الإصلاح الديني العربي … المفكر والفقيه

الإصلاح الديني العربي … المفكر والفقيه
Spread the love

بقلم: صلاح سالم — ربما كان الإصلاح الديني قادراً على مواجهة أصولي تقليدي، منطو على ذاته، من خلال عملية إعادة درس هادئة للنص التراثي، ولمخزون الفتاوى التاريخي، ولكنه لم يعد قادراً على مواجهة أصولي عنيف، خرج على التقليد الإسلامي فى متنه الرئيس الذى لم يدع أبداً محورية الدولة فى الدين، ولم يقل قط بالخروج على الحاكم سواء الشرعي وفق البيعة، أو حتى المتسلط بقوة الأمر الواقع، مهما كان مستبداً أو فاسداً، لأن في الخروج إراقة للدماء وتوليداً لمفاسد، يبقى درؤها مقدماً على جلب المصالح، ولم يشذ عن ذلك في التقليد السني الواسع سوى المحكّمة الذين استمروا هامشاً احتجاجياً على متن تقليد سائد، ولا في التقليد الشيعي سوى أنصار ولاية الفقيه في إيران… انه أصولي لا يعبأ أصلاً بالنص التراثي، إلا على سبيل التحريف البين، ولا يكترث بمخزون الفتاوى التقليدي الذى صار قادراً على إصدار ما يعطله ويزايد عليه بعد أن أحكم قبضته على الشعور الديني العام فى البيئات الموالية له، وذلك على حساب مؤسسات الفتوى الرسمية.
هذا الواقع، حيث الأصولي رجل ذو مشروع مستقبلي للهيمنة وإن بسلطة المفاهيم التراثية المحرفة، إنما يفرض رد فعل مختلفاً على التحدي الذى يمثله، قادراً على موازنة الفعل الأساسي، من قبيل التنوير الروحي لا المادي، كونه الطريق الضروري لإحداث تغيير كيفي فى العقل العربي، يصبح معه هذا العقل قادراً على مواكبة ضرورات العيش المتمدين والنهوض الحضاري، من دون معاداة للدين. أما الإصرار على إصلاح تدريجي للتقليد الديني، يهادن النص التراثي أو يستعطفه، فى وقت انفجر فيه هذا التقليد نفسه بالتطرف، وانحرف عن مساره التاريخى نحو الإرهاب، فينطوي على تعجيز للحداثة، وإهدار لطاقة المجتمعات الحاضنة لها أو الساعية إليها، وكأننا فى عراك تحمل فيه هذه المجتمعات مطواة صغيرة فيما الأصولي مسلح بالكلاشنيكوف.
وفى مقابل الإصلاح، الذى يظل مشروعاً رهيناً للمؤسسة الدينية، يبدو لنا التنوير مشروعاً للدولة والمجتمع بكل الفاعلين فيهما، إذ يتطلب إعادة بناء نظام التعليم العام والثقافة العامة ناهيك عن الفضاء السياسي كله، باتجاه تحقيق أمرين أساسيين:
الأمر الأول هو العقلانية، عبر فض الإشتباك التاريخي القائم بين المفكر والفقيه. فمنذ هزم المشروع الإصلاحي للإمام محمد عبده، تشقق الفكر العربي إلى طريقين لم يلتقيا قط في شخص واحد كما التقيا فى شخصه. فثمة مفكرون حداثيون أخلصوا للعقل، ولكنهم ظلوا غرباء عن روحانية الإيمان، وإن لم تكن لديهم جرأة الإفصاح عن تصوراتهم الصادمة لعموم الناس، كما فعل نظراؤهم فى التاريخ الأوروبي، الذين أطلقوا جدلاً عميقاً حول مفهوم الحقيقة وحدودها، انتهى في الأخير إلى بناء توافقات جديدة حولها، ونقاط ارتكاز صلبة للعلاقة بين العقل والإيمان فى سياقها. بل أخذوا، على العكس، موقفاً مهادناً، غطى على التناقض القائم بينهم والثقافة السائدة / المحافظة، على نحو جعله تناقضاً سكونياً، غير منتج، وعطّل الجهد الفكري الضروري، المطلوب بذله لبناء توافق جديد (جدلي) يدور حول الموقف الثالث الإبداعي. وهكذا انتهت معظم دعوات المفكرين الحداثيين العرب إلى لا شيء. والمفارقة أن البعض القليل من بينهم، الذى خرج على تلك القاعدة وذلك المنوال، فصرح بمواقف جديدة حقاً، أو صادمة نوعاً، لم يستمر في طريقه إلا نادراً، فانتهى الأمر به فى أخريات العمر إلى الانقلاب على الذات، والتراجع عن أفكاره الثورية، تصالحاً مع المألوف والسائد فى تيار الثقافة المحافظة. هذه التراجعات ليست موضع إدانه بذاتها، ففي العودة إلى حق ظاهر، ولو بعد وقت، شجاعة لا تنال من صاحبها، ولكن ما قصدناه هنا أن غياب استراتيجية واضحة لدى المفكر، ووقوعه فى أسر ازدواجية ساكنة مغتربة جوهرياً عن روحانية الإسلام العميقة، وعاجزة نفسياً عن المجاهرة برفضها أو تقديم البديل المقنع لها، والدفاع الجسور عنه، قد استنفد عمر هذا المفكر أو ذاك فى غير المعركة المقصودة، وهي ترقية ثقافة الأمة، وتحريرها من الوقوع فى براثن الثنائيات المتناقضة التى دفعت بها نحو الركود، وعطّلت مسيرتها نحو الهدف المنشود ممثلاً في بناء (عقلانية مؤمنة) جامعة للأصالة والحداثة معاً فىي مزيج طبيعي، حيث العقل مركزياً، والنص (القرآني) حاضراً في مركز الفعل العقلي، معلماً لا قيداً، ملهماً لا معطلاً.
وفي المقابل ثمة فقهاء دينيون، أخلصوا للإيمان، ولكن لم يبلغوا من العقلانية قدراً يكفي لفتح أفق النص الديني على التاريخ الإنساني، ومنحه القدرة على المواكبة والتجاوز. ومثلما عجز المفكرون الحداثيون عن إظهار تناقضهم مع روحانية الإسلام، عجز الفقهاء الدينيون، عن التصريح بعجزهم عن مواكبة العقل، ومسايرة حركة التاريخ، بما تفرضه من تحولات عاصفة في المناهج والرؤى. لم يتوقف هؤلاء أبداً عن إعلان تأكيدهم عقلانية الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وعن القول بضرورة التجديد على نحو يمكّن الفكر الإسلامي من استيعاب حركة العصر، بل وذهب بعضهم إلى تجذير كل النظريات العلمية الحديثة فى آيات القرآن الكريم، نفاقاً للعقل، ومزايدة على العقلانيين. ولكن تمضي السنون والعقود، حتى نكاد نحسبها بالقرون، والحال كما هو الحال… رحل جميع المنادين بالتجديد من دون تجديد، حتى أن القضايا التى شغلت عقولنا وملأت فضاء فكرنا عند نهاية القرن التاسع عشر من قبيل النهضة والإصلاح والهوية والقومية والديموقراطية والحداثة والعلاقة مع الآخر، قد استمرت هي نفسها عند نهاية القرن العشرين، بل إنها ازدادت تعقيداً وإشكالية في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ انتقلت بين أطوار ثلاث من السلفيات المحافظة، إلى السلفيات الحركية، حتى أخذت تتمرغ فى الإرهاب العدمي. فإذا ما حاول مفكر حداثي، ذو عقل شجاع، التعاطي الجدي مع النص التراثي، خرج عليه من بينهم من يقطع طريقه ويخنق مشروعه، وهو ما تحقق مع كثيرين، لعل أبرزهم زكي نجيب محمود، وآخرهم نصر حامد أبو زيد، بينما يمثل علي عبد الرازق وطه حسين نموذجين فذين لفقيهين أزهريين حاولا أن يُعملا العقل، فكان جزاؤهم الطرد من الفضاء الأزهري.
