الأحكام الشرعيّة بين مسؤوليّتين

الأحكام الشرعيّة بين مسؤوليّتين
Spread the love

شجون عربية – بقلم: الشيخ: محمد عبّاس دهيني –
يقف المرءُ حائراً أمام هذا التفلُّت الجماهيريّ من ضوابط القانون الإلهيّ (الشريعة الإسلاميّة)، وهو ما يتبعه تحلُّلٌ خُلُقيّ، كفيلٌ بأن يقضي على كلّ إنجازٍ متصوَّرٍ لمجتمعٍ إيمانيّ هنا أو هناك.
فعلى الرغم من وجود منظومة أحكامٍ متكاملةٍ وتشريعاتٍ شاملةٍ لكلّ شؤون الحياة ومتطلَّباتها ـ القديمة منها والجديدة، الثابتة منها والطارئة ـ مبثوثةٍ في كتب الفقه والرسائل العمليّة للفقهاء، وتصدح بها حناجر العلماء والمبلِّغين في خُطَب الجمعة والعيد وغيرهما طيلة أيّام السنة، نجد جفاءً ملحوظاً وهَجْراً مقصوداً بينها وبين المكلَّفين، الذين لا يفتؤون يعلنون إيمانهم بالله، وحبَّهم له، وارتباطَهم به، وبأنبيائه ورُسُله (وأوصيائهم)، بل تراهم على المستوى النظريّ يمدحون ويُقرُّون بالمصلحة الكامنة في هذه التشريعات، ويَدْعون إلى الالتزام بها، ما يعني أنهم مؤمنون بها، ومعترفون بخيريّتها، وملتزمون بها نظريّاً، لكنّ مانعاً حال دون التزامهم العمليّ، وهو وساوس الشيطان وهوى النفس الأمّارة بالسُّوء.
ولَسْتُ أريد الخَوْض في بيان دواعي وأسباب هذا التناقض بين القول والعمل، وإنما أريد أن أعرض إثارةً تتعلَّق بمعقوليّة أن يكون الشارع الحكيم قد ترك الحُرِّية لأمثال هؤلاء ـ وهم كُثُرٌ ـ في أن يستجيبوا لشيطان الجنّ والإنس أو لهوى النفس؛ فيخرِّبوا المجتمعات البشريّة، ويحرموها من أبسط حقوقها؛ حيث تتجلَّى المشكلة الكبرى هاهنا في آثار ونتائج مثل هذه المخالفات على واقع الحياة الاجتماعيّة للناس؛ إذ في أغلب التشريعات ـ إذا لم نقُلْ: كلِّها ـ ما هو شديدُ التماسّ مع المجتمع ومصالح أبنائه.
فقد نتصوَّر أن الصلاة مثلاً عملٌ فرديٌّ مَحْضٌ، وخاصٌّ بمريدها والملتَزِم بها، ولكنْ لو التفَتْنا إلى أن وقت الصلاة ـ رغم سَعَته ـ قد يستوعب ويترافق مع عملٍ أو سَفَرٍ، فيحتاج مريدُ الصلاة إلى مكانٍ خاصّ يصلّي فيه (مساجد أو مصلَّيات)، وإلاّ فسيكون مضطرّاً للصلاة في أيّ مكانٍ يختاره، ما قد يعطِّل حياة الناس ومصالحهم، فحينئذٍ لا تعود الصلاة فعلاً فرديّاً بالمطلق، بل هي واجبٌ شخصيٌّ، وله انعكاساتٌ على الآخرين، فلا بُدَّ أن تكون تحت سقف قانونٍ ونظامٍ عامٍّ، يكفل الحقّ والراحة للجميع: مريد الصلاة؛ وغيره من أفراد المجتمع المحيطين به. هذا، وقد اخْتَرْنا الصلاة مثالاً لأنها أوضح الأمثلة على الفرديّة؛ وإلاّ فإن أمثلةً كثيرةً في البال، وقد نذكرها ـ أو بعضها ـ في ما يأتي.
ولا أريد هنا نفي الخصوصيّة الشخصيّة والصفة الفرديّة عن الصلاة ـ أو غيرها من التشريعات ـ بالمطلق، وإنّما أروم تسليط الضوء والتركيز على الجانب الاجتماعيّ للصلاة، بل لجميع الأفعال التي يقوم بها المكلَّف، وتشملها أحكام الشريعة، وهو ما يجعل الالتزام بها، وآليّة مقاربتها، بنحوٍ مختلفٍ تماماً.
ولستُ أعني بذلك الأحكام ذات الطابع الاجتماعيّ الواضح، والتي قد تكون محطَّ اهتمام الحاكم ووليّ الأمر بشكلٍ تلقائيٍّ؛ إذ هي أبرزُ مجالات عمله وولايته، وإنّما أحاول إثارة هذه الفكرة بالتحديد، وهي: لزوم أن يحضر الحسّ والشعور الجَمْعيّ في جميع عباداتنا ومعاملاتنا؛ فإلى جانب الحسّ الفرديّ والمسؤوليّة الشخصيّة تجاه أيّ حكمٍ شرعيّ ـ عبادةً كان أو معاملةً ـ لا مفرَّ؛ لكي تستقيم حياة المجتمع، ويكون في حركة تقدُّمٍ مستمرٍّ، وتطوُّرٍ دائم، وأمانٍ عامٍّ شاملٍ، لا مفرَّ من حضور الحسّ الاجتماعيّ والمسؤوليّة العامّة، المسؤوليّة عن النظام الاجتماعيّ العامّ، في مختلف الميادين.
نظريّتان في تحديد المسؤوليّة
وما نلحظه في هذا المجال وجود نظريّتين حول طبيعة المسؤوليّة تجاه التكاليف والأحكام الشرعيّة:
1ـ نظريّة المسؤوليّة الفرديّة
فالمعروف بين المتشرِّعة ـ وتؤيِّده خطاباتُ الفقهاء ـ أنها أحكامٌ فقهيّةٌ ومسؤوليّاتٌ فرديّةٌ، وجهودٌ شخصيّةٌ، لا تخضع لنظامٍ عامٍّ يحكمها.
فالزكاة واجبةٌ، وكذلك الخُمْس، ولكنّهما بنظر المتشرِّعة تكليفان فرديّان، يعتمد الالتزام بهما على مدى رهافة حسِّ المسؤوليّة في صاحب المال؛ فقد يعجِّلهما وقد يؤجِّلهما؛ وقد يخرجهما وقد يغضّ الطَّرْف عنهما ـ مؤقَّتاً أو نهائياً ـ، بعيداً عن أيّ قانونٍ عامٍّ مُلْزِمٍ له بالإخراج في الوقت المحدَّد، وبعيداً عن أيّ ضماناتٍ بأنه سيستفيد أو ذرِّيته منهما ـ كعنوانين للضريبة الاجتماعيّة الضامنة والناظمة لحياةٍ كريمة للإنسان الصالح والمُلتَزِم ـ.
2ـ نظريّة مسؤوليّة النظام العامّ
بينما تذهب نظريّةٌ أخرى إلى أن هذه الأحكام ـ أو بعضَها على الأقلّ ـ خاضعةٌ لسلطة النظام العامّ ـ الذي قد يتولاّه الفقيه أو مطلق الحاكم الخبير الحكيم العادل ـ، فيُجْبَر المكلَّف على الالتزام بهذه الأحكام والتشريعات، ولا يُترَك له أيُّ مجالٍ للتهرُّب منها، وتضييع منفعتها على نفسه والمجتمع.
فإذا جُعلَتْ ضريبةٌ على المواطنين؛ لغايةٍ وهَدَفٍ معيَّن، ككفالة الفقراء والمحتاجين مثلاً، فلا يُتْرَك للمواطن أن يتعامل مع هذا التشريع بقريحته وأريحيّته، التي قد تكون ضعيفةً أو مفقودةً لدى بعضهم. وإنّما تُؤخَذ منهم الضريبة المقرَّرة فوراً، وعلى سبيل الاقتطاع من الراتب؛ فإنها فريضةٌ واجبةٌ، وقد تعلَّق بها حقُّ الآخرين، فلا بُدَّ من أدائه أو يتولّى ذلك الحاكم والسلطان والدولة المسؤولة عن كافّة أفراد المجتمع…
قراءةٌ عامّة في النظريّتين
إذن هما نظريّتان تحدِّدان طبيعة المسؤوليّة في تطبيق الأحكام الشرعيّة: نظريّة المسؤوليّة الفرديّة؛ ونظريّة مسؤوليّة النظام العامّ.
والمرتكِز في أذهان جمهور المسلمين، وعليه العمل في أغلب المجتمعات الإسلاميّة، هو النظريّة الأولى.
فامرؤٌ وما اختار؛ يصلّي حيث يشاء؛ ويصوم إذا شاء؛ وتتستَّر إذا رغبَتْ؛ ويسافر إلى حيث يريد، ولو إلى بلدٍ قد انتشر فيه الوباء؛ ويدفع الضريبة (الزكاة والخُمْس والكفّارات و..)؛ ويتكفَّل المحتاجين إذا حلَّ الجوع والقَحْط والبلاء، كلُّ ذلك بدافعٍ فرديٍّ شخصيٍّ، وواعظٍ ذاتيٍّ، وإلحاحٍ نفسيٍّ، قد يضعف ويَقْصُر ويخبو في كثيرٍ من الأحيان، فنرى غياباً لكلّ ما تقدَّم، دون أن يكون لأحدٍ سلطةٌ على المطالبة به، والمنع من تركه…
وأخال أن هذه النظريّة أعاقَتْ كثيراً من المجتمعات الإسلاميّة عن الالتحاق برَكْب الحضارة الحديثة، والأخذ بأسباب الرقيّ والازدهار؛ فالفردُ يسقط أمام المُغْرَيات، وتصرفه الأطماع عن التزاماته، التي يؤمن بها، ولكنّه يضعف عن أدائها؛ لأسبابٍ شتّى…
هذا، وقد استطاعَتْ دولٌ أخرى (إسلاميّة وغيرها) ـ استناداً إلى النظريّة الثانية ـ من تأمين رفاهيةٍ تامّةٍ، وعيشٍ كريمٍ، وأمنٍ مستتبٍّ، وانتظامٍ دقيقٍ، لمواطنيها؛ حيث كان النظام العامّ هو ضابط الإيقاع لحركات المواطنين، فلا ننتظر جُهْده الفرديّ، والحسّ الذاتيّ الذي قد يتعطَّل لسببٍ وآخر، وإنما هو نظامٌ عامٌّ شاملٌ مُلْزِمٌ للجميع، وَفْق منظومةٍ قانونيّةٍ متكاملةٍ، تحفظ حقّ الصغير والكبير، والغنيّ والفقير، والحاكم والرعيّة.

Optimized by Optimole