الحداثة المهزومة.. عربيّاً

الحداثة المهزومة.. عربيّاً
Spread the love

ماجـد صالح الســــامرائي _ كاتب وناقد عراقي/

بدايةً لا بدّ من أن نضع مفهوم الحداثة ضمن بُعدٍ واضح، ومحدَّد، ليكون ما نعنيه بهزيمتها التي ألحقها بها الواقع العربي – بفعل ما مرّ به من حالات انتكاسيّة- أمراً واضحاً. فهي تعني، في أخصّ ما تعنيه، كلّ ما يرتبط بإرادة التغيير الجذريّ عند الإنسان بهدف تحويل الواقع، وتغيير توجّهات الإنسان فيه، فكراً وإرادة، إلى عناصر/ عوامل بناء لعالَمٍ جديد. فأن تكون حداثيّاً يعني أن تعيش واقعكَ وتَبنيه برؤيةٍ مستقبليّة تجعل من حركتِه حركةَ وجودٍ في عالَمٍ يخصّنا نحن.

وإذْ يجري ربْط الحداثة بمفهومها/ بُعدها هذا بالثورة، بُعداً وواقعاً اجتماعيّاً، بما لكلٍّ من الحداثة والثورة من أبعاد تتمثّل بجذريّة التغيير، وروح المُغامَرة الهادِفة، فإنّها تكون “حالة عضويّة”، وليست “عدميّة” (بحسب رؤية التقليديّين الذين يعيشون الحاضر ويَنظرون إلى المستقبل بحسٍّ ماضوي).

وإذا كان الواقع العربي الحديث قد شهد أُولى انتكاساته الحضاريّة بفشلِ تجربة الوحدة بين مصر وسورية (1961)، فإنّ حرب حزيران (يونيو) 1967 سجّلتْ هزيمة الواقع العربي الفعليّة، وانتكاسة الفكر القومي التقدّمي، على الرّغم من محاولات النهوض التي أعقبت ذلك، وأخصّها تجربة المُقاوَمة الفلسطينيّة التي، وإنْ بدت “حالة ثوريّة”، لم تكُن أكثر من “عرض شكلي” كان الهدف منه، والغاية، تدارُك الواقع العربي من حالة الانهيار الشامل التي تعرَّض لها إثر الهزيمة الحزيرانيّة. ولم تكُن، في كلّ ما كان لها من تصاعُدٍ إعلامي، أكثر من “تأجيلٍ زمني” لهذا الانهيار الذي وقع.

وجاء قيام “حكومة دينيّة على أساسٍ مذهبيّ” في إيران 1979، “ثمّ الحرب العراقيّة – الإيرانيّة” (1980-1988)، ثمّ “الاجتياح العراقي للكويت” (1990)، و”الحرب الدوليّة” التي شُنّتْ على العراق في أعقاب ذلك لإخراجه من الكويت (1991)، وما نتج عن هذه الحرب من انهيارٍ للواقعَين العسكري والاقتصادي في العراق بفعل الحصار وما اُلحقَ به من “عقوبات دوليّة” (1990- 2003)، ثمّ، وأخيراً، الحرب الاجتياحيّة الأميركيّة على العراق (2003)، وإنهاء كلّ ما تبقّى من نُظمٍ للحياة فيه (اقتصاديّة وسياسيّة، وعسكريّة، وثقافيّة، وعِلميّة)… هذا كلّه اجتمعت محصّلته في وضعٍ تجاوَز “حدوده القطريّة” ليكون عربيّاً في بُعدَين: ظاهر، وخفيّ. وتمثّل، واقعاً، في حالات انهيارٍ يوميّ يعيش تحت ضرب مطرقتَين: المطرقة الاستعماريّة – الكولونياليّة التي عطَّلت حركة المُجتمع بأبعادها الاقتصاديّة والثقافيّة والحضاريّة…إلخ، ومطرقة التكوينات الدينيّة – المذهبيّة التي حقَّقت هزيمة العقل العِلمي – المَعرفي وانهياره، وألحقتْ مُجتمعات معظم الدول العربيّة بأنماطٍ من التفكير انطوت على تمثيلٍ واضح لانهيار العقل، وألحقتْ مُجتمعات هذه الدول بأنماطٍ من التفكير مثّلَتْ تراجُع العقل على كلّ المستويات، فضلاً عمّا حصل من عمليّات انهيار، دائم ومُتواصل، للبنى العِلميّة، وانحرافٍ بتفكير الإنسان العربي من كونه تفكيراً بالحاضر والمستقبل، إلى حالة “ارتكاس ماضوي”، و”تفكير بالغيب”، واستجابة لـ”فرضيّاته الوهميّة”، ما جعلَ المجتمع العربي يعيش حالات أقرب ما تكون الى “الحالة القطيعيّة”، مُشيعين القول إنّ هذا التوجّه هو الكفيل بحماية مُستقبلنا ـ وأيّ مستقبل!

