جماعات العنف الجهادي: البنى العسكرية وأساليب القتال

جماعات العنف الجهادي: البنى العسكرية وأساليب القتال
Spread the love

خاص مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط — بقلم: سمير الحسن* — 

 

مقدمة: 

أظهرت المعارك العسكرية التي جرت في أكثر من موضع في ساحات الصراع منذ ظهور ما يعرف بالحركات الجهادية، قدرة على القتال، وأساليب متنوعة، وصلابة مواجهة، واندفاعا حتى حدود العمليات الانتحارية المكثفة التي لم يشهد التاريخ سابقاً لها، وقدمت فيها أعداد كبيرة من المقاتلين المستعدين لتنفيذ عمليات انتحارية بدافع فكري عقائدي غالبا.

 

وإذا شئنا العودة إلى إرهاصات العمل العسكري لدى هذه الجهات المنضوية تحت عنوان “الحركات الجهادية” نجد أن أولى تجلياتها كانت مع القاعدة، التنظيم الذي أسسه أسامة بن لادن. وهو كان النسخة الأولى في ما عرف ب: “قاعدة خراسان”.

 

تشكلت الخميرة الأولى في أفغانستان (1) مطلع الثمانينات، وأخذت طابعا جهاديا ضد الاحتلال السوفياتي في هذا البلد، ولعبت عدة دول دورا أساسيا في تجميع المقاتلين العرب بغية مقاتلة الاحتلال السوفياتي، وكان الدور الأبرز في ذلك يعود للولايات المتحدة الأميركية، والمملكة العربية السعودية، وساهم مكتب الخدمات الإخواني في العالم بلعب دور لوجستي في عملية التجميع. ولكن بقي الطابع الغالب أفغانيا، وحصراً بالاحتلال السوفياتي، إلى أن ساهمت حرب العراق 1991 بإفرازات تنظيم القاعدة، فكانت النسخة الأولى للطابع الجهادي في القتال.

 

كما أنه بعد حرب افغانستان ضد الاتحاد السوفياتي، ظهرت أعمال عسكرية بطابع حرب العصابات على أيدي قوى إسلامية جهادية في الاتحاد اليوغوسلافي، والبوسنة والهرسك.

 

أنشأ أسامة بن لادن قاعدته الأولى في السودان عام 1991 بعد استدعاء الروابط من رفاق السلاح لتبدأ أولى عملياتها العسكرية سنة 1992 ضد رعايا أميركيين في أحد فنادق عدن، ومن ثم عمليته الثانية في حزيران 1993 في الصومال، و1995 ضد موقع الحرس الوطني السعودي بالرياض، والخبر 1996، وعمليتي نيروبي ودار السلام 1998، والمدمرة كول في اكتوبر 2000 قبالة عدن. وفي بيروت، يسجل للقاعدة اغتيال أحد قادة “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية” (الأحباش) الشيخ نزار الحلبي، وكذلك أحداث الضنية في الشمال اللبناني مطلع سنة ٢٠٠٠،  وذلك استنادا على ما ورد في كتاب “إدارة التوحش”لأحد منظري تنظيم القاعدة أبو بكر ناجي.

 

وتوجت هذه العمليات بغزوة 11 أيلول حيث تحقق الهدف المرجو، وهو استدراج القوات الأميركية إلى المنطقة لتتوزع في جغرافية انتشار الإسلام حيث سيتم استنزافها، وكانت ذروة ذلك غزو أفغانستان، ومن ثم العراق.

 

هنا تعرضت قاعدة بن لادن المركزية إلى الضرب، فاتخذ القرار بالتوزع إلى قواعد متفرقة، وقاعدات محلية في بعض مناطق العالم الإسلامي، وأكبرها قاعدة العراق التي تزعمها أبو مصعب الزرقاوي، والتي طبعت مسار القاعدة ككل ببصمة عراقية بارزة حيث تصرفت بوحي من المحيط، والبيئة التي نمت فيها، وتجلى ذلك في الصدام الواسع مع الشيعة، ومخالفيها من السنة، ناهيك عن الاشتباك مع الأميركي بأشكال مختلفة. ومنذ أواسط 2007 بدأ العد العكسي لهزيمتها في العراق على يد الصحوات العشائرية الطابع، والتي كانت في الأساس من غير القاعدة، وقوامها المقاومة السنية غير المسلحة التي كانت رفضت القاعدة ومنهجها، واتخذت من قساوتها، وسوء تعاملها مع الآخرين، حافزها الأساس للتحرك ضدها.

 

يضاف إلى ذلك الدعم المالي الواسع من السعودية للصحوات، والتنسيق الميداني مع الأردن، لينتهى المسار إلى هزيمة نكراء مع مقتل أميرها الثاني حامد داوود الزواوي (أبو عمر البغدادي) ووزير حربه المصري أبو أيوب (أبو حمزة المهاجر) وكان أبو عمر البغدادي  قد أطلق اسما جديدا للتنظيم وهو “دولة العراق الإسلامية”.

 

وما بين 2003 و2010 قضى أربعة آلاف قاعدي، ناهيك عن آلاف أخرين من معتقلين وجرحى، ولم يتبق سوى خلايا نائمة في الشمال العراقي (الموصل). تلك الخلايا النائمة سارعت الى مبايعة إبراهيم البدري الذي سيعرف فيما بعد بأبي بكر البغدادي أميرا في نيسان 2010.

 

عادت الروح لهذا التنظيم مع بدايات الفوضى السورية، فحلت الفرصة السانحة، وانتقلت بثقلها إلى سوريا لتقاتل تحت اسم “جبهة النصرة”.

 

لقد ضمت النسخة الثانية من تنظيم القاعدة بقيادة الزرقاوي أخلاطا جهادية شتى، ومنهم من أتى من كادر الجيش، والأمن العراقيين، اللذين أطلقهما صدام حسين، واللذين نقلتهما الحملة الإيمانية 1994 (2) من أجواء البعث إلى الأصولية، ومن تجمعات أصولية أكثرها سلفي، وبعضها أخواني، وقليلها صوفي، وتكفل الوقت بمزجها في سبيكة اتخذت تسمية “السلفية الجهادية”.

 

وفي نيسان 2013 حرّض ميسرا الجبوري (3) أسامة واحدي (أبو محمد الجولاني) على شق عصا الطاعة تحت خصوصية شامية. وبسبب شدة خصومة الجبوري مع البدري،  وقع  الخلاف داخل التنظيم، وخرج أسامة واحدي ببيعته إلى خراسان (قاعدة أفغانستان) التي يتزعمها الظواهري متجاوزا بيعته السابقة لابراهيم البدري. ومما فاقم المشكلة، أن واحدي وضع كل أوراقه خلف السلفية غير الجهادية، إلى أن وقع الصراع المسلح بينه وبين البدري مع الأيام الأولى عام 2014 في حرب الأخوة التي أزهقت أربعة آلاف من مقاتليهم. وكان أمل الولايات المتحدة في استعمال النوع غير الجهادي السلفي ضد نوعها الأخطر الجهادي، ولكنها باءت بالفشل، إذ سرعان ما قفز الأخير إلى الموصل 2014، وأعلن خلافته متمثلاً بالسيطرة على 40 بالمئة من مساحة سوراقية العربية.

 

لقد ساهم مطبخ بيشاور ببلورة النواة الأولى، وهيّأ أرضية للتمدد والتوسع نحو بلدان أخرى. ولكن النسخة الثالثة كانت مختلفة عن النسخة الأولى. لقد تباينت قاعدة العراق عن تلك في خراسان بمزجها بين الجغرافيا والديمغرافيا، واعتمادها مبدأ الخلافة، وعدم التردد في رفع الشعارات المذهبية حتى ولو أدى ذلك إلى الصدام المباشر. يضاف إلى ذلك، رؤية قاعدة العراق للربيع العربي بصورة مغايرة لتلك القاعدة الخراسانية، ومفادها أن فوضى الربيع هي البيئة النموذجية للوصول إلى أقصى حالات العنف المسلح.

 

لقاء ذلك، كان لخراسان الظواهري قراءة تفيد أن الربيع ذاته يشكل أرضية صالحة للاستفادة مع وصول “الأخوان المسلمين” إلى السلطة في عدد من الدول، خصوصا في مصر وتونس، وهو وصول دغدغ عواطف الظواهري، وأيقظ خلفيته الأخوانية السابقة، مع ما تشكله تركيا وقطر من قوة إقليمية داعمة. ناهيك عن الاختلاف في الرؤيا بين الخلافة الزمنية عند الظواهري، والمكانية عند البدري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1استقطبت الحرب الافغانية المقاتلين من بقاع الارض و فتحت الباب للسلفية الجهادية و ساهمت كل من السعودية و الكويت بدعمهم.اضافة الى دعم كبير من اميركا،و بعد انتهاء الحرب الافغانية و رحيل السوفيات تغيرت التحالفات و دول الدعم و المأوى و اصبح المجاهدون منبوذين فتوزعوا ما بين الحرب الشيشانية و البوسنة و الجزائر (هيثم مناع – من هجرات الوهم الى بحيرات الدم ).

 

2 الحملة الايمانية 1994 جمع صدام حسين كل كوادر حزب البعث بقيادة الشيخ عبد اللطيف الهميم : د. رفعت سيد احمد ( داعش خلافة الدم و النار)

 

3 ميسرا الجبوري : مقدم في الجيش العراقي السابق .

 

 

 

الفصل الأولتنظيم القاعدة الهيكلية التنظيمية

 النسخة الأولى قاعدة خراسان (أسامة بن لادن)

 

لم يكن التنظيم يعتمد التركيب الهرمي، إنما يعمل بأسلوب الفروع التي تمول نفسها وتعرف ب”الفرانشايز”. فالقاعدة تمثل أسلوباً لا مركزياً بحيث يعمل كل فصيل بمفرده، وبمعزل عن مركزيته، فتنظيم القاعدة يختلف عن غيره من التنظيمات الإسلامية أو غير الإسلامية بأنه لا يتبع هيكلية تنظيمية، بل يعتمد بناءاً عنقودياً (خلايا) مرنة تتغير وفق الظروف والأوضاع.

 

بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان، لم يعد للتنظيم قيادة مركزية محدودة، أو امتدادا مباشرا، بل كان لكل المجموعات، والتنظيمات التي تعمل بوحي من القاعدة، استقلالية ذاتية، وهي لا ترتبط بالضرورة مباشرة بأسامة بن لادن أو أيمن الظواهري، رغم أنها تتأثر بموقفهما وخطاباتهما. كما أن المجموعات المتأثرة بتنظيم القاعدة، ولها صلة ما به، تعمل بشكل مستقل عن بعضها البعض، وتعتمد أسلوب الخلايا العنقودية، وتقتصر مهمة كل مجموعة على تنفيذ عملية محدودة، وهي تؤمن التمويل الذاتي، والإمكانات من دون الحاجة للعودة إلى القيادة المركزية، كما أن هذه التنظيمات تتحرك وفق أجندتها الخاصة بالبلد، أو المنطقة التي تتواجد فيها.

 

وفي ما خص تمويل مجموعات القاعدة يتبين أن تأمين الإمكانات المادية، والعسكرية، واللوجستية لا يخضع لنظام محدد، ولا يأتي من جهة معينة، وأن هناك العديد من الدول العربية والإسلامية، وخاصة الخليجية، تؤمن التمويل بشكل مباشر، أو من خلال وسطاء. أما بقية الأفرع فإن لها خصوصية أخرى.

 

النسخة الثانية قاعدة العراق- (الزرقاوي – جماعة التوحيد والجهاد)

 

وكانت نسخة متطابقة مع قاعدة خراسان من حيث التنظيم باعتماد البناء العنقودي -الخلايا)،أسسها أحمد فضيل الخلايله، المعروف بأبي مصعب الزرقاوي عام 2003 تحت اسم “جماعة التوحيد والجهاد”، وكانت أولى مهامه الاتصال بالعراقيين بشكل مباشر، وجمع شتات المتطوعين من خارج العراق، وعاونه الأردني عمر يوسف جمعة (أبو أنس الشامي)، والعراقيون عبد الله الجبوري، وتامر العطروز، ومحمد جاسم العيساوي في إطار مجلس شورى يتفرع منه لجان، ومنها كتائب، وسرايا، وخلايا متفاوتة من حيث العدد، والشكل، والحجم، وترتبط به مباشرة بحيث يجمع خيوط التنظيم بالكامل.

 

تميزت أعمال  القاعدة في العراق بعمليات استهدفت النجف، وكربلاء، والحجاج الشيعة، وأماكن العبادة الإسلامية، والمسيحية، والإيزيدية، وقد بدأت هذه العمليات بعملية استهدفت رئيس “المجلس الإسلامي الأعلى” محمد باقر الحكيم في ٢٩ آب ٢٠٠٣ في مدينة النجف، فقتل ما لايقل عن ثمانين ضحية، وفي آذار تفجيرات ذكرى عاشوراء أدت إلى مقتل ٢٧١ شخصا.

 

بعد مقتله 2006، تولى حامد الزواوي (أبو عمر البغدادي) جمع شتات المهاجرين والمجموعات المشرذمة، وتم إعلان حلف المطيين(1) وهو ائتلاف يضم الحركات والمنظمات والجماعات المنضوية في إطار مجلس شورى المجاهدين، وبعض زعماء العشائر، وأبرز الفصائل كانت قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وجيش الطائفة المنصورة، وسرايا التوحيد، وكتائب الأهوال، وجيش أهل السنّة. وفي اكتوبر من العام نفسه، تم دمج جميع الفصائل في إطار تنظيم القاعدة الذي اعتبر النواة الصلبة المحيطة بأبي عمر البغدادي، التي اعتبرت نفسها أكثر تأهيلا، وشرعا، وجهادا لإعادة الخلافة.

 

أعلن حامد الزواوي (أبو عمر البغدادي) تأسيس “الدولة الإسلامية في العراق”، ومن ثم أعلن المتحدث الرسمي محارب الجبوري تشكيل حكومته، وكانت هيمنة العراقيين واضحة على التنظيم، فأنشأ لجاناً عدة أسماها وزارات، وعمل أبو عمر البغدادي على تطوير هيكلية التنظيم، ومنها الهيئة الشرعية، ومجلس الشورى، والجناح العسكري، وكتيبة الأمن والاستطلاع، وقسم الإعلام، واللجنة المالية.

 

مع مقتل حامد الزواوي (أبو عمر البغدادي) ووزير حربه أبو أيوب (أبو حمزة المهاجر)(2) في 19 حزيران 2010، بادر التنظيم إلى مبايعة إبراهيم البدري (أبو بكر البغدادي) في 16 أيار 2010.

 

لا شك أن أبو عمر البغدادي أرسى الهيكلية التنظيمية، ولكن الذي طوّرها هو أبو بكر البغدادي الذي نجح مع خريجي سجن “بوكا” بتقديم النسخة الثالثة لتنظيم القاعدة في آخر صيغة، وأكثرها تطورا، بشكلٍ مختلف عن سابقاتها، النسختين الأولى والثانية، وبصموا التنظيم ببصمة عراقية، ونجحوا بتحويل الأخلاط الهجينة إلى جيش يزاوج بين التركيب التقليدي للجيوش النظامية، وأسلوب عمل المجموعات الانصارية، والتنظيمات السرية. ففي سجن “بوكا”(3) تجمّعت تلك العناصر والخبرات والطاقات. يقول إبراهيم البدري(4) (أبو بكر البغدادي): “كان سجن “بوكا” مصنع إنتاجنا، ومكوّن نهجنا الفكري، وهؤلاء المعتقلون يحملون قدراً عظيماً من الأهمية”.

 

النسخة الثالثة: تنظيم الدولة في العراق و الشام (داعش)

 ينتمي بدوره الى السلفية الجهادية، وولد من رحم قاعدة خراسان، و لكنه امتلك طاقات، وامكانات هائلة من المتحولين من البعث الى الجهادية السلفية، و كأن التنظيم ولد في ظروف مناسبة، و توفرت له بيئات شعبية، و عشائرية نتيجة قرار بريمر بحل الجيش العراقي، ومن ثم التخلي عن الصحوات، واعتماد المحاصصات الطائفية والمذهبية التي تكرست بدستور بريمر، وهيئة اجتثاث البعث، وما رافقها من تنكيل، واستنسابية، واضطهاد، بالإضافة إلى الارتكابات التي جرت بحق البعثيين، ومن كان في صفوف النظام السابق، وطاولت الضباط، والطيارين، والخبراء، والمديرين العامين، والقضاة، وتعزيز الصراع المذهبي والطائفي باحتكار السلطة والنفوذ من قبل جماعة بعينها، وبدعم من الأميركي، وإهمال المناطق ذات الكثافة السنية، وصعود المسألة الكردية، وعجز الدولة عن احتوائها، إلى الجهل، والفساد، والافقار الذي عاناه العراق عموما، والسنة خاصة، فكان الاطار التنظيمي جاهزا لاستقطاب المطرودين من الجيش والامن، و البعثيين، والصحوات، و بدأ العمل لايجاد صيغ توافقية بين ضباط الجيش السابق، و الكوادر الجهادية، لاسيما أن عبء مقاتلة المحتل الأميركي وقعت بصورة أساسية على ضباط، وموظفي، وأعضاء حزب البعث، والسلطة السابقة، و هذا تطلب انشاء مجلس من الضباط السابقين في اطار يجمعهم مع الهيئات الشرعية و الارشادية.

