انقلاب أيلول وانفصال الوحدة المصرية السورية

انقلاب أيلول وانفصال الوحدة المصرية السورية
Spread the love

بقلم د.محمد عبدالرحمن عريف* — بدأت الأحداث عقب الانقلاب العسكري الخامس في سوريا 1954، الذي أطاح بنظام أديب الشيشكلي ونظام الحزب الواحد الذي تزعمه. وأعتبر ثاني انقلاب سلمي قاده العسكريون على سلطة المدنيين (بعد انقلاب سامي الحناوي في 1949)، وإن كانو كفّوا عن التدخل بشؤون البلاد السياسية، لتأتي بعده الفترة المعروفة باسم “ربيع الديموقراطية” 1954-1958. كما أنه الانقلاب الوحيد الذي بدأ من حلب. وجاء بعده الوحدة السورية المصرية 1958.
تطورت الأحداث في سوريا وصولًا للاستياء السوري من الجمهورية العربية المتحدة، فبعد القرار المتسرع والمتحمس أكثر من اللازم للاتحاد مع مصر، أدرك السوريون أنهم انضموا إلى نظام ديكتاتوري عسكري مستبد ومركزي للغاية، والذي دمر بشكل متزايد السياسة السورية التقليدية والاقتصاد.
الواقع، أنه لم تكن سوريا موجودة خلال تلك الفترة، وإنما كانت الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة. فقد تم حل الأحزاب السياسية. وكان الشيوعيون أول من تم التخلص منهم. وعلى الرغم من كون حزب البعث هو بطل الوحدة ومن الطبيعي أنه أكثر الأحزاب السياسية الحليفة لنظام عبد الناصر، فقد تم إزالته من المناصب ذات النفوذ خلال الفترة (1959–1960). وهنا شعر الضباط السوريون بأن مواقعهم الآمنة في السابق أصبحت مهددة. وتم إرسال المئات من الضباط السوريين للخدمة في أماكن بعيدة بمصر أو أحيلوا إلى التقاعد. وحل محلهم إداريين وضباط مصريين. كانت سوريا تحكم من قبل الشرطة السرية التابعة لعبد الحميد السراج.
أما عن الاقتصاد خلال الأشهر الأولى لعام 1961، فقد ازدادت سيطرة الدولة على الاقتصاد السوري بشكل كبير. استقال حاكم مصرف سورية المركزي في نهاية كانون الثاني/ يناير، محذراً من مخاطر التأميم والعملة الموحدة المخطط لها (كانت كل من سوريا ومصر لا تزال لديها عملتها الخاصة).
في الساعة الرابعة صباحًا من يوم 28 أيلول/ سبتمبر، دخل إلى دمشق رتل مدرع تحت إمرة العقيد عبد الكريم النحلاوي، رئيس مكتب عامر في سوريا ووحدات حرس الصحراء بقيادة العقيد حيدر الكزبري، والتقى بقوات حامية دمشق وسلاحها الجوي. وتم الاستيلاء على مقر الجيش، وعلى محطة الإذاعة، وعلى المطار، وأقيمت نقاط تفتيش، وقامت الدبابات بدوريات في الشوارع. وألقي القبض على كبار الضباط التابعين للجيش السوري وعامر. ووضع السراج رهن الإقامة الجبرية.
قبل إلقاء القبض على السراج في الساعة الرابعة صباحًا مباشرة، كان لدى عامر وقت لكي يأمر اللواء المصري أنور القاضي بنقل لواء مدفعية ميداني من قاعدته على بعد 40 كلم من دمشق إلى المدينة وقمع الانتفاضة. في حين أن الضباط المصريين، غير مدركين للشكاوى السورية، أطاعوا الأمر بضمير، في طريقهم إلى دمشق، استقبلهم قائدهم السوري الذي أمرهم بالعودة إلى القاعدة واعتقال جميع الضباط المصريين.
في الساعة 7:25 صباحًا أصدرت إذاعة دمشق البيان رقم (1) من القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة الذي أعلنوا فيه أن الجيش قد اتخذ إجراءات للقضاء على الفساد والاستبداد واستعادة الحقوق المشروعة للشعب. ووصفت الرسالة رقم (2) بأنها أكثر اتسامًا بالطابع السياسي وتدرج فيها شكاوى ضد “الزمرة القمعية والفاسدة” التي أدت إلى تشويه سمعة الاتحاد بين الشعوب العربية. وقد انتُقدت أيضاً القوانين الاشتراكية التي تم الأخذ بها في تموز/ يوليو والخطط الرامية إلى تطهير الضباط السوريين. أعلن البيان رقم (3) أن القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة تسيطر سيطرة كاملة وطلب معاملة جميع المصريين بعناية. أعلن البيان رقم (4) إغلاق جميع المطارات والموانئ.
على الرغم من أن القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة لم تعلن بعد تفكك الجمهورية العربية المتحدة أو انفصالها، إلا أن معظم السوريين تعبوا من الديكتاتورية المصرية، وعلى الرغم من الإعلانات التي لا نهاية لها نحو هدف الوحدة العربية، فقد كانوا سعداء لاستعادة حرياتهم التقليدية. في الساعة 9:07، اتخذ عبد الناصر خطوة غير عادية بالرد على التمرد من خلال بث إذاعي مباشر. وأعلن أنه لن يحل الجمهورية العربية المتحدة (التي كان من المقرر أن يقوم بها أنور السادات في عام 1971)، وأن التمرد في دمشق صغير الحجم وأنه أصدر أوامر إلى الجيش السوري لقمعه.
في هذه الأثناء، قضى عامر وغيره من قادة الجيش السوريين والوزراء المعتقلين يومهم في التفاوض مع المتمردين. وكان عامر على يقين من أنه يمكن إنقاذ الجمهورية العربية المتحدة من خلال تلبية مطالب المتمردين بتحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي المحلي، وتخفيف قوانين تموز/ يوليو ومن خلال الإصلاح الزراعي. ليس من الواضح بعد ما إذا كان عامر مخلصاً خلال هذه المفاوضات أم أنه كان ببساطة يلعب من أجل الوقت وينتظر القوات المصرية. وسُمح لعامر بالاتصال بناصر من خلال إذاعة الموجات القصيرة للحصول على موافقته على هذا الاتفاق.
في هذه المذكرة التوفيقية، أذيع أمر القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة رقم (9) في الساعة 1:26 مساء، والذي أعلن فيه أن القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة أرادت الحفاظ على الوحدة العربية، وأن عامر “اتخذ القرارات اللازمة لصون وحدة القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة. وأعيدت المسائل المتعلقة بالجيش إلى مجراها الطبيعي”. وقد وصفت إذاعة دمشق نفسها مرة أخرى بأنها “محطة إذاعة الجمهورية العربية المتحدة في دمشق”.
هنا بدا لبضع ساعات أن الجمهورية العربية المتحدة أنقذت، كان الجانبان أبعد ما يكون عن الاتفاق. في وقت مبكر من بعد الظهر، تلقى المتمردون الدعم من جميع وحدات الجيش السوري تقريباً وكانوا متأكدين من النصر. اتبع ناصر منطق كل مستبد ورفض التفاوض مع المتمردين أو تغيير سياسته في سوريا. في الساعة 17:20، تم وضع عامر ومجموعة من الضباط والموالين المصريين على متن طائرة إلى القاهرة، والتي أعلن عنها في الإصدار (12) في الساعة 5:45 مساء. في الساعة 6:55 ظهر عبد الناصر مرة أخرى على الراديو. ورفض التفاوض ودعا القوات المسلحة للقيام بواجبه عن طريق سحق المتمردين.
الواقع، أنه حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحاً، أمر ناصر بعض القوات المصرية بالذهاب إلى سوريا في محاولة لقمع التمرد. وبما أن مصر وسوريا لم تشتركا الحدود البرية، فقد أمرت المظليين الجويين وبعض القوات التي تنقل عن طريق البحر بالمغادرة إلى اللاذقية وحلب، حيث بقيت قواعد الجيش موالية لعبد الناصر. ومع ذلك، قبل وصول القوات المصرية بقليل إلى هذه القواعد، استولت عليها قوات المتمردين. وظهر أن أقل من 200 من المظليين المصريين الذين هبطوا في اللاذقية كانوا محاطين بقوات المتمردين ثم عادوا إلى مصر.
الحقيقة أن ناصر ألغى العملية بأكملها. في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، وتم إرسال 870 ضابطًا وجنديًا مصريًا، بينما عاد 960 سوريًا بسلام من مصر. في وقت لاحق من مساء 28 أيلول/ سبتمبر، بدأت إعلانات الراديو المتمردة بمهاجمة ناصر شخصيًا، واصفة إياه بأنه طاغية. وفرض حظر تجول في دمشق من السابعة مساءً حتى الخامسة والنصف صباحاً. إذا لم يكن من الواضح خلال النهار ما إذا كان المتمردون يريدون حرية أكبر لسوريا داخل الجمهورية العربية المتحدة أو استعادة الاستقلال الكامل، عندما أنهت إذاعة دمشق آخر إذاعاتها في ذلك اليوم بعد منتصف الليل بالنشيد الوطني السوري، كان من الواضح أنهم اختاروا الاستقلال.
