اليمن 1955: انقلاب عسكري فاشل بقيادة العقيد أحمد الثلايا

اليمن 1955: انقلاب عسكري فاشل بقيادة العقيد أحمد الثلايا
Spread the love

بقلم د.محمد عبدالرحمن عريف* —

جاءت بداية التخطيط بعد فشل الحركة الانقلابية ضد المملكة المتوكلية في 1948، وعدم قدرتها على الصمود في وجه جيش الإمام أحمد الذي اعده مشايخ من قبائل حجة وصعدة وصنعاء وعمران وغيرها من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة الحكم الإمامي في شمال اليمن، وما رافق فترة حكم أحمد من تصعيد في استخدام القوة والبطش ضد المعارضين لحكم الإمامة، وما رافق ذلك من إصدار الأوامر بعمليات الإعدامات الجماعية بحق قيادات انقلاب 1948 وبدون محاكمة.

عندها توسعت دائرة المعارضة ضد الإمام أحمد ففي مطلع الخمسينيات، بدأ ما تبقى من هم خارج السجون وفي عدن بالتفكير في استعادة النشاط الحزبي، وقاموا بتأسيس (نادي الإتحاد اليمني)، كان وضع التسيب والفوضى الذي ساد مرحلة الخمسينيات هي الأبرز مع الشعور بضعف النظام الإمامي، لتتشكل حينها رؤية جديدة للانتفاضة ضده. واستغل (الثلايا) نزعة تمرد الجيش، ووجهها ضد الإمام (أحمد بن يحيى)، الذي بدأت هيبته تضعف في الجيش، وفعلاً بدأ الجيش يعد عدته للانقلاب، واجتمع الثلايا بالضباط، وتعاهدوا على التخلص من الإمام، وعمل على التنسيق مع الأمير (عبد الله بن يحيى)، أخو الإمام (أحمد)، الطامح للإمامة، خاصة بعد أن جعل الإمام (أحمد) ابنه (محمدًا) وليًّا للعهد، مما أثار نقمة إخوته عليه.

الحقيقة أن مشكلة التنافس على ولاية العهد، تعد إحدى أهم المشاكل التي واجهت نظام الامامة الزيدية في تاريخ اليمن الحديث، إذ القت هذه المشكلة بظلالها السلبية على الوضع السياسي في البلاد، التي كانت تعاني اصلاً من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية بسبب سياسة العزلة التي كان ينتهجها هذا النظام. ولعل ما يميز هذه المشكلة ويضفي عليها أهمية بالغة، انها أدت إلى نشوب خلافات وصراعات شبه متواصلة بين أفراد الأسرة المالكة، كان لها انعكاسات سلبية على الوضع الداخلي من جهة، وعلى سياسة اليمن الخارجية تجاه الأقطار العربية والدول الأجنبية من جهة ثانية، وعلى الجهود التي كانت تبذلها اليمن لمواجهة الاستعمار البريطاني في الجنوب من جهة ثالثة. ولا بد من الإشارة إلى ان التنافس على ولاية العهد في اليمن يظهر بشكله الواضح إلا في عهد الامام أحمد (1948 – 1962) على الرغم من أن الصراع على الامامة نفسها كان السمة المميزة للنظام الامامي في اليمن منذ وجوده كنظام سياسي في اواخر القرن العاشر الميلادي وحتى عام 1948.

لهذا يجب التمييز بين الصراع على الامامة نفسها وبين التنافس على وراثة الامامة او ولاية العهد. وعلى ما يبدو أن الامام يحيى كان راغباً في تعيين سيف الإسلام الأمير أحمد ولياً للعهد، غير أن أسس الزيدية التي لا تجيز تعيين ولياً للعهد، حدت به إلى محاولة اظهار قضية التعيين وكأنها مطلب أهل الحل والعقد. علاوة على ذلك فان تحفظ هولاء على أن التعيين ليس نهائياً، إلا إذا ثبت ولي العهد استحقاقه وجدارته لهذا المنصب، وفر عذراً للامام ولهولاء الذين وافقوا على التعيين، بأنهم لا زالوا ملتزمين بتعاليم الزيدية التي لا تقر ولاية العهد، وهي الثغرة التي رافقت ولادة نظام ولاية العهد في اليمن وأدت إلى تطلعات آخرين من أبناء الامام وغيرهم لتولي منصب الامامة حتى بعد تعيين ولياً للعهد بشكل رسمي.

لقد كانت نوايا الامام أحمد منذ تبوئة العرش، في أعقاب فشل حركة 1948 التي اغتيل أثنائها والده، متجهة نحو اخذ البيعة لولاية العهد لابنه البكر محمد البدر، غير أن معارضة اخوته العلنية لهذه النوايا حدت به إلى التريث لفترة من الزمن دون أن يصرف النظر بشكل تام عن هذا الهدف. ففي منتصف عام 1952 بدأ الامام أولى خطواته في هذا المجال عندما اوعز للمسؤولين اجراء اتصالات مع إيطاليا والسويد للحصول على الاسلحة لغرض تحسين قدرة الجيش النظامي اليمني إلى الحد الذي يجعله قادراً على مواجهة القبائل. ومع أن عدداً من القبائل اليمنية كانت قد اظهرت في تلك السنة ضجراً واستياء من النظام الامامي، إلا أن خطوة الامام هذه كانت في جزء كبير منها، تهدف إلى تعزيز موقف ابنه البدر، الذي كان قد عين وزيراً للدفاع، في تنافسه على ولاية العهد مع أخيه الأمير الحسن، الذي كان يتمتع بشعبية واسعة ين أوساط القبائل.

لم تكن تلك التحركات بغائبة عن إدراك الحسن الذي نظر بعين الريبة والشك إلى تزامن طلب الحصول على الاسلحة مع تعيين البدر وزيراً للدفاع وقيامه بجولات تفتيش متكررة إلى الحاميات العسكرية وتوزيع الأموال والمؤن والذخيرة عليها. فبعد انتصار الانقلاب في مصر في 23 تموز/ يوليو 1952 سعى الإمام أحمد بن يحيى إلى إيجاد علاقات قوية مع رجال الحركة المصرية، هدف من ورائها الظهور بمظهر الراغب في الاصلاح والمتطلع إليه امام الشعب اليمني من جهة، والحصول على تأييد مصر لابنه البدر في قضية ولاية العهد من جهة أخرى.

لما كان الحسن معروفاً بتزمته وتشبثه بالماضي وتقاليده، مقابل ميل البدر العلني نحو الاصلاح، فقد وجدت مساعي الامام أذاناً صاغية لدى الحكومة المصرية التي ابدت استعدادها لتدريب الجيش اليمني إذا ما طلب منها الامام ذلك. ويبدو أن أهداف الامام الرامية إلى الحصول على دعم عربي ذو تاثير لابنه البدر، ومن ثم تقوية الجيش اليمني بمساعدة مصرية إلى الحد الذي يجعله قادراً على مواجهة أي تحرك محتمل قد تقوم به القبائل الموالية للحسن، قد جاء متناغماً مع النهج القومي للنظام الجمهوري في مصر الذي هدف إلى تعزيز علاقته قدر الممكن مع الأقطار العربية الأخرى، حتى لو كانت تحكمها أنظمة رجعية في نظره، على أساس أن تلك السياسة ستفضي إلى إيجاد نفوذ مصري في تلك الأقطار يمكن أن يستقطب انظمتها الملكية المحافظة -ومنها النظام الامامي في اليمن- نحو اجراء اصلاحات فعلية في انظمتها السياسية والاقتصادية يجعلها أكثر تجاوباً مع النهج القومي للنظام المصري، او على الأقل تساعد في ايقاظ الوعي الوطني والقومي لدى شعوب تلك الأنظمة -في حالة عدم تجاوب الأنظمة نفسها- يقود إلى ثورة تغير النظام الملكي بنظام جمهوري يتخذ من النظام الجمهوري في مصر مثالاً يحتذى به.

تنفيذاً للوعود المصرية، وصل وفد عسكري مصري في مطلع 1953 إلى اليمن برئاسة المقدم كمال عبد الحميد الذي اجتمع بالامام أحمد واقنعه بأن دعم التوجهات الاصلاحية لابنه البدر من شأنه أن يزيد شعبية البدر امام خصمه في قضية ولاية العهد، ويعطي رصيداً شخصياً وتاريخياً للامام. ولما كانت قضية تحسين قدرة الجيش اليمني من أولويات البدر الاصلاحية التي عمل الامام والبدر على تحقيقها منذ عام 1952، لغرض استخدامه في مواجهة القبائل الموالية للحسن كما مر ذكره، فقد وافق الإمام أحمد على اقتراح بعض مستشاريه بطلب بعثة عسكرية من مصر لتدريب الجيش اليمني في تعز، لا سيما وأن هؤلاء المستشارين من ذوي التوجهات الاصلاحية عرفوا كيف يضربون على وتر الخلاف بين البدر والحسن حول ولاية العهد لغرض اقناع الامام باستقدام بعثة عسكرية مصرية لتدريب الجيش اليمني على الرغم من أن الأهداف الحقيقية لهؤلاء كانت تتحدد في إيجاد نظام عسكري عصري يكون المنطلق الأول لنهضة اليمن وليس اداة لدعم البدر.

هكذا نلاحظ أن التنافس على ولاية العهد في اليمن كان له التأثير البالغ في توجه الامام نحو إقامة علاقات ودية مع مصر بعد 23 تموز 1952، وفي موافقته على الاستعانة ببعثة عسكرية مصرية لتدريب الجيش اليمني، وهي التوجهات التي جاءت متطابقة مع آمال الاحرار اليمنيين على الرغم من تناقض الأهداف المرجوة لكل منها. وبغض النظر عن تناقض أهداف الطرفين، فقد وفر هذا التطابق فرصة جيدة لدعم الاحرار والمصلحين للبدر الذي لم يترك مناسبة دون أن يستغلها في التاكيد على أنه يتمنى أن يكون رائد الاصلاح في اليمن، وأنه لا يتأخر عن اقناع والده بالاصلاح كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

كان من بين أهم هؤلاء المقدم أحمد يحيى الثلايا ومحمد قائد سيف اللذان بدأ يؤمنان بجدية توجه البدر نحو الاصلاح ويعتقدان أنه أفضل المرشحين للامامة مقارنة بعمه الحسن الذي كان مرفوضاً بكل المقاييس لدى جميع الاحرار والمصلحين، وعمه الأمير عبد الله الذي حاول أن يدخل كطرف ثالث في معترك الخلاف حول ولاية العهد. ولم يقتصر دعم التوجهات الاصلاحية للبدر على العناصر الاصلاحية العسكرية بل تعداه إلى بعض الذين لا زالوا في سجن حجة منذ اشتراكهم بحركة 1948 الفاشلة، ففي بداية عام 1954 خرجت الدعوة لولاية العهد من سجن حجة عندما حمل القاضي عبد الرحمن الارياني من معه في السجن على مبايعة البدر كولي للعهد، غير أن المبايعة على ما يبدوا لم تكن صادقة في حقيقتها، فقد هدف منها الاحرار تحقيق مأربين أولهما توسيع شقة الخلاف بين أفراد الأسرة الحاكمة، وثانيهما كسب عطف الامام والبدر بشكل خاص لغرض إطلاق سراحهم، وهو ما حصل بالفعل عندما تمكن البدر من اقناع والده على إطلاق سراح بعض المعتقلين وتخفيف القيود عن البعض الآخر، وقد اخذ البدر بعد ذلك يتقرب من المثقفين والقبائل ويدعوا لاصلاح وتطوير اليمن.

في منتصف عام 1954 أصبحت قضية ولاية العهد المشكلة الرئيسية على الصعيد السياسي الداخلي في اليمن، عندما أقدم الامام أحمد على بعض النشاطات التي هدفت إلى استصدار إعلان يقضي بتسمية محمد البدر حميد الدين وريثاً للإمامة، إذا تسببت هذه المساعي في حصول معارضة شديدة بين فئات الشعب اليمني، لا سيما من جانب هؤلاء الذين يدعمون المرشح الرئيس الآخر للعرش الأمير الحسن، الذي نجح في تفادي الإدلاء بأي تصريح يشير إلى تأييده لترشيح البدر لولاية العهد. ولعل ما اثار حفيظة سيف الإسلام الحسن بن يحيى حميد الدين من مساعي الامام، أنه كان يرى في نفسه الأهلية الكافية لأن يكون وريثاً للعرش لا سيما وأنه حتى ذلك الوقت كان يشغل منصب رئيس الوزراء وحاكم صنعاء التي اتخذ منها مقراً دائماً، بل إنه كان يعد الرجل الثاني في اليمن بعد الامام.

اما البدر فقد كان في نظر الحسن وانصاره لا زال غير مؤهل لتولي ولاية العهد. وقد اشار إلى ذلك أحد انصار الحسن في لقاءه بالقنصل الأمريكي في عدن بقوله متهكماً: “أن البدر لازال لا يمتلك إلا اثنين من الشروط الواجب توفرها في الامام، هما الكرم والشجاعة. وفيما يتعلق بالأولى فلم تتوفر الفرصة لكي يثبت فيما إذا كان يتصف بشيء منها. أما فيما يتعلق بالثانية… فإن البدر التحق بأعمامه في عدن اثناء قيام حركة 1948، ثم توجه معهم إلى صنعاء حيث ادوا يمين الولاء للوزير” الذي اعلن نفسه اماماً بعد قيام تلك الحركة الفاشلة.

على الرغم من خمود الضجة التي سادت اليمن اثر محاولات الامام التمهيد لتعيين البدر ولياً للعهد، إلا أن أي من الطرفين المتنافسين -الحسن والبدر ولا سيما الأخير بدعم من الامام، لم يتوقف عن المحاولات المستمرة الرامية إلى تعزيز موقفه ليكون مقبولاً كوريث للامامة. ففي شهر أب/ أغسطس 1954 قام الامام بزيارة إلى صنعاء، كان ظاهرها العلاج من مرض الروماتزم الذي كان يعاني منه، إلا أنها في حقيقة الامر كانت حلقة في سلسلة الجهود التي كان الامام يبذلها لتعزيز موقف ابنه البدر في تنافسه مع الحسن حول ولاية العهد. ويمكن الاستدلال على ذلك بالنشاطات التي قام بها الامام في صنعاء، والتي تمثلت بتوزيعه مبالغ كبيرة على رؤساء القبائل الذين توافدوا على صنعاء أثناء إقامة الامام فيها، مقابل وعدهم له بدعم البدر في ولاية العهد. وقد اثارت تلك الزيارة استياء الحسن الذي وجد فيها ضرراً لموقفه الشخصي والسياسي مقابل تدعيم موقف البدر لا سيما وأن الحسن عرف ببخله وعدم استعداده صرف مبالغ طائلة، فضلًا عن قلة ما تحت تصرفه من أموال مقابل ما تحت تصرف الامام.

نعم نجح الامام في تحسين صورة البدر إلى حد ما في نظر أولئك الذين لهم تاثير في قضية ولاية العهد. ومع أن الحسن لم يجرؤ بشكل صريح على معارضة تلك النشاطات إلا أنه نجح في احتوائها خلال تلك الفترة على الأقل، من خلال تجنبه اظهار ما يشير إلى قبول البدر كولي للعهد. التقاء مصالح الأحرار مع الأمير عبدالله وعلى الرغم من ابعاد الحسن عن مسرح المنافسة، وتظاهر اخوة الامام الآخرين بما فيهم سيف الإسلام عبد الله بالولاء والطاعة له، قد اقنع الامام بأن الأمر سيستتب لابنه البدر، إلا أن حقيقة الأمر ان عبد الله والحسن وباقي اخوة الامام كانوا يشعرون بالقلق ازاء تعيين البدر ولياً للعهد، يشاركهم في ذلك عدد كبير من الذين كانوا يرون أن مصيراً مشؤوماً سينتظرهم إذا تربع البدر على العرش، لما عرف عنه من ضعف الشخصية بعد أن تناقلت الأخبار مرض الامام وطول احتجاجه في القصر.

هكذا التقت مصالح الأمير عبد الله مع عدد كبير من الذين اجروا اتصالات مع العناصر العسكرية الاصلاحية وعلى راسهم المقدم احمد الثلايا، للقيام بالانقلاب، فقام قائد جيش الإمام المقدم أحمد يحيى الثلايا بمحاصرة قصر الإمام في تعز.

قرر الثلايا، وعلماء وأعيان البلاد إرغام الإمام (أحمد) على التنازل لأخيه المذكور؛ فوافق الإمام على التنحي عن الحكم لأخيه، وكانت موافقته خدعة، واتصل بأنصاره من رؤساء القبائل، وضباط الجيش. وما هي إلا خمسة أيام حتى فوجئ الانقلابيين بإطلاق النار على مقر قيادتهم، واستمر القصف عليهم يومًا وليلة، وبدأت خطوطهم تنهار، وكانت قبضة الإمام (أحمد) تزداد حدة؛ حتى أحكمها.

حاول الثلايا بعد فشل الانقلاب، الفرار إلى مدينة عدن، إلا أن بعضًا من عناصر القبائل ألقت القبض عليه، وسلمته للإمام، الذي سارع بإعدامه، مع جماعة من رفاقه. وشملت حملة الاعدامات النقيب أحمد الدفعي والنقيب عبدالرحمن باكر، والسيد محمد حسين عبدالقادر، والقاضي يحيى السياغي، والنقيب علي حمود السمة، والنقيب محسن الصعر. وفي تلك الأثناء استقبل الإمام أحمد، حاكم اليمن، الوفدين المصرى والسعودى فى غرفة نومه بقصره، بعد فشل محاولة الانقلاب عليه التى قادها أحمد الثلايا، وكان الوفد المصرى بقيادة حسين الشافعى، وعضوية فتحى الديب، مسؤول ملف حركات التحرر العربية برئاسة الجمهورية والمخابرات المصرية، أما الوفد السعودى فكان بقيادة الأمير فهد بن عبدالعزيز.

سافر الوفدان إلى الرياض باتفاق بين عبد الناصر والأمير فيصل الذى كان فى القاهرة، وكلف العاهل السعودى الملك سعود شقيقه الأمير فهد بالملف، ثم سافر الوفدان إلى «تعز» بعد فشل الانقلاب، «لدراسة الموقف مع محاولة الحد من قيام الإمام أحمد بأى إجراءات انتقامية ضد العناصر الوطنية»، حسبما يؤكد فتحى الديب فى كتاب «عبدالناصر وحركة التحرر العربى».

يسجل «الديب» مشهد اللقاء بالإمام أحمد، مؤكدًا أنه كان فى غرفة نومه بالقصر فى نطاق تمثيلية حاول أن يخرجها بوضع درامى، «ليظهر لنا وبأسلوبه الخبيث كيف أمكن له وهو الضعيف المريض المتكور فى فراشه أن يجابه أعداءه، ويقضى عليهم رغم لجوئهم إلى استخدام السلاح للقضاء عليه وعلى أسرته، مشيرًا بيديه وبوضع درامى إلى آثار التهديم وطلقات الرصاص التى علت مخدعه، ومؤيدًا موقفه بما جاء على لسان الشعراء القدامى من أقوال تؤكد المصير الحتمى لكل من يتآمر على حكامه، وهو ملاقاتهم لحتفهم وفقدهم لحياتهم غير مأسوف عليهم».