هنا أضحينا نعيش حالة غياب تاريخي عن كلٍّ من الحاضر والمستقبل، وغدا التعلّق بالماضي هو “الحالة البديل” بحُكم ما يحمله ذلك الماضي إلينا من “أوهام” جرى انزالها منزلة اليقين. وهنا، ثانيةً أصبحت الحداثة، وكلّ ما يمتُّ إليها وينبثق عنها من أُصول، “صيغة نظريّة” بحتة ليس لها من بُعد في محيط الواقع المعيش. فإذا ما كَتبنا فيها كنّا كمَن يَكتب في “حالة نظريّة مجرّدة”.. وإذا ما قرأناها نكون كمَن يقرأ “تاريخاً مهزوماً”. ولا غرابة في الأمر، فنحن اليوم لا ننتج “فكراً حديثاً” بقدر ما نُنتج “فكراً سَلَفياً”، “مذهبيّ التوجّهات”، كلّ ما يحقّقه هو “إعاقة التقدّم”.

وأمام هذا، وفي مُواجهته (على افتراض المُواجَهة)، ماذا نجد؟ نجد “زمن الإيديولوجيّات الثوريّة” قد انتهى وأغلق الواقع الأبواب دونه.

بين تنويريّة الماضي ومذهبيّة اليَوم

قبل هذا الحاضر المُعتم بظلامه بعقودٍ من السنين، كان طه حسين قد وَجد في أُستاذه الشيخ محمّد عبده حالةَ تنويرٍ حقيقيّة، فدعا عصره إلى الأخذ بها ليكون عصراً جديداً وجديراً بإنسانه الجديد. غير أنّ “مَذهبيّي اليوم” يرون في الاثنَين، طه وشيخه، “سبيل ضلالة”: فضلالة ذاك بما رأى، وضلالة هذا بدعوته المُتجدّدة للتنوير، التي على أساسها رأى أنّ انبناء المستقبل، كما يراه ويريده، يستدعي تحديثاً فعليّاً ـ وقد عُدَّ، في حينه، “تحديثاً” يشمل العقل والواقع. فقد انفتح الشيخ على المستقبل بذاته في ما اجتمع لهذه الذّات من تراثٍ حيّ وتاريخ له بُعده الحضاري. وأمّا تلميذه طه حسين، فإنّ انفتاحه على المستقبل جاء من خلال ذاته، مُعزِّزاً انفتاح هذه الذّات بما أُتيح له تحصيله من ثقافة أوروبيّة وجد فيها التمثيل الحقيقي للحداثة، واقعاً وجوهرأ.. هذا فضلاً عن أنّه المثقّف العربي الذي مهَّد الطريق للفكر المادّي في الثقافة العربيّة الحديثة وقد تشكّلت بداياتها من تأثيرات الآراء والأفكار الإصلاحيّة التي جاوزَ بها البعض “تقليديّة الأزهر” ـ وهذا ما جعله يصف أُستاذه الشيخ بالمُحِبّ للحريّة العقليّة.

وإلى جانب طه حسين برزت أسماء أُخرى عربيّة عملت على تغليب العقل والعقلاني على الوهم والغيبي، آخذين مُعطياتهم الفكريّة بشرطٍ تاريخي جديد من قِبلهم، عماده: ما رأوا، وما وضعوا لكِتاباتهم من سياقات تاريخيّة جديدة نظروا إلى الأمّة من خلالها ـ وقد حرصوا على أن يجعلوها مُتحرِّرة الذّات والإرادة من كلّ تبعيّة وتخلُّف.

في عَولَمةٍ ثقافيّةٍ تلغي التاريخ

يتزامن هذا الواقع اليوم مع “العَولمة الثقافيّة” التي تلغي كلّ زمن تاريخي، وتعتمد ما تستحضره من “وعيٍ زائف” بقصد “تزييف الوعي”. فهي تمثِّل الخطوة الأولى خارج ما عَرفت الإنسانيّة من تاريخ. إنّها “لحظة حاضرة” تُنجز نفسها بنفسها، وتأخذ المستقبل بما يستجدّ فيه من “فوضى منظّمة”، وليس بما يجري التخطيط له، وتعمل على تحقيق المُستقبل من واقعٍ لا صورة واضحة الأبعاد له…

وعلى هذا، فهي “وجه مضيء” بالنسبة إلى الدول الإمبرياليّة، و”وجه مُظلِم” لواقع ما أسميناها بـ”الدول النامية”، أو تلك التي تسعى إلى الحريّة بروحٍ ابداعيّة جديدة. وهي، من قبل ومن بعد، تُمثِّل “الهَيمَنة الشموليّة”، لا حالة النموّ والارتقاء، كما يقدّمها بذلك أنصارها. وأمّا من حيث “التحديث”، فالعَولمة قائمة عل جانبٍ مادّي لا علاقة له بـ”التحديث الفكري” إلّا بما تفرض عليه هذه العَولمة من هَيمَنة تَحكم توجّهاته، وتوجهِّها لخدمتها.

جغرافيّاً، العَولمة تزيل الحواجز، بريّة كانت أم مائيّة، وتلغي “العوائق الموضوعيّة”، وتفتح مَسارات تخدع بأضوائها الماشين عليها بحُكم الانسياب، وليس بحسابات الحاضر والمستقبل. وهي، في هذا، تمثِّل “خدعة حداثيّة”، فهي خُلُوٌّ من الثوابت الثقافيّة والحضاريّة التي تبني وجوداً حداثيّاً بكيان.

وأخطر ما تقوم به “العَولَمة الثقافيّة”، وتؤدّيه من دَور، هو: فصل الواقع الذي ينصبّ عملها فيه عن سياقاته التاريخيّة. وأمّا واقعاً، فتتمثّل بوجهَين مُتلازمَين: وجهٌ رأسمالي يُحرِّك الحياة حركة اقتصاديّة قائمة على اختلال التوازن بين الشعوب والأُمم يُمهِّد لهَيمنةِ الدول الكبرى، ووجهٌ استهلاكيّ يقوم على/ وبتنمية حركة الرأسمال الفردي الذي لا يخدم “واقعاً جَمعيّاً”.

وأمّا الحياة الفرديّة، والمُجتمعيّة، في الواقع العَولمي، فحياة بلا أسئلة، سواء ما كان منها “أسئلة بحث” عن وضعٍ تاريخي جديد، أم “أسئلة ثقافة” تكون مُتّكأً للحضور الإبداعي الفردي.

العَولمة في مجتمعاتنا العربيّة تمثّل حالة فوضى وتوقُّف عن النموّ. فهناك “تدفُّق سِلعي”، وهناك “تجاذُبات اختيار” من قِبَلِ “الأفراد – الضحايا”، هذا فضلاً عمّا تخلق من “إخفاقٍ تنويري”. ولعلّ أقرب تعيين للبُعد الثقافي للعَولَمة هو ما كانت بعض “الحركات الثوريّة العربيّة” قد اصطلحت عليه تسمية “الثقافة الجماهيريّة”ـ وإن كانت تلك “الحركات” لا تُشاطِر “العَولَمةَ الثقافيّةَ” توجّهاتِها هذه وما قدَّمت فيها من “أُطروحاتٍ تبسيطيّة”.

هذا فضلاً عن أنّ “ثقافة العَولَمة” لا تؤسِّس لِما يُدعى “تاريخاً ثقافيّاً”، ولا يولَد منها “تاريخ ثقافي”؛ فهي ليست أكثر من “ظاهرة” تعيش غيابَين، هُما عماد كلّ ثقافة حقيقيّة: غياب الهويّة، وغياب التاريخ. بل هي لا تعدو كونها “حالة استهلاكيّة” تعتمد تغييب كلّ “علاقة موضوعيّة” بين الإنسان والعالَم.

لسنا وحدنا، بعض العرب، مَن يُواجِه العَولمة في بُعدها المُنحَلّ هذا، فهناك “مُجتمعات إنسانيّة” في العالَم المُعاصِر رأت/ وترى في “العَولَمة الثقافيّة” تفكيكاً لِما للأُمّة- أيّ أُمّة حضاريّة التكوين- ممّا هو “عقل تاريخي”.

وفي السياق ذاته من الرؤية والنظر، ينبغي ألّا نغفل الإشارة إلى ما يُمكن تسميته بـ”المثقّف المُندفع” الذي يأخذ نفسَه ومَسارَه الثقافي بالعَولمة كونها تُمثّل عنده واقعاً قائماً على ما يرى فيه “أفكاراً كبرى”، وهي ليست أكثر من وَهْم.

وهنا، تعيش “أسئلة الثقافة”، كما “أسئلة المثقّف”، غياباً أو تغييباً من مَجالها الحقيقي المُنتِج لثقافة عربيّة جديدة.

مؤسسة الفكر العربي

Optimized by Optimole