في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم 29 أيلول/ سبتمبر، أعلن راديو دمشق أن القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة أوكلت إلى مأمون الكزبري (أحد أقارب أحد منظمي الانقلاب) بتشكيل حكومة جديدة تتألف من السياسيين القدامى للحزب الوطني وحزب الشعب. كانت حكومة النخب السورية التقليدية، لكنها وعدت بالحفاظ على بعض سياسات عبد الناصر التقدمية والاشتراكية. في نفس اليوم، اعترف الأردن وتركيا بالنظام الجديد. خلال ذلك اليوم، تم تعيين اللواء عبد الكريم زهر الدين، وهو درزي لم يشارك في التخطيط للانقلاب، قائداً عاماً للجيش. كان شخصية توفيقية واستمر في منصبه حتى انقلاب 8 آزار/ مارس 1963.
تلا ذلك كله صدور المرسوم رقم (1) القاضي بتشكيل الحكومة الانتقالية وأذيع في ظهر يوم الجمعة في 29 أيلول/ سبتمبر 1961 أن مأمون الكزبري رئيس لمجلس الوزراء ووزيراً للخارجية. ليون زمريا وزيراً للمالية والتموين. فرحان الجندلي وزيراً للصحة والإسعاف العام. عدنان القوتلي وزيراً للداخلية. عزّة النص وزيراً للتربية والتعليم والثقافة والإرشاد. عوض بركات وزيراً للاقتصاد والصناعة. أمين ناظيف وزيراً للزراعة والإصلاح الزراعي. أحمد محمد سلطان وزيراً للعدل والأوقاف. فؤاد العادل وزيراً لشؤون الاجتماعية والعمل. عبد الرحمن حورية وزيراً للأشغال العامة والمواصلات. نعمان الأزهري وزيراً للتخطيط والشؤون البلدية والقروبة. وقد لحق بالوزارة فيما بعد كل من مصطفى البارودي وزير دولة للدعاية والأنباء والإذاعة والتلفزيون، وسعيد السيّد وزيراً للإصلاح الزراعي. وبدأت الاعترافات تتوالى على سورية بعد صدور مرسوم الحكومة، وأبلغ مأمون الكزبري الهيئة العامة للأمم المتحدة بقيام الجمهورية العربية السورية كما أبلغ بذلك الدول الأعضاء وجامعة الدول العربية وأصدرت الحكومة المؤقتة عدة مراسيم أولها وأهمها رفع العلم العربي السوري وإطلاق اسم الجمهورية العربية السورية على الدولة وإعادة العمل بالنشيد الوطني والشعار السوريين والعمل على دستور جديد.
أُجريت الانتخابات وأُعلن المجلس التأسيسي النيابي وكان رئيس الجمهورية الفائز هو الرئيس ناظم القدسي في ولاية تمتد لخمس سنوات وتسلم معروف الدواليبي رئاسة الحكومة في أقل من أربعة أشهر وقد أعلنت حركة الثامن والعشرين من أيلول أهدافها وشعاراتها لأمة العربية جمعاء وكان نداء القيادة العربية الثورية العليا، وحكومة الجمهورية العربية السورية الموجه إلى كل بلد عربي لتحقيق الوحدة العربية المبنية على أسس سليمة منطلقة من تجربة الوحدة السورية المصرية في سبيل بناء الوحدة العربية السياسية على نحو ترتضيه الشعوب العربية جمعاء لإقامة الكيان العربي الموحد على ركائز وطيدة لا يتسرب إلى أسسها الخلل ولا تزعزعها الأحداث والنوائب.
تبع تلك الأحداث بتاريخ 6/10/1961 م صدور بيان ثورة العهد الجديد الاشتراكية العربية الذي عين الخطوط العامة لسياسة الثورة. فأعيدت للعمال حقوقهم المغتصبة وأعيد العمل بقانون العمل القديم وألغي قانون التأميم والإصلاح الزراعي بقانون جديد يعوض على المتضررين من القانون القديم.
صنفت حركة 28 أيلول في عام 1961 في طليعة الأحداث العالمية البارزة في عام 1961، وإن كانت قد مهدت لتدخل الجيش مجدداً في الحياة العامة بل وأكثر من ذلك فهي قد جعلت من تدخل الجيش أمراً طبيعياً وخاصة في السياسة الخارجية للبلد من خلال ما سمي بمجلس الأمن القومي الذي اعتبر نفسه الآمر الناهي والذي كان المسيطر الفعلي على الأمور في سورية على الرغم من أنف الرئيس ناظم القدسي.

Optimized by Optimole