العقل المؤامراتيّ العربيّ: مُقارَبة حول فكرة المؤامرة في العقل السياسيّ العربيّ

العقل المؤامراتيّ العربيّ: مُقارَبة حول فكرة المؤامرة في العقل السياسيّ العربيّ
Spread the love

نبيل علي صالح _ كاتب وباحث سوري/

بدايةً – وحتّى لا يذهبنّ تفكيرُ بعضنا إلى تخوم مفاهيميّة بعيدة – نحن نقرّ بوجود شيء اسمه مؤامرة وتآمر ومخطّطات تآمريّة علينا (كدينٍ ورسالة وأمّة لها إمكاناتها وثرواتها الضخمة والهائلة ورأسمالها الرمزيّ والماديّ العظيم) من قِبَلِ سدنة النظام العالَميّ وحُماته ورُعاته والدائرين في فلكه، ليس اليوم بل منذ زمن بعيد..

لكنّ حديثنا النقدي هنا ليس عن هذه النقطة بل عن طريقة تعاطينا نحن العرب مع فكرة التآمر ونظريّة المؤامرة، وطُرق استجابتنا السلبيّة أو الايجابيّة لها. وللأسف لم يملّ العقل السياسي العربي عموماً (ويبدو أنّه لن يملّ) من الحديث المُستمرّ في صخبه وضوضائه عن نظريّة المؤامرة والمُتآمرين، وتحميل الآخرين مسؤوليّة الفشل التاريخي في وصول العرب لأهدافهم وشعاراتهم في بناء وجود حيّ وفعّال ومُنتِج لهم على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع البشري.

بطبيعة الحال، من البديهي القول إنّ فكرة “المؤامرة” قديمة قدم الوجود البشري على هذه الأرض، وليست حالة تفكيريّة أو سلوكيّة مُستحدَثة في الوعي والمُمارَسة العقليّة الإنسانيّة. فمنذ أن بدأ العقل يفكّر، بدأت معه المؤامرات تشتغل، وهي باقية طالما أنّ الإنسان يتحرّك في خطّ المَصالح وتأمين العيش ومَنافذ الوجود له. هذا يعني بالتالي أنّ فكرة “المؤامرة” هي جزء من لعبة المصالح بين الأفراد والدول والمجتمعات، كما أنّها ما زالت وستبقى جزءاً من آليّات الضغط المُستخدَمة لدى القوى المُختلفة لتحقيق المَكاسب وحيازة المَنافع والامتيازات.

بهذا المعنى، فإنّ كلّ الدّول والجماعات والمجتمعات والحضارات تُمارس فعل التآمر على بعضها البعض، أي أنّها تَستخدم كلّها لعبة المؤامرة والمكر والدهاء بحثاً عن تأمين مواقعها ومصالحها وكأداة من أدوات الصراع مثل التحالف والتعبئة والتمويه والكمين والخدعة وو…إلخ.

لكنْ ليس من العلميّة والموضوعيّة اختزال الأحداث والتاريخ والحركات الفاعليّة البشريّة كلّها في مؤامرة أو مؤامرات ما (بعينها)، لأنّ ذلك يعني بالنتيجة الاستسلام للواقع والخضوع لرهاناته، وتغييب العقل والإرادة عن التفكير والفعل والعمل والإنتاج، وشلّ قدرة الإنسان على الإبداع في التحليل العِلمي والعَملي.

وباعتقادي، إصرارنا – في مجالنا الاجتماعي والتاريخي العربي- على هذه الفكرة، والقناعة بالمؤامرة والاستغراق فيها وتحويلها إلى ما يشبه القضاء والقدر، والطوطم الأيديولوجي – كما هي عادة أصحاب المشاريع الشموليّة العقيمة – يدفعنا للقول إنّنا ما زلنا مُستلبي الإرادات، وعاجزين عن تغيير الواقع وتطوير حياتنا للأفضل. ولهذا نرى أنّ تبنّينا للفكرة ليس له من معنى سوى أنّنا ضعفاء، أي أنّها فكرة ونظريّة الضعفاء أمام المُنتفعين من التحكُّم برقاب شعوبهم وهَيمنتهم على ثرواتها ومواردها، ونفاذهم الآمن إلى مواقع القوّة والسيطرة التامّة فيها، هؤلاء الذين أعطوا عقولهم إجازة طويلة بلا أجر، وركنوا وخضعوا لقدريات وجودهم وحياتهم ومَصالحهم.

نعم هي اختراع الفاشلين لتبرير عجزهم وضعفهم وشللهم وهَيمنتهم على بلدانهم.. فكانت النتيجة فشلهم وإفشال دُولهم ومجتمعاتهم، وإعاقتهم لنموّها وتطوّرها.

السؤال كيف التعامل مع المؤامرات والمتآمرين؟

بطبيعة الحال كلّ هذا لا ينفي أبداً وجود مؤامرات ومتآمرين، ولا يعني أيضاً عدم وجود مخطّطات ودسائس وغيرها تحيكها قوى مختلفة ومتعدّدة في مستويات سياسيّة وغير سياسيّة كثيرة، ولكنّ السؤال كيف يجب التعامل معها؟ وكيف تتعاطى معها أنت كفرد أو كمجتمع، كنظام أو كدولة؟! وكيف توظّفها لخدمتك لتتفاداها وتأمن شرورها وسلبيّاتها على شعبك وبلدك ومجتمعك وأمّتك؟! وكيف تتصدّى لها بوعي وعقلانيّة ومسؤوليّة لتؤمّن الحدّ الأدنى من مصالح أبنائك؟ أو على الأقلّ: كيف تُفشلها أو تحتويها بأقلّ الخسائر المُمكنة، لا أن تصبح جزءاً منها، تستجيب لها وتخضع سلباً لمُقتضياتها بحُسن أو سوء نيّة منك؟!!

وبدلاً من النواح والعويل ولَوم الآخرين على مؤامراتهم ومخطّطاتهم التي يحيكونها في ليالينا المُظلمة وما أكثرها، لماذا لا يلتفتُ كِبار القوم، وتلتفت أنتَ كإنسان إلى نفسك، وإلى الواقع الذي تنتمي إليه، وتبحث فيه عن أسباب هزيمتك وفشلك وضعفك (أو تضعيفك لنفسك)، بدلاً من الهروب من مُشكلاتك والارتماء في أحضان فكرة المؤامرة، ورمي مسؤوليّة فشلك على عاتق الآخرين، والاستمرار في شتمهم ولعنهم، في ما له تعبير واحد وهو انعدام قدرتك على التأثير والحضور في عالَم لا يحترم إلّا الأقوياء والأسوياء عقليّاً وعِلميّاً؟!!

لن تحجب المؤامرة معيقات تطوّر مجتمعاتنا العربيّة، ولن تلغي مكامن ضعفها ومفاصل الترهّل الكبيرة الواضحة فيها، ولن تعفي أبناءها والقائمين على أمور مُجتمعاتنا من مسؤوليّات فشلهم في إدارة شؤون بلدانهم وإيصالها إلى شواطئ الأمان والاستقرار والسلامة الفرديّة والمجتمعيّة.. فالعلّة تكمن أساساً في داخلنا المجتمعي السياسي وغير السياسي العربي الذي يتيح نجاح تلك الفكرة في بيئتنا ومناخنا الذاتي من خلال توفُّر قابليّتها عندنا، وإنضاج عوامل نجاحها وشروط تأثيرها فينا.

وانغلاقنا على حالنا لن يحلّ مُشكلاتنا مع الآخر، إذ لا يُمكن أن تُواجِه العالَم المفتوح بعقليّة مُغلَقة، ونُظُم فكريّة وعمليّة قديمة.. وإلّا، ستبقى تجترّ التخلُّف، وتعتاش على فتات الآخرين.

وفي عقيدتي لن تقوم للعرب والمسلمين قائمة في الحاضر ولا في المستقبل، ولن يجد التقدّم والتطوّر العِلمي والصناعي طريقاً إليهم، ولنْ يتحسّن مَوقفهم (ومَوقعهم) الوجودي حيالَ التحدّيات الاستراتيجيّة الهائلة التي تواجههم على الدوام، ما لم يبدؤوا من فورهم بنزْع تلك الفكرة من رؤوسهم، والانطلاق بعمليّات إصلاح جذريّة شاملة لأوضاعهم الداخليّة التي وصلتْ إلى درجة عالية جدّاً في سوئها وخطورتها الوجوديّة، وفسْح الطريق واسعاً لخيار التغيير والإصلاح الداخلي الديمقراطي السلمي المَبني على إرادة الناس والمواطنين ووعيهم واختياراتهم الطوعيّة، لا القسريّة.

والحديثُ هنا عن التغيير والثقافة المؤسّساتيّة والتعدّديّة الفكريّة والسياسيّة يندرج تحت إطار اعتبارها آليّة عمليّة لتحقيق المُشارَكة الشعبيّة (المُجتمعيّة العامّة) المسؤولة في حركيّة الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتوفير حريّة القول والتعبير لمصلحة المجتمع والبلاد ككلّ.

ونحن نتصوّرُ أنّه لا يوجد (ولم يوجد في الأساس) أيُّ رد فعل ديني سلبي أو اعتراض (إسلامي أو غير إسلامي) على هذه المضامين الفكريّة والعمليّة التي تتقوَّم بالعقل، وبمنطق خدمة الناس والمجتمع، وهو هنا الأولويّة الكبرى؛ كما لا يحظر أيّ آليّة مناسبة لتحقيقها، ولسنا مُلزمين بحرفيّة تجارب الشعوب الأخرى التي ينبغي أن نستفيد من كلّ ما فيها من رأسمال ومَناهج وأساليب عمل إيجابيّة بما لا يتناقض مع مَفاهيمنا الحضاريّة.

نعم من هنا البداية، أي من الحقوق والعِلم والتنمية.. فلا شرفَ أعظم من العِلم، ولا كرامة أقوى من الحقوق، ولا حقّ أوضح من حقّ الإنسان بالحياة، وحقّه بالتنمية والتطوّر حتّى الوصول إلى غاية الازدهار الحقيقي الفردي والمجتمعي.

Optimized by Optimole