أمين التراث ونخلة الشعر

أمين التراث ونخلة الشعر
Spread the love

أحمد فرحات _ مؤسّسة الفكر العربي/

هو أمين تراث العروبة الثقافيّة، ونخلة الشعر والنثر الأدبيّ في لبنان وعلى امتداد بلاد العرب. استقى معينه الإبداعيّ من تراثه القوميّ متجسِّداً بأقنومَي: القصيدة، كما تجلّت بها خمائر تجارب كلٍّ من: امرىء القيس والنابغة الذبياني ولبيد بن ربيعة العامري.. ومن ثمّ المتنبّي والبحتري وأبي تمّام وديك الجنّ الحمصي. وأقنوم النصّ النثريّ التراثيّ، كما عرفناه بخطابه البهيّ الحيّ مع الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي وأبي علي القالي وابن المقفّع وعبد الحميد الكاتِب وصولاً إلى أحمد فارس الشدياق، وجبران خليل جبران ومارون عبّود وميخائيل نعيمة، وكان من كثرة تعلّقه بشخصيّة الجاحظ وكُتبه، يظلّ يُردّد جملةً للسيّوطي في “الطبقات”: “رضيت في الجنّة بكُتب الجاحظ عوضاً عن نعيمها”.

ومع هذا، لم يكُن الشاعر والناثر اللّبناني الكبير أمين نخلة (1901 – 1976) مُقلِّداً لأيٍّ من هذه الأسماء الشعريّة والأدبيّة التي ذكرناها، وإن كان قد قرأ نِتاجها الإبداعي في الصميم، وقلَّبه عن ظهر قلب، هضماً واستيعاباً وصهراً عميقاً، ولكنّه الصهر الذي يظلّ بالغ الفرادة والتفرّد، حتّى أنّ صاحبه، ومع الأيّام، انشقّ عن صوتٍ أدبي مُستقلٍّ بصفائه وخصائص لَمعانه الإبداعي في خارطة الأدب العربي الحديث؛ ما جعل البعض يُطلِق عليه لقب “جوهرجي القصيدة العربيّة الحديثة”. وبالفعل كان أمين نخلة بمثابة البوّابة الأولى للحداثة الشعريّة العربيّة، التي انفجرت مَعالمها قويّة مُبرّزة في أواخر الأربعينيّات من القرن الفائت. ساعده في ذلك اطّلاعه المبكّر على الخزين الشعري الفرنسي، مُمثَّلاً بتجربة بودلير، رائد الرمزيّة في الشعر الفرنسي وأحد مؤسّسي الحداثة الشعريّة الأوروبيّة والعالَميّة في منتصف القرن التاسع عشر، ومعه بالطبع تجارب نفر من كِبار الشعراء البرناسيّين الفرنسيّين من أصحاب نظريّة الفنّ للفنّ أمثال: “تيوفيل غوتيه” و”شارل دي ليل” و”جوزيه ماريا دي هيريديا” و”فرنسوا كوبيه” و”موريس مينار”. اهتضم أمين نخلة تجاربهم، وبقي في حِيدة عنهم وعن المَدارس الأدبيّة في عصره عموماً، تلك التي اشتعلت مَعاركها واصطفّ في بعض جبهاتها شعراء لبنانيّون وعربٌ كِبار، منهم الياس أبو شبكة المحسوب على الاتّجاه الرومانسي، وسعيد عقل المحسوب على الاتّجاه الرمزي، ومثله أيضاً الشاعر أديب مظهر المعلوف؛ وظلّ أمين نخلة نسيج صوته الغنائي الخصوصي، يميل إلى تراثه العربي الثرّ بالإبداعات الشعريّة والنثريّة من دون أن يُحدِث أيّ قطيعة مع المُستجدّات الشعريّة والأدبيّة والنقديّة في فرنسا والغرب عموماً.. وهكذا ظلّ حريصاً على أن يكون في مشهد مَدارات الآخرين وخارج هذا المشهد في الوقت نفسه، شاهراً مَداره الخصوصي على الجميع بقوّة حضور وملاءةٍ إبداعيّةٍ قارّة.

ويُفلسِف أمين نخلة مَيله إلى القديم والجديد معاً في الشعر قائلاً في كِتابه: “ذات العماد”: “إنّ في قضيّة الشعر، لا دخل لتقدّم الزمن وتأخّره؛ فلا قديم في الإجادة ولا جديد، بل المَدار على الإتيان بالجيّد، وما عدا ذلك هو كلام لا طائل تحته، إذ إنّه في كلّ زمن لا يبرح الجيّد جديداً والساقط ساقطاً.

يهتمّ صاحب “المفكّرة الريفيّة” باللّفظة ويتخيَّر مَوقعها من الشطر الشعري، وكذلك من العبارة في سياقها الأدائي السردي. ويأخذ على جيله من الشعراء والأدباء عدم التضلُّع من اللّغة والوقوف على أسرارها ونبض مداليلها. يقول في كِتابه: “في الهواء الطلق”: “كان الجيل الماضي في الشعر العربي أكثر عناية منّا بأساليب الفصاحة. كان واحدهم، ربّما قضى ليلته في التفتيش عن لفظة تؤدّي معنى يريده، لم تؤدّه أختٌ لها جاءته أول ما تمثّل المعنى في خاطره”.

عدا كِتاباته في الأدب، شِعراً ونثراً، كتبَ أمين نخلة في النقد واللّغة والقانون والتاريخ والتراجِم، وقد تميَّز بها جميعاً، كون الرجل كان جديّاً ودقيقاً في كلّ ما كان يكتبه ويصدر عنه. لكنّ الشعر والأدب هُما ما طبَعَا شخصه كشاعِر وككاتِب وبوّآه المَكانة التي يستحقّ في دنيا الإبداع العربي المُعاصر، حتّى صنَّفه البعض بالشاعر العربي الوحيد الذي حاولَ جرّ شعر التراث العربي من مَواقعه وتقديمه بصورة حديثة ومتجدّدة. واعتُبر كِتابه “المفكّرة الريفيّة”، في هذا الإطار، قمّة الصنيع النثري الأدبي العربي الجديد وآية من آيات فنّ السرد البوحي المُتجاوَز. قال الشاعر العراقي الكبير محمّد مهدي الجواهري في “المفكّرة الريفيّة”: “كِتاب “المفكّرة الريفيّة”، هو بحقّ فتحٌ في عالَم الفنّ والأدب، لم نجد نظيراً له في أسلوبه، ولا في خياله المحلِّق، ولا في ما تخلَّل فصوله من روعة الحبّ والحياة والطبيعة”. وسمّى الأديب اللّبناني ألبير أديب “المفكّرة الريفيّة” بـ”الإنجيل الأدبي النخلي”. واختزلَ أبو سلمى الشاعر الفلسطيني المعروف شخصَ أمين نخلة وأدبَه بالقول للشاعر نخلة: “أنت تطلّع على الأفئدة بنظرة، وتفتح آفاقاً بكلمة، وتخلق دُنياوات بجملة”. وتساءَل أمير البيان العربي الأمير شكيب أرسلان إزاء “المفكّرة الريفيّة”: “أهذا نثرٌ في هذه “المفكّرة” أم أنّه شعرٌ لا تعوزه إلّا القافية؟”.

وبالفعل إنّ الشعريّة سِمة مُلازِمة لنصوص أمين نخلة النثريّة، بل أكثر من ذلك، إنّ البعض يَعتبر شعريّة الرجل، إنّما تكمن في نصوصه النثريّة وأكثر بكثير من نصوصه الوزنيّة. وفي هذا، ولا شكّ، بعض مُبالَغة وتجاوُز نقديّ لا يجوز التسليم به، اللّهم إلّا للإشارة إلى الحساسيّة الفائقة التي يَكتب بها الرجل، وإلى سحر عبارته الأنيقة المُتفرِّدة والمضبّبة فعلاً بهالات الشعريّة. فلنقرأ له هذا المقطع المُقتطَف من كِتابه “المفكّرة الريفيّة”:

“كنتُ أسألهم ألّا يوقدوا المصباح في وجه اللّيل، بل ندع العتمة تتساقط على مهل وتتلبّد، حتّى إذا غَمَرَ السواد الجهات، غرق عبث الحياة في اللّيل، وسلم الأمر، هل مطلبي من الحياة غير هذا؟. ثمّ أُشرف من النافذة، فإذا المدينة قطعة واحدة في جوف اللّيل… فلستُ أرى ما يتعالى في المشهد الأسود المُنطرِح إلّا ذؤابات الأبنية تشمخ، وكأنّ بعضها في رأي العَين يمشي إلى بعض، فتتلاقى وتتساند بعد البياض الفاني والعبث المولي.

وهذا قمر اللّيل يقهقه بلا صوت. ولقد جنح إلى المُنحدر الآخر كأنّما ينزلق من هنالك، فتدفّق الفضّة دفقاً، غير العهد بها في مقاطر الصحو الأزرق حين تنقط ولا تبلّ الأرض”.

المرأة في شعره

تحتلّ المرأة في شعر أمين نخلة مَوقعاً مركزيّاً بالغ الدلالة، لكنّه يظل يتعامل معها كمَشهد جمالي خارجي يبرع في وصفه، زينةً وأناقةً وترفاً وجاذبيّة انتقاءات، طبعاً مع إكسسوارات “العقد الطويل” و”الثوب الأخضر” و”القميص الأزرق” و”المناديل”. وهو في حبّه للأنثى، لا يتجاوز الحواس إلى ما بعدها من شهوة وماديّات واسترسال غرائز على عواهنها. وفي خطابه الغزلي إجمالاً، لا يشقى شاعرنا ولا يتلوّع ولا يتذلّل، بل يهبط هبوط الندى على الأوراق ويحطّ حطّ الفراشات على الزهر.. ومن شعره نختار هذه القصيدة بعنوان “المناديل”:

مناديل أهل الحب في لوعة النّوى

فدى لطفها كلّ الأطالس والورد

أمينة أسرار العيون، فإنّها

تُكفكف دمْع البين والشوق والفقد

أُلامسها: خفِّف من اللّمس واتئد

ففي طيّها أشواق خدّ إلى خدّ

وإن كان في تلك الدموع وحيدة

لفرحة عَين فهي في غربة المَهد

من الأثر الباقي لها في مكانه

يُشم زمان الوصل أو فرحة الوعد

ومن غزله في أظافر المرأة نقتطف:

يا سلّم الله أظفاراً منعمّة

نعيم ما بين أطراف الأزاهير

لم ينزل الورد من أغصان روضته

إلّا لينبت في تلك الأظافير

من جانب آخر، لم يكترث أمين نخلة بالسياسة، ولا بالقضايا الاجتماعيّة والمعيشيّة الملحّة التي كان يتخبّط فيها مجتمعه، بل عاش على هامشها، ولكن من غير أن يتنكّر لها. يذكر لي الشاعر اللّبناني ميشال سليمان (مُترجِم بابلو نيرودا الأهمّ على المستوى العربي) هو الذي كان عرف أمين نخلة عن كثب، أنّ الأمين كان شخصاً اجتماعيّاً جدّاً وسياسيّاً جدّاً جدّاً، لكنه كان يفصل بين عالمَي الشعر والسياسة، ليس بالطبع فصلاً ميكانيكيّاً إجرائيّاً، ولكن بالمعنى التجييري والنقدي، أي تجيير مَوقفه، مثلاً، لهذه الفئة الإيديولوجيّة أو تلك ضدّ نظيراتها الأخرى المُتصارِعة معها أو تلك. ونحن لا نميل إلى هذا الاستنتاج فقط، بل نرى أنّ أمين نخلة هو شاعر سياسي بامتياز، وبخاصّة من خلال قصيدته التي رثى بها “حامد” النّابغة التركي في الخطّ العربي والتي يقول فيها:

أحامد: تلك الضادّ، هل كحروفها

حلا لعيونٍ إثمد ومراود

فسَلْ قومكَ الترك الذين تغيّروا

عن الضادّ، هل قد أدركَ الفقد فاقد

هو الحلي جنب الحلي دون سطورها

فيا أحرف اللّاتين: أين القلائد؟

ومن الدلائل على استغراق أمين نخلة في السياسة، ترشّحه لرئاسة الجمهوريّة اللّبنانيّة غير مرّة، وانتخابه نائباً في البرلمان اللّبناني في العام 1947.

Optimized by Optimole