والمشكلة الأكبر هنا أن الفقيه، العاجز جوهرياً عن إعمال العقل في النص، يبقى قادراً دوماً على هزيمة المفكر الحداثي، وتنحيته بعيداً عن تلك المهمة فى كل مرة وقع الاختلاف بينهما، ليس لأنه الأكثر جدارة منه، بل لكونه يتمركز في قلب نظامَي: التعليم الديني، والفتوى، تنظر إليه الجماهير باعتباره صاحب السلطة المرجعية التي يُقيِّم بمعيارها المفكر الحداثي، فكأنه هنا الخصم والحكم. وهكذا يحتكر الفقيه عملية التجديد من طريق صوغ قواعدها الحاكمة، وضبط مآلاتها النهائية، وتحديد ما إذا كانت تسير في الاتجاه الصحيح أم أنها قد ضلت الطريق؟. وبالقطع لن تبلغ طريقها القويم إلا معه، أما المفكر الحداثي، فدائماً ما يهدد نقاء الدين. وهنا يكفي الفقيه أن يعلن ذلك للجماهير الغفيرة، التي تتكفل، ربما مع السلطة أو دونها، بالتنكيل به، على رغم أن دوافعه الأساسية تتمثل فى شعوره بالمسؤولية عن تحريرها من قيود العقل الخرافي، والاستبداد السياسي، فيما يتمتع الفقيه، أحياناً، بحماية هذا الاستبداد، مقابل التكريس له دينياً، ولكن الجماهير غير قادرة على اكتشاف ذلك بنفسها، ولا على تصديق المفكر إذا ما أعلنه أمامها، ومن ثم فقد انتصرت للفقيه مراراً، ودانت المفكر تكراراً.
والأمر الثاني هو الحرية، عبر فض الاشتباك بين الدولة والمجتمع. فالدولة لن تكون قادرة على تحقيق نجاح يذكر في مسعاها إلى التنوير إلا إذا دفعت ثمناً له من سلطويتها، يتمثل في كبح جماح تغولها على مجتمعها، والسماح بنمو مراكز قوته الفكرية والأخلاقية والسياسية خارج أسوارها هي، فعندئذ تتحول من مركز تقييد لحركته إلى بؤرة إلهام لمسيرته. وضمن هذه العملية التاريخية يتعين عليها رعاية المفكر وفتح الباب أمامه لطرح أفكاره حول: الدنيا، العقل، العلم، الحرية، التنمية، التقدم، النهضة، وغير ذلك من مفاهيم حديثة. فإذا ما استجابت له الجماهير، استنارت عقولها، وراكمت قدراتها الذاتية على النقد المعرفي، والتذوق الجمالي، الأدبي والفني، الأمر الذى يفرض على الدولة موقفاً رعوياً من المفكر، من دونه لن يستطع تقديم وصفته الجديدة إلى الجماهير الواسعة، فهو لا يخطب فى مسجد يلقنهم من على منبره تعاليمه الأبوية، ولا يملك عيادة طبية يعالج فيها أمراضهم المتفشية ويبث منها أفكاره الإنغلاقية، ولا يأتيه مال من حركات ودول يمكن توظيفه في شراء انتماءاتهم. فالمفكر التنويري، الموثوق في إخلاصه للوطن والحقيقة، غالباً ما يقضي عمره في فهم التجربة الإنسانية، لا يسعى إلى السلطة ولا يجتهد في نسج علاقات عامة مع مسؤولين، كما يأبى تقديم خدمات ديلفرى إلى رجال أعمال فضائيين. ولذا يتعين على الدولة أن تسعى إليه، أن تطلب دوره فى تنوير مواطنيها، وتمنحه القنوات التي تضمن له التواصل معهم، والأهم من ذلك، أن تفتح له عقلها وقلبها، أن تتقبل نقده العنيف لها، فهو إذ يبكيها يبكي معها، ويبكي الناس لأجلها، ولعل ذلك خيراً لها من البهلوانات المستعدين دوماً لإضحاكها، وإضحاك الدنيا عليها. ولعل الأمر المؤكد في هذا السياق أن نجاح المهمة التنويرية، يعني نجاح مهمة الإصلاح الديني فى الوقت نفسه، لأن الشخص المستنير، الذي اعتاد إعمال العقل، لن يخضع أبداً لسلطة فقهاء تقليديين يكادون أن يعبدوا السلف وتراثهم، ناهيك عن الخضوع لمتطرفين دينيين يكادون أن يفتكوا بالنص ويدمروا واقعهم، فالشخص المستنير هو مواطن جديد تماماً، ودع طفولته العقلية وسذاجته السياسية، وانطلق خارجاً من الكهف، محلقاً نحو الآفاق الرحيبة للحياة الإنسانية.

المصدر: صحيفة الحياة

Optimized by Optimole