لم يمنع لقاء «غرفة النوم» من تنفيذ الإعدامات فى 16 ممن شاركوا فى الانقلاب من الضباط والأمراء والشيوخ والقضاة، وبدأ ذلك يوم 6 نيسان/ إبريل عام 1955، حيث شهد دراما إعدام «الثلايا»، واستمرت حتى 17 نيسان/ إبريل، حسب تأكيد القاضى عبدالرحمن الأريانى، أحد المشاركين فى هذه المحاولة، ورئيس اليمن بين (1967 – 1974). يروى «الأريانى» أنه تم القبض عليه فى «صالة»، وإيداعه السجن مقيدًا فى منتصف ليلة الأربعاء 6 نيسان/ إبريل، وفى صبيحة اليوم نفسه فوجئ بوصول «الثلايا» مكتوفًا، ويتذكر «الأريانى» هذه اللحظات: «فك عنه الجند الوثاق، وأبدلوه ثلاثة قيود، دخل وهو يرسف بها فاسودت الدنيا فى عينى، وكنت آمل له النجاة، ولما رآنى قال: وأنتم هنا، وما ذنبكم، فنحن الذين أكرهناكم وأكرهنا غيركم من العلماء على العمل»، يعلق «الأريانى»: «أكبرت هذه المثالية منه، وازددت أسفًا عليه»، ويصفه: «كان ثابت الجأش، وضئ الوجه باسمًا.. كان قد حدد مصيره، وما أزال أذكره وقد جاء أحد عبيد الإمام يوبخه، فنهض ينازله وهو بقيوده ويقول له اسكت يا كلب، مع سيدك سيف ونحن فى انتظاره، ولكنى لا أريد أن أسمع توبيخًا من كلب مثلك، وانصرف العبد ولم ينبس بكلمة واحدة»، وكشف عن عملية القبض عليه قائلًا إنه ذهب إلى قرية «اللوازم»، «وهناك عجزت عن التحرك خطوة واحدة نتيجة السهر عدة أيام والتعب، فملت إلى القرية فأكرمونى وأطعمونى، وكان ذلك ثمنًا لرأسى، فقد قبضوا علىّ وأوصلونى إلى هنا».

جاء المقدم «الآنسى» رئيس الشعبة العسكرية، ومعه عدد من الحرس الملكى يستدعون «الثلايا» إلى الإمام، حسبما يؤكد «الأريانى»، مضيفًا: «عرفنا أنه يساق إلى ساحة الإعدام، وبعد نصف ساعة جاء الجنود ليأخذونا، وفى طريقنا إلى الميدان رأينا رأس عبد الرحمن بكر مصلوبًا، فازداد يأسنا من الحياة، واستسلمنا لقدرنا»، يضيف: «ساقونا إلى الميدان حيث أوقفونا صفًا، ليأخذ كل واحد دوره فى الإعدام بعد المقدم الثلايا، وكان الإمام يخطب فى الجيش، ويدور عليهم ويعلن عفوه، وقرب منى، فقلت له أرجو أن تتثبتوا.. فمضى عليَّ يومان فى «صالة»، وكنت معتزلًا للفتنة، وأبلغتكم بواسطة النقيب على مانع، فأجاب: والله يا أخى ما بلغنى شىء».

يواصل «الأريانى»: خطب الإمام قبل تنفيذ الإعدام، معددًا إنعاماته على «الثلايا»، وكيف أنه غرر بالجيش، وأثار فتنة فى البلاد، ثم قال لهم: أترون هذا حقيقًا بالحكم عليه بالإعدام؟ فقالوا جميعًا: نعم.. نعم، وأمر بإعدامه. يضيف «الأريانى»: «انتظرنا أن يدعى أحدنا للإعدام بعده، إلا أن الإمام مرق من الميدان مسرعًا، وكأنه خاف ردود الفعل». كان من بين المعدمين اثنان من إخوة الإمام أحمد، وينتقد «الأريانى» ردود الفعل التى ركزت على الأخوين، قائلًا: وأهملت إعدام 14 يمنيًا وأضعاف هذا العدد، وينتقد سفر الوفدين المصرى والسعودى بينما تتم هذه الإعدامات، وينتقد أكثر هذه الخطوة من مصر: «رأى الوطنيون على اختلاف آرائهم فى ذلك خروجًا على مبادئ 23 يوليو التى ترى الوقوف بجانب الحركات التحررية.. نظروا إلى هذه الزيارة بازدراء، واعتبروها مأخذًا من المآخذ على عبد الناصر».

 

Optimized by Optimole