالدة». وفي الجانب الفقهي الأصولي، الفقيهُ الكبير توفيق الشاوي (1918- 2009 م) في كتابه «فقه الشورى والاستشارة».
ربطَ عزام باشا مفهوم الأمة بمفهوم «سيادة الشريعة»، وقال: إن «الأمةَ» مجتمعة أو متفرقة، متفقة مع رئيس الدولة أو مختلفة، ممثلة في برلمان أو في هيئة تأسيسية، أو غير ممثلة؛ ليس لها أن تتصرفَ في ما جعله الله حقاً أو واجباً للأفراد أو للجماعات في وطن ما، أو للناس كافة في الدنيا كلها؛ إذ لهذه الأصول وحدها القائمة على ما شرع الله من حقوق وواجبات عامة للإنسان؛ السيادة والخلود؛ لأنها دائمة بإرادة الله لا غيره»، وهذا ما ندعوه: «النسق الاجتماعي المفتوح» للأمة الإسلامية.
واستنتج العلامة الشاوي من «وثيقة المدينة» أن الرسول الكريم: «لم يقصر المواطنة على المهاجرين والأنصار، وإنما أضاف إليهم من تبعهم ولحق بهم (من المشركين واليهود)؛ فاللحاقُ بالأمة هو كل عمل أو وضع يعني الانضمام إلى مواطنيها ومشاركتهم في مسؤوليات المواطنة والتزاماتها. وفي رأيه أن هذه الصحيفة الفريدة كان لها بالغ الأثر في أن تتجاوز الأمة الحواجز اللغوية، والعرقية، بل والعقيدية وهي تصوغ كيانها الاجتماعي السياسي والحضاري العام.
ومن جهة أصولية؛ يفيد البحث في المصادر التراثية في علومِ الكلام، والفقه، والسياسة الشرعية؛ بأن «الأمةَ» هي المفهوم الذي جرى استعماله للدلالة على مصدر شرعية السلطات العامة، عبر «الإجماع». والإجماع مفهوم أصولي يتمحور حول «الأمة»؛ من خلال ممثليها: «أهل العقد والحل»، أو «أهل البيعة»، أو «أهل الاجتهاد»، أو «أغلبية الرأي العام» بمفاهيمنا المعاصرة. ويعطي الإجماع الأحكام قوة مماثلة للأحكام القطعية في الكتاب والسنة، وهو أحد أهم قنوات وضع الأحكام موضع التنفيذ. ومن هنا اكتسب مفهوم الأمة منزلة عليةً في الوعي الجماعي لتكويناتها الاجتماعية المتنوعة.
لكل هذه العوامل سيبقى مفهوم الأمة الإسلامية حاضراً على رغم قسوة الواقع الراهن الجيو – سياسي للأمة. وإذا كان حضوره الراهن من موقع المقاومة والرفض لأوضاع التجزئة والهيمنة والتفكيك المعنوي والدموي؛ إلا أنه لا يزال يحمل بداخله عوامل بقائه، ويكتنز من التجارب والعبر التي تسمح بإعادة تشغيله مجدداً في رسم معالم الاجتماع السياسي لمجتمعات وشعوب العالم الإسلامي. أما كيف يتشكل إجماع الأمة، وكيف يمكن التعرف عليه؟ وما صلة هذا المفهوم الأصولي الراسخ بمفهوم الرأي العام الحداثي؛ فهذا موضوع آخر وبالغ الدقة، وفيه أقوال وآراء قد نفرد لها مقالاً خاصاً بها.

المصدر: صحيفة الحياة

Optimized by Optimole