 

هذا التزاوج عزز فكرة الدولة على أساس الهوية القائمة على العقيدة الدينية، وقوامها دولة ترفض الحدود، و تعتبر ان المسلم السلفي، عراقيا او غير عراقي، هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة التكوين المجتمعي الهجين للعراق، و ان فكرة جمع العراق و الشام مرتبط بالسيطرة على اراض ذات اغلبية سنية باعتبارها السبيل الوحيد لتجميع السنة، والاحتفاظ بهم كقوة، و هذا يحتاج لفكرة رفض الحدود، وهنا يبرز دور الكادر العراقي في بلورة استراتيجية التنظيم، و منها الهيكلية التنظيمية و العسكرية، و نجاحه في اطار يجمع خليطا من المتضادات من المعتقدات الدينية، من جهة، و الحسابات الاستراتيجية، من جهة اخرى.

 

لقد كان سمير الخلفاوي، ورفاقه علمانيين في حزب البعث، ولكن ارادوا اكتساب شرعية من الله حيث يقول سمير الخلفاوي ( حجي بكر ) ان “السيطرة على الشعوب يجب ان تكون بيد فئة قليلة من النخبة لانها تحكم باسم الهدف الاكبر، و تكتسب شرعيتها من الله، او من عظمة التاريخ”. لكن المعتقدات الدينية المتطرفة وحدها لا تكفي للوصول الى النصر. لقد نجحوا ببلورة نوع من التوليفة القادرة على تجميع التناقضات ما بين العلماني السابق، و ما بين صاحب رؤية، فانتجت حالة سرعان ما ترجمت نفسها  ب ” الدولة الاسلامية “، و هذا ما يفسر سرعة تعيين خليفة .

 

في السجن جرت اللقاءات، والتعارف، وتبادل الآراء، والأفكار بين ضباط الجيش العراقي السابقين، وبين الجهاديين، وليست بالضرورة في وقت واحد، إنما في فترات ما بين 2005 و2008 وأبرز هؤلاء العقيد سمير بن حمد الخلفاوي(5) والعميد إبراهيم الحباني، والعميد عدنان إسماعيل الببلاوي(6)، والعقيد عدنان نجم، والعقيد فاضل العفري، والعقيد عاصي العبيدي، والعقيد فاضل العيساوي، والعقيد مازن نهير، والعقيد مهند لطيف السويداوي، والعقيد نبيل المعيني، والمقدم محمد الحيالي، والمقدم ميسرا الجبوري، والشيخ إبراهيم بن عواد البدري(7) (أبو بكر البغدادي) وكانت تجري بينهم حوارات، ونقاشات، واتفقوا على اللقاء خارج السجن للعمل معاً(8).

 

حالة هجينة

 

كان “تنظيم الدولة في العراق والشام” محلياً – مستقلاً عن “القاعدة- 1” و”القاعدة- 2″، بل جيشاً تقوم هيكليته على أسس فقهية شرعية، يرأسه خليفة تتوفر فيه شروط الولاية، كالعلم الشرعي، والنسب القرشي، وسلامة الحواس، وسائر الوظائف الدينية والدنيوية المذكورة في التراث السياسي – الإسلامي السني كقائد ديني وسياسي له حق الطاعة بعد اختياره من قبل مجلس الشورى وأهل الحل والعقد(9).

 

وصُمم التنظيم بشكل يستطيع الخليفة إدارة شؤونه، وتدبير حكمه باعتباره دولة إسلامية مكتملة الأركان، والشروط، والبناء الهيكلي من خلال ترسيخ مبدأ البيعة والطاعة، الأمر الذي يضمن مركزية التنظيم، وسيطرة الخليفة على كافة مفاصل التنظيم إشرافاً مباشراً على المجالس بحيث تعتبر المجالس المفاصل الأساسية لتنظيم الدولة.

 

بنيان التنظيم

 

الخليفة: وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويتمتع بصلاحيات واسعة في تعيين وعزل رؤساء المجالس بعد أخذ رأي مجلس الشورى، والذي تعتبر استشارته غير ملزمة للخليفة.

 

مجلس الشورى: وهو مصدر القرارات، ورسم السياسات العامة، وتقديم التزكية لاختيار الأمراء والقادة.

 

الهيئة الشرعية: وتعتبر أحد أهم مفاصل تنظيم الدولة نظراً لطبيعته الشرعية، وتعتبر الملف الأمني من ضمنها، وتقوم الهيئة بإصدار الكتب، وصياغة الخطابات، والبيانات، وتنقسم الهيئة إلى قسمين رئيسيين، الأول، يتعلق بتطبيق المحاكم الشرعية، ومؤسسة القضاء، والثاني، بعملية الوعظ، والتجنيد، والتعبئة.

 

 جهاز الأمن: هو نموذج عن المخابرات العراقية المستنسخة عن وزارة الأمن في ألمانيا الشرقية (ستاسي)، وهي تشرف على كل المجالس والهيئات، وتضع الهياكل التنظيمية، وقوائم المسؤولين، ومراقبة عمل الأمراء في الولايات والقطاعات، والمدن، وحماية التنظيم من الاختراق، وتشرف على الوحدات الخاصة، كوحدة الاستشهاديين، والانغماسيين، ويتولى جهاز الأمن نقل البريد، وتنسيق التواصل بين مفاصل الدولة، كما لديه مفارز خاصة للاغتيالات، والخطف، وجمع المال.

 

الهيئة الإعلامية: تلعب دوراً أساسياً داخل هكيل التنظيم، وتنظيم الدولة، وتهتم  بالمسألة الإعلامية بشكل كبير، وانشأت جهازا امتلك قدرات تقنية خاطبت بها اللعبة الإعلامية في النشر والتضليل، وعكست أهداف التنظيم.

 

المجلس العسكري: يعتبر الأهم داخل التنظيم، تولاه العقيد سمير الخلفاوي، وبعد مقتله في كانون الثاني 2014، ترأسه العقيد عدنان إسماعيل الببلاوي والذي قتل بدوره في حزيران 2014، ويترأسه حالياً العقيد فاضل الحيالي، وهو من ضباط الحرس الجمهوري العراقي السابق. والمجلس عبارة عن قادة القطاعات العسكرية، وكل قطاع يتكون من ثلاث كتائب، وكل كتيبة تضم 350 مقاتلاً.

 

وينقسم المجلس إلى قيادة أركان، وقوات اقتحام، وسرية الاستشهاديين، وقوات الدعم اللوجستي، وقوات القنص، وقوات التفخيخ، ويقوم المجلس بكافة الوظائف، والمهمات العسكرية، كالتخطيط الاستراتيجي، وإدارة المعارك، وتجهيز الغزوات، إضافة لإدارة التسليح والغنائم.

 

ويوجد في التنظيم وزارتان للمال والاتصالات(10).

 

التقسيم الإداري

 

تقسم الولايات إلى قواطع، وفي كل ولاية مسؤول، يعاونه مجموعة من الأمراء، مثال: الأمير العسكري، الأمير الشرعي، الأمير الأمني، ويشرف هؤلاء بدورهم على أمراء المدن. ولدى التنظيم دواوين، كديوان التعليم، والصحة، والزكاة، وهيئة خدمات المسلمين، وديوان الزراعة، والعقارات، وديوان العشائر، والمرور، والمياه، والعمل، والحسبة، والمحكمة، والشرطة، والدعوة، والأوقاف، وديوان الهبات والتبرعات، وعوائد الأجانب المخطوفين(11) ومجالس محلية أخرى (12).

 

اعتمد التنظيم على العنصر العراقي في معظم مفاصله الرئيسية، وعلى الأعضاء العرب والأجانب في إدارة الوظائف المساندة كالشورى، والإعلام، والتجنيد، وجمع التبرعات. واعتمد بشكل خاص على حلقة تلعفر التركمانية في المواقع الأمامية، وفي مقدمتهم أبو علي الأنباري(13) ، وعلى العرب في المؤسسة الإعلامية السوري طه صبحي فلاحة (أبو محمد العدناني)، كناطق باسم الدولة الإسلامية. وبالرغم من عملية الدمج بين العرب والأجانب، يبقى المكوّن العراقي متمتعا بأرفع المناصب وأخطرها.

 

لقد نجح إبراهيم البدري (أبو بكر البغدادي) بتحديث التنