المعضلات الأميركية في الشرق الأوسط كما تجلت في مناظرة كلينتون- ترامب

المعضلات الأميركية في الشرق الأوسط كما تجلت في مناظرة كلينتون- ترامب
Spread the love

“مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط” – بقلم: عوديد عيران – باحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي —

•من بين ثلاث مناظرات تلفزيونية جمعت هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، ركزت المناظرة الرئاسية الثانية التي جرت في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2016 على قضايا السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وعلى رأسها [الحرب في] سورية (أي عندما لم يكن التراشق بالكلام موجهاً لاتهامات شخصية). وكشف النقاش بين المرشحين الرئاسيين بشكل ملفت المعضلات التي واجهتها الولايات المتحدة منذ آخر مرة نشرت فيها قوة عسكرية أميركية على نطاق واسع ولفترة طويلة من الزمن، أي إبان حربي أفغانستان والعراق. منذ مستهل فترة ولايته في البيت الأبيض التي بدأت عام 2009 قلب الرئيس أوباما رأسا على عقب سياسة سلفه، جورج بوش الإبن، الذي عزز التدخل العسكري في أفغانستان وشن حرب الاجتياح الأميركي للعراق. لقد قلص الرئيس أوباما تدريجيا الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق، ومنذ بداية “الربيع العربي” في أواخر العام 2010، بعث برسالة واضحة جدا إلى العالم أجمع: الولايات المتحدة تسعى لاجتناب استخدام قوات عسكرية كبيرة- وبالتأكيد لا تريد إرسال قوات برية – لأي غرض آخر غير برامج التدريب ومهمات استشارية. وبضغط من الاتحاد الأوروبي جرى استخدام طائرات سلاح الجو الأميركي لشن غارات في ليبيا. وكانت النتائج في المدى المتوسط، إن لم يكن في المدى البعيد، مشابهة للنتائج المحققة في العراق بعد اجتياح 2003: تصفية النظامين وقائديهما، وحلّ الجيشين الوطنيين، وتفكك الدولتين إلى وحدات مستقلة، وسيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على أجزاء من البلدين. والطوائف المتعددة التي كانت ملجومة بشتى أشكال الأطواق الخانقة للدكتاتوريين، لم تقدر على اعادة القانون والنظام العام أو السيادة المركزية.

•إن إحجام الولايات المتحدة عن استخدام قوة عسكرية ضخمة جزئياً لأسباب أيديولوجية قد استرعى انتباه اللاعبين الجديدين القديمين في الشرق الأوسط. ويدرك هؤلاء اللاعبون ما يعنيه ذلك بالنسبة للتطورات في بلدانهم، مثل التخلي عن الرئيس حسني مبارك بسبب سلوكه السلطوي والاستعداد لقبول جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ والوعد الذي قطعه الرئيس أوباما بخط أحمر أمام أسلحة غير تقليدية في سورية والذي ما لبث أن تحول إلى خط زهري مع قبول الوساطة الروسية التي أفضت إلى اتفاق حول تفكيك الترسانة الكيماوية لسورية بدلا من تطبيق الخيار العسكري الأميركي؛ والاحجام الأميركي عن أن توضح بشكل حازم ومقنع أن خيار استخدام القوة لوضع حد لبرنامج إيران النووي العسكري لا يزال موضوعا على الطاولة. انتزع الجيش المصري السيطرة على الحكم من جماعة الإخوان المسلمين، ومع أن إيران اضطرت للقبول بقيود على برنامجها النووي إلا أنها بقيت قادرة على تخصيب اليورانيوم، وسوف يطوي النسيان هذه القيود مع مرور الزمن. وفي غضون ذلك، حافظ بشار الأسد الذي اعتبرته الولايات المتحدة عقبة أمام حل في سورية على كرسي الرئاسة بفضل المساعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية لإيران وروسيا، وهو يواصل ذبح مواطنيه مدعيا أنه يحارب تنظيم “الدولة الإسلامية”. هذا هو إرث الشرق الأوسط الذي يورثه الرئيس أوباما لخلفه.

خلال المناظرة، اختلف كلينتون وترامب حول هوية العدو، وحول كيفية التوصل إلى قرار بشأن الحل في سورية والعراق، وحول الدور الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تلعبه لإيجاد حل لأزمة اللاجئين الهاربين من القتال الدائر في هذه الدول. وبينما شددت كلينتون على الدور المسيء الذي تمارسه روسيا في سورية وتحدثت عن ضرورة ممارسة ضغط على موسكو لوضعها مجددا على سكة التعاون الصحيحة، حدد ترامب تنظيم “الدولة الإسلامية” والإسلام الراديكالي على أنهما المشكلة الرئيسية. والتباين بين المرشحين الرئاسيين أيديولوجي بعمق وليس مجرد تباينا تكتيكيا، وهو ينطوي على تداعيات بعيدة المدى، انطلاقا من فرضية أن السياسات العامة التي عبر عنها كلا المرشحين ستدخل حيز التطبيق فور دخولها [كلينتون] أو دخوله [ترامب] إلى البيت الأبيض. وألمح ترامب بقوة إلى أن هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” كليّةً يشرعن الاستفادة من الأسد وروسيا. وشددت كلينتون على نقطة رئيسية: أنها تعارض بإصرار استخدام قوة عسكرية أميركية على الأرض، وأنها تفضل تقديم مساعدة لأطراف محلية واستهداف قادة، مثل [أبو بكر] البغدادي زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية”. لكن اقتراح كلينتون بتسليح الأكراد، على سبيل المثال، جوبه بنقد فوري من جانب تركيا، وسيؤدي تنفيذ هذا الاقتراح لا محالة إلى أزمة بين الدولتين لأنه سيفضي إلى مطالبة كردية في المستقبل بالتعويض على شكل اعتراف برغبات انفصالية كردية. ومن غير الواضح الآن هل وكيف يمكن إنهاء التدخل التركي في شمال سورية الذي قد يلحق ضررا بمجهود محاربة “الدولة الإسلامية” ونظام الأسد. وفي الواقع، إن مقترحات [هيلاري]كلينتون هي عبارة عن تبنٍّ كامل للسياسات الأميركية الحالية الهادفة إلى عدم نشر جنود أميركيين على الأرض، مع استعدادها لاتخاذ خطوات عملانية إضافية ضد الأسد وضد تدخل روسيا، ولإقامة منطقة حظر للطيران فوق سورية، ولاستخدام قوات خاصة لتنفيذ عمليات صغيرة وسريعة. لكن لا يزال عليها أن تشرح لماذا تعتقد أن هذه المقاربة ستنجح في المستقبل بعد فشلها في الماضي. أما عرض ترامب لموقفه فهو تبسيطي للغاية وسهل فهمه بالنسبة للناخب الأميركي العادي، ولا يختلف كثيرا عن الأسلوب الذي اتبعه ريغان في ثمانينيات القرن الماضي، عندما أطلق على الاتحاد السوفياتي تسمية “امبراطورية الشر” التي التقطها جورج بوش الإبن بعد أكثر من عقد من الزمن عندما وصف ثلاث دول “مارقة” ب “محور الشر”. ولم يشرح ترامب، على سبيل المثال، ماهو المغزى من مساعدة الأسد على محاربة “الدولة الإسلامية”، أو ماذا سيحصل إذا رفض كل من الأسد وروسيا لعب الأدوار التي يعتزم إسنادها لهما. ومن هنا، فشل ترامب في تقديم بديل واضح عن طرح كلينتون.

إن وصف ترامب “الدولة الإسلامية” كخلاصة النذالة وجذر جميع مشكلات الشرق الأوسط، ومطابقته بين هذا التنظيم والإسلام الراديكالي، يشحذ الفرق بينه وبين كلينتون حول المسألة الأخلاقية والأيديولوجية العميقة المتعلقة بكيفية التعامل مع المذبحة الجماعية في سورية وملايين اللاجئين والنازحين السوريين. وبذلك يتمكن ترامب من تضمين موقفه العام معارضة جارفة لقبول مهاجرين ولاجئين، وخاصة من منطقة الشرق الأوسط، وهم من يشتبه في أنهم يمثلون تهديدا أمنيا. وأحد اتهامات ترامب لكلينتون المدعمة جيدا بالأسانيد يتعلق بهذه المسألة: لقد اقترحت[كلينتون] زيادة عدد اللاجئين المسموح بدخولهم للولايات المتحدة إلى 65 ألفا (سُمح بدخول 13 ألفا منذ مطلع العام الحالي وحتى الآن). لكن حتى لو حصل تغيّر في ميزان القوى السياسي في الكونغرس لمصلحة الديمقراطيين، فإنه لن يمنع الاحتكاك بين الحزبين مستقبلا، لأن الموقف الشعبوي لترامب لقي آذانا صاغية في مختلف أنحاء البلاد.
هذه المناظرة التلفزيونية لم تطرح التساؤل الرئيسي الذي يكمن وراء توجسات الولايات المتحدة إزاء سياستها الشرق أوسطية، وإزاء الموارد التي ستكون مستعدة لتوظيفها توصلا إلى تحقيق أهدافٍ والمحافظة على مصالح. إن الطموحات السامية لجورج بوش الإبن ولأوباما، الرامية إلى تدعيم مجتمع مدني ديمقراطي وتطوير حوار بين الثقافات والديانات، تهشمت على أرض الواقع الإقليمي حتى قبل “الربيع العربي”. وتبعا لذلك، فإن خليفة أوباما سيكتفي بقائمة أهداف قد تشمل التالي:

1.منع انتشار السلاح النووي في المنطقة وانطلاقا منها
2.منع تصدير الإرهاب الإسلامي المتشدد من المنطقة بمساعدة شركاء إقليميين وغيرهم
3.مساعدة أنظمة صديقة في المنطقة، ولا سيما تقديم مساعدات مالية، فضلا عن معدات عسكرية وتدريب مصمم لتأمين الإكتفاء الذاتي
4.المشاركة في محاولات لتشكيل وضمان استقرار هيكليات سياسية في أجزاء من المنطقة تمر حالياً بمراحل متعددة من التفكك
5.المشاركة في الجهد الدولي لتأمين حلول لمشكلة اللاجئين، ولا سيما من خلال تقديم مساعدة مالية لتوطينهم في أماكن تواجدهم الحالية أو في دول مستعدة لقبولهم.

•تتطابق الأهداف المدرجة في هذه القائمة مع الخطوط العريضة التي عرضتها كلينتون في المناظرات. وعلى الأرجح سيكرر ترامب أساسا ما كرره مراراً عن دور الولايات المتحدة في المجهود العسكري لهزيمة الدولة الإسلامية. وبينما تميل كلينتون إلى قبول وجود عسكري محدود، يشمل قوات خاصة وتقديم مشورة عسكرية وتدريب، تجنب ترامب التطرق الصريح إلى هذه المسألة، ويبدو أنه يفضل أن يقوم آخرون بهذا العمل ولديه القليل من التحفظ حول أساليب هؤلاء. وبالنسبة للشأن الإيراني، تنوي كلينتون إبقاء السياسة العامة على حالها، بينما ترامب قابل للانجراف في سياسة استفزازية معدة لتمكينه من العودة عن الاتفاق أو إبطال أجزاء منه.

•وتشمل الخطوط العريضة لمقاربة كلينتون على ما يبدو الأفكار التي اقترحتها مرارا في الفترة الأخيرة من عهد أوباما، علما أن الغاية الرئيسية منها هي وضع حد للتآكل الإقليمي. وهذا يعني جزئيا وقف تفكك كيانات دولتية أخرى، ومنع جماعات إرهابية إسلامية من تحقيق نجاحات أخرى على الأرض، وتدريجيا تقليص حيز انتشار الإرهابيين توصلا إلى تصفية معاقلهم الإقليمية. وينبغي تحقيق جميع هذه الأمور مع مراعاة المبدأ الرئيسي: عدم نشر وحدات مقاتلة أميركية على الأرض، والانتقال إلى عمليات تتطلب وجودا قصير الأمد فقط، واستخدام الطيران. أما الخطوط التوجيهية لترامب فيمكن تسميتها “أميركا القلعة ” (Fortress America) ويفترض أن تنفذ بالتزامن مع تشديد السياسة الأميركية حيال الراغبين في الهجرة إلى الولايات المتحدة، ومع الموافقة على أخذ عدد محدود جدا من لاجئي منطقة الشرق الأوسط في إطار برنامج دولي لاستيعاب اللاجئين. وتنفيذ هذه السياسة لا يتطلب تعديلا جوهريا في موارد الولايات المتحدة المرصودة لإدارة شؤون الأمة، الأمر الذي سوف يسهل على الإدارة الأميركية القادمة مواجهة ضغوط تتعلق بالموازنة العامة.

•والسياسة الشرق أوسطية للرئيس الأميركي القادم ستضعف على نحو شبه مؤكد الدفاع عن دول المنطقة لأن الولايات المتحدة لن تعود بحاجة إلى حماية مصادر الطاقة في الشرق الأوسط. وقد أشارت كلينتون في المناظرة التلفزيونية إلى تحقق استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة. وهكذا، وعلى الرغم من اعتماد بعض حلفاء الولايات المتحدة – اليابان وأوروبا- على طاقة مصدرها روسيا ومنطقة الشرق الأوسط، لن يستطيع هؤلاء الاعتماد على التزام أميركي تلقائي بحماية مصادرهم الحالية من الطاقة.

•إن محاولات مقارنة هذه السياسة، في حال نفذت وعندما تنفذ، بأزمنة ماضية، مثل فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية هي محاولات مغلوطة، جزئياً بسبب صعوبة مقارنة حقب شديدة التباين لجهة القدرات التكنولوجية -العسكرية الدفاعية والهجومية. ومن الصعب تجاهل أثر عوامل قوية وسابقة، مثل الهجوم على بيرل هاربر أو أحداث 11 أيلول/سبتمبر [2001]، أو التغييرات الجذرية في الرأي العام الأميركي وتبعا لذلك في السياسة العامة.
•أية استراتيجيا ستختارها الولايات المتحدة لا بد أن تتأثر كثيرا بالتعاون مع دول وكيانات شبه دولتية في الشرق الأوسط، على الرغم من أن هذا المبدأ سيضطر واشنطن للاختيار بين المصالح والقيم. في تركيا، حليفة الولايات المتحدة في حلف الناتو وفي منطقة الشرق الأوسط، كثفت الحكومة قمع المعارضة، وتنسب الولايات المتحدة سلوكا مشابها لهذا السلوك إلى النظام المصري. والخلاف بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية حول طريقة حل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني أعاق قدرة الدولتين على التعاون في قضايا إقليمية. وسيتعين على الإدارة الأميركية القادمة أن تواجه هذه المقيدات والإكراهات وستجد من الضروري تحديد أولويات المسائل التي ينبغي التركيز عليها.

المصدر: مجلة مباط عال”، العدد 864، 26/10/2016، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole