الخيط الرفيع الذي يفصل بين التسوية والتصعيد في قطاع غزة

الخيط الرفيع الذي يفصل بين التسوية والتصعيد في قطاع غزة
Spread the love

بقلم أودي دِكل وكيم لافي – باحثان في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي —

وصلت الدينامية المتكررة في قطاع غزة مرة أُخرى إلى النقطة التي تؤدي إلى مواجهة بين إسرائيل و”حماس”. يمتاز الوضع الأساسي الذي لم يتغير في العقد الأخير بضائقة اقتصادية في البنية التحتية، وضائقة إنسانية مستمرة وخطِرة، تحاول “حماس” الخروج منها بمساعدة أطراف دولية من خلال تحميل إسرائيل المسؤولية. ومع عدم النجاح في تغيير الوضع منذ وقت طويل، تتوجه “حماس” وتنظيمات إرهابية أُخرى في القطاع نحو التصعيد الأمني ضد إسرائيل.
السياسة الإسرائيلية إزاء “حماس” والقطاع

تجد إسرائيل صعوبة في بلورة سياسة ناجعة تتعلق بقطاع غزة منذ سيطرة “حماس” عليه سنة 2007، تواجه إسرائيل ثلاثة احتمالات عملية: إسقاط سلطة “حماس”؛ إضعاف تدريجي لسلطة “حماس” في القطاع والعمل في الوقت عينه على عودة سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع؛ الاعتراف عملياً بسلطة “حماس” على القطاع. اختارت إسرائيل نظرياً وعملياً المزج بين الاحتمالين الثاني والثالث. عندما سعت لإضعاف “حماس” وفي الوقت عينه عندما تعاملت معها بصفتها العنوان المسؤول عمّا يجري في القطاع، اعترفت كأمر واقع بسيادتها وبسلطتها في المنطقة. إن هدف سلوك إسرائيل في العقد الأخير ليس السعي لتسوية واسعة وطويلة الأمد في القطاع، بل لـ”هدوء في مقابل هدوء”، عبر التمسك بسياسة الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية التي تهدف إلى التقليل من التأثير السلبي للواحدة في الأُخرى.
هناك عدد من الاعتبارات التي تؤثر في سياسة إسرائيل:
“حماس” مستعدة مرة تلو الأُخرى لاستيعاب ثمن التصعيد وانعكاساته على سكان القطاع وعلى الحركة نفسها. وهي مستعدة أيضاً لاستيعاب ثمن المواجهة في مقابل رفع، أو على الأقل، التخفيف إلى حد كبير من الحصار (تعتبره إسرائيل إغلاقاً) المفروض على قطاع غزة. وبناء على ذلك، يثبت التوجه الإسرائيلي نحو “حماس” بهدف الدفع قدماً بالتهدئة (مرة أُخرى) فعالية استخدام القوة.
من جولة مواجهة إلى أُخرى ترسخ الاعتراف في إسرائيل بأن سلطة “حماس” هي العنوان الوحيد المسؤول في القطاع. ويزداد هذا الاعتراف رسوخاً على خلفية اليأس من محاولات السلطة الفلسطينية العودة إلى القطاع. بناء على ذلك، أي محاولة تسوية مع “حماس” ستُضعف السلطة الفلسطينية وستُبعد فرص عودتها للسيطرة على القطاع. أكثر من ذلك، يخدم هذا التوجه الموقف الإسرائيلي في الوقت الراهن، لأنه “لا يوجد شريك” في الجانب الفلسطيني قادر على اتخاذ قرارات بشأن تسوية سياسية، وخصوصاً على تنفيذها.
ج- اعتبار إضافي هو أهمية التنسيق الاستراتيجي بين إسرائيل ومصر، الذي تجلى في المساعدة في محاربة العناصر السلفية – الجهادية في سيناء، وأيضاً في الدور المركزي الممنوح لمصر في التوصل إلى تسوية أو وقف إطلاق نار مستمر في قطاع غزة. مصر مستعدة لتقديم حمايتها لاتفاق وقف إطلاق للنار، وفي المقابل تعمل على الدفع قدماً بتسوية داخلية فلسطينية بين غزة ورام الله. ويبدو أنه بخلاف الماضي لا ترى القاهرة حالياً أن المصالحة الفلسطينية تشكل شرطاً ضرورياً لتحسين الوضع في قطاع غزة، وهي مستعدة لتوقيع تفاهمات مع “حماس” والالتفاف على السلطة الفلسطينية. مع ذلك، تدرك مصر أنها بحاجة إلى تدخل السلطة الفلسطينية من أجل تنفيذ مشاريع مدنية في القطاع، لذا فهي تحرص في المقابل على الدفع قدماً بتسوية داخلية فلسطينية. في جميع الأحوال، إن تسوية بين إسرائيل و”حماس” يجري صوغها بوساطة مصرية من دون تدخل السلطة الفلسطينية لها دلالة بالنسبة إلى دور السلطة في نظر إسرائيل في إدارة القطاع في المستقبل.

د- منذ سنة 2014، عملية “الجرف الصامد”، وحكومة إسرائيل لأسباب سياسية وعامة ليست مستعدة أو غير قادرة على التوصل إلى تسوية واسعة مع “حماس”، طالما لم تسترجع المواطنين وجثمانيْ الجنديين الإسرائيليين الذين تحتفظ بهم الحركة.

وبحسب تقارير متعددة بشأن مبادرات التسوية التي تقوم بها مصر وموفد الأمم المتحدة نيكولاي ملادينوف، يبدو أن هناك خطة تبلورت من عدة مراحل تشمل المكونات التالية: تطبيق وقف إطلاق النار، وقف التظاهرات المتوجهة إلى السياج وإطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، في مقابل فتح معبر كرم أبو سالم ورفح أمام دخول واسع للبضائع إلى القطاع، وكذلك زيادة تزويد المنطقة بالكهرباء والوقود والغاز؛ إعادة المواطنين وجثمانيْ الجنديين في مقابل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين؛ تواصل مصر العمل على مصالحة بين السلطة الفلسطينية و”حماس” وتشكيل حكومة وفاق تتحمل مسؤولية الإدارة المدنية للقطاع؛ الدفع قدماً بمشاريع في مجال البنى التحتية لتحسين مستوى الحياة في القطاع، بالإضافة إلى الدفع قدماً بحلول عملية في منطقة سيناءـ مرفأ بحري يخدم الفلسطينيين، إقامة منشآت لتحلية المياه ومحطة توليد للطاقة لتحسين تزويد غزة بالكهرباء. كل ذلك مع إعطاء أذونات عمل لسكان القطاع في هذه المشاريع.
تضع إسرائيل مجموعة شروط للتسوية. أولاً، تطالب إسرائيل بتهدئة أمنية مدة تتراوح بين خمس وعشر سنوات وتستند إلى التزام “حماس” بالمحافظة عليها، بالإضافة إلى وقف جهود التعاظم العسكري للحركة، وإلى تجند مصر لوقف التهريب والتسلل من سيناء إلى منطقة القطاع. ثانياً، تضع إسرائيل ضمن الخطة استعادة المواطنين وجثمانيْ الجنديين. ثالثاً، تطالب إسرائيل بتدخل إقليمي ودولي واسعين في إعادة إعمار القطاع، وفي جمع الموارد المطلوبة لذلك وتشكيل آلية تطبيق دولية لإدارة العمليات الاقتصادية والبنى التحتية ومراقبة وصول الموارد المخصصة إلى أهدافها. ومن المفترض أن تتضمن الآلية جهازاً للتدقيق والرقابة يوضع على المعابر الحدودية البرية والبحرية ويكون مسؤولاً عن مسألة تهريب السلاح والمواد التي تُستخدام بشكل مزدوج (مدني وعسكري) في القطاع. يبدو أن إسرائيل تفهم ضرورة مشاركة السلطة الفلسطينية في هذه الآلية إلى جانب أطراف من دول عربية. وبهذه الطريقة ستكون هناك قيمة إضافية من ناحية فرص إقناع “حماس” بالسماح لعملية إعادة الإعمار وعدم خرق وقف إطلاق النار والتهدئة المستمرة. وتجدر الإشارة إلى أن “حماس” من ناحيتها تعارض وقف تعاظم ذراعها العسكرية وترفض ربط ذلك بالتخفيف من الحصار، أو ربط وقف إطلاق النار بإعادة المدنيين وجثمانيْ الجنديين الإسرائيليين. وفي رأيها فإن تبادل المفقودين بالأسرى الفلسطينيين وفي طليعتهم الذين أُطلق سراحهم في صفقة شاليط واعتقلتهم إسرائيل من جديد، يجب أن يُبحث في مفاوضات منفصلة.
خلاصة وتقدير

حتى الفترة الأخيرة بدا أن “حماس” تواجه مأزقاً لا يسمح لها بتحقيق إنجازات في مواجهة إسرائيل والسلطة الفلسطينية. لكن في هذه الأيام، وفي أعقاب أحداث الأشهر الأخيرة، يبدو أن الاتصالات من أجل التسوية ارتفعت درجة والدليل على ذلك هو التسهيلات الاقتصادية التي اتخذتها إسرائيل ومصر حيال القطاع. فقد سمحت إسرائيل بدخول مواد لاستكمال بناء معمل لتحلية المياه، وتسمح مصر بفتح معبر رفح والبدء بتدفق الغاز للاستخدام المنزلي إلى غزة. بالإضافة إلى ذلك، سمحت إسرائيل ومصر لكبار زعماء “حماس” في الخارج، وبينهم صلاح العاروري، (الذي يُعتبر المخطط لعملية خطف الشبان الإسرائيليين الثلاثة في صيف 2014) بالدخول إلى القطاع، للمشاركة في عمليات اتخاذ القرارات المطلوبة للتسوية.
جولة التصعيد في الأيام الأخيرة لها علاقة بمساعي التسوية: عملياً هي إجراء مفاوضات تحت النار، تظهر فيها “حماس” أنها لا تخاف من تصعيد واسع وليست مستعجلة للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل بأي ثمن.
إسرائيل من جهتها، تواصل التوضيح أنها ليست معنية بالتصعيد، لكنها ليست قادرة على ضبط النفس في مواجهة هجمات “حماس”. انعدام الثقة العميق بين إسرائيل و”حماس”، وعدم وجود آلية للحؤول دون تقديرات خطأ، بالإضافة إلى الحماسة لاستخدام القوة، كل ذلك يقلّص فرص التسوية ويزيد من خطر التصعيد.
في أي حال، المرحلة الأولى هي تحقيق وقف إطلاق النار وتهدئة أمنية. ويفرض الانتقال إلى مراحل التسوية المقبلة إزالة حاجز مرتفع – تنازلاً إسرائيلياً عن شرطها إحراز تقدم بشأن إعادة المواطنين وجثمانيْ الجنديين، وإنشاء آلية لانتقال أموال دولية إلى القطاع من خلال الالتفاف على السلطة الفلسطينية و”حماس”. إذا أصرت إسرائيل على موقفها وأوقفت المرحلة الأولى، أي وقف إطلاق النار في مقابل تخفيف الحصار، من المحتمل أن ترد “حماس” بتصعيد عسكري. في إمكان إسرائيل الاعتماد على إصرار مصر والمجتمع الدولي على الدفع قدماً بإعادة إعمار القطاع والعثور على حل للحواجز القائمة، من دون تدخل السلطة، الأمر الذي سيجبر “حماس” على الاختيار بين عمليات إعادة الإعمار وبين إفشالها، إذا تجدد التصعيد. نجاح “حماس” في قطف الإنجازات المطلوبة سيقوي مكانتها في الساحة الفلسطينية، وسيرسخ سيادتها على القطاع، وسيُضعف حكم السلطة الفلسطينية، ويعمق الانفصال بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و”حماس” في قطاع غزة، وسيُنشىء قواعد لعبة جديدة في الساحة الفلسطينية.
لكن إنجازات “حماس” هذه لا تتطابق مع سياسة إسرائيل ومصالح سائر اللاعبين المتورطين في محاولة الدفع قدماً بمصالحة داخلية وباستمرار النظام في الساحة الإسرائيلية – الفلسطينية. لهذا السبب، من الصعب الاعتقاد أن “حماس” ستنجح في تحقيق هذه الإنجازات من دون تقديم التنازلات المركزية المطلوبة منها: إعادة الأسيرين وجثمانيْ الجنديين الموجودين لديها، وقبول شروط عباس للمصالحة المتعلقة بالقطاع، بالإضافة إلى إقامة آلية تصادر من “حماس” حرية قرار استخدام القوة، وأيضاً إقامة آلية تمنع استمرار تعاظمها العسكري.

المصدر: مجلة “مباط عال” الإسرائيلية، العدد 1084، 9/8/2018، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole