عقيدة الضاحية في مقابل عقيدة الكرياه

عقيدة الضاحية في مقابل عقيدة الكرياه
Spread the love

بقلم أوري بار – يوسف – مؤرح إسرائيلي وأستاذ في جامعة حيفا —

بخلاف ياسر عرفات، في خطابه الشهير في الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1974 تقلّد مسدساً، لكنه أيضاً اقترح على إسرائيل غصن زيتون، ألقى نتنياهو خطابه في الجمعية العامة، وهو يحمل التهديد النووي الإيراني بيد، وباليد الأُخرى تهديد صواريخ حزب الله الدقيقة. باستثناء ذلك، ليس لديه ما يقترحه.
من الصعب أن نفكر بزعيم آخر في تاريخ إسرائيل اعتقد أنه يستطيع بتخرصاته وصور ملونة أن يُبعد عن إسرائيل المخاطر الحقيقية التي تتعرض لها. ليس بين الذين سبقوا نتنياهو شخص عرف أن يخطب مثله، لكنهم فهموا كلهم أن الكلام وحده لا يدفع قدماً بالدولة وبأمن مواطنيها. وينطبق هذا بصورة خاصة على زعماء اليمين: مناحيم بيغن تنازل عن سيناء من أجل السلام مع مصر، ويتسحاق شامير بدأ بالمفاوضات مع الفلسطينيين في مؤتمر مدريد، وأريئيل شارون خرج من قطاع غزة وتخلى عن المستوطنات اليهودية التي بنتها حكومات المعراخ هناك.
في الفترة الأخيرة عرضت إسرائيل سراً أمام هيئات متعددة في العالم معلومات استخباراتية حساسة بشأن إيران ومصانع الصواريخ التابعة لحزب الله، لدفعها إلى التحرك. وكما هو معروف لم تفعل هذه الدول شيئاً. ونتنياهو الذي يؤمن بالتسويق كحلٍّ لكل شيء، عرض هذه المعلومات السرية في الأمم المتحدة. وماذا بعد؟ هل يتوقع حدوث تظاهرات كبيرة في نيويورك، وباريس ولندن تأييداً لمطالبه؟ من الواضح أن هذا لن يحدث، وطبعاً، بحسب رأيه، لا تزال شعوب العالم تعيش في سنة 1938، وترى في مسايرة إيران سبيلاً إلى حل المشكلة.
كابن مؤرخ، يجب على نتنياهو أن يعلم أننا لم نعد في سنة 1938، وأن إيران ليست ألمانيا النازية، والحروب الكبرى بين دول متقدمة هي ظاهرة آخذة في الاندثار، وأن إسرائيل أقوى دولة في المنطقة وبعيدة عن أن تكون يهود أوروبا العزّل عشية المحرقة النازية.
يتعين على نتنياهو أن يعلم أيضاً، أنه بخلاف التهديدات الأمنية التي واجهتها إسرائيل طوال سنوات وجودها، لا تملك اليوم جواباً عسكرياً جيداً على تهديد مئات أو آلاف الصواريخ الثقيلة، وجزء منها دقيق يملكه حزب الله وموجّه ضدها. لم نواجه قط تهديداً من هذا النوع في الماضي. ومن المنطقي أن تصيب في الحرب المقبلة مئات من هذه الصواريخ ليس فقط منشآت استراتيجية في إسرائيل، بل أيضاً العديد من المباني العالية في تل أبيب. لقد أعلنت إسرائيل عن “عقيدة الضاحية”، لكن حزب الله أيضاً يستطيع أن يستخدمها ربما تحت عنوان “عقيدة الكرياه” [مركز قيادة هيئة أركان الجيش في تل أبيب].
كابن مؤرخ، وبصفته عانى شخصياً جرّاء أهوال حرب يوم الغفران [حرب تشرين/أكتوبر 1973] من المفروض أن يعلم نتنياهو شيئاً آخر: بخلاف افتراءات مؤرخين فاشلين، الذين يدّعون أن غولدا مائير وموشيه دايان لم يُعدّا الجيش الإسرائيلي للحرب في سنة 1973، ولم يُعدّا ردوداً عسكرية فإن أبحاثاً جدّية أظهرت أن إسرائيل استعدّت جيداً لهذه الحرب. الفجوة في القدرات العسكرية بينها وبين مصر وسورية اتسعت منذ حرب 1967، وتمّ إعداد ردود عسكرية واضحة للتصدي لهجوم على قناة السويس وعلى هضبة الجولان، والقدرة العربية على المسّ بالجبهة الداخلية التي أقلقت وزير الدفاع بصورة خاصة، كانت تقريباً صفراً. بكلام آخر، في سنة 1973 كانت إسرائيل تملك رداً عسكرياً جيداً على التهديدات العربية في الحرب. هذا الرد لم يجرِ التعبير عنه بسبب التقصير الاستخباراتي، لا بسبب أن الجيش لم يكن مستعداً للحرب.
أيضاً يعلم نتنياهو بالتأكيد، أنه بسبب تقدير غولدا مئير أن إسرائيل تملك رداً عسكرياً جيداً على التهديدات العربية، لم توظف جهوداً كبيرة من أجل الدفع قدماً بتسوية سياسية لتحييد هذه التهديدات. لكن ما كان منطقياً في سنة 1973، ليس منطقياً اليوم. يعتبر المستويان السياسي والعسكري صواريخ حزب الله تهديداً كبيراً، في أحسن الأحوال نملك رداً جزئياً عليها. في الحرب المقبلة يمكن أن تدفع إسرائيل الثمن الأكبر منذ سنة 1948. صحيح، أيضاً حزب الله سيدفع ثمناً باهظاً، وربما أيضاً أذرعته ومؤيديه في المنطقة، لكن لن يكون في هذا حتى بعض العزاء.
نتنياهو خبير في الإرهاب، لكنه يفهم أيضاً في التفكير الاستراتيجي الذي تطور خلال فترة الحرب الباردة. في مركزه يوجد “توازن الرعب”، الذي استندت إليه القدرة النووية. صحيح أنه في هذه المرحلة ليس لدى حزب الله وإيران أيضاً مثل هذه القدرة. لكن بعد التطورات التكنولوجية في العقود الأخيرة، أصبح إنتاج الصواريخ أرخص وأسهل من الماضي، ويمكن تطوير درجة دقتها بطريقة بسيطة نسبياً. والنتيجة “ميزان ردع تقليدي”: “الضاحية” في مقابل “الكرياه”، ومطار رفيق الحريري في مقابل مطار بن – غوريون.
يدل التاريخ على أن السبيل إلى مواجهة “ميزان رعب” يمر عبر الحوار وبناء الثقة وإيجاد حلول عملية للتهديدات العسكرية. مع كل الاحترام لبلاغة نتنياهو الخطابية في الأمم المتحدة، من الواضح أن ليس من مصلحة إسرائيل فقط بل من مصلحة إيران وحزب الله أيضاً، منع مواجهة عسكرية ستكبدهم ثمناً باهظاً جداً.
هذه المسألة هي أساس جيد لبدء عملية حوار. بدلاً من توجيه الاتهامات إلى قادة إيران، ومن تهديد حسن نصر الله بـ”ضربة ساحقة لا يستطيع تخيلها”، ومن الأجدى أن يفكر رئيس الحكومة قليلاً في دروس التاريخ. إنها تدل على أن الطريق التي يسلكها يمكن أن تقودنا إلى كارثة، ولذا يجب البحث عن طرق بديلة.

المصدر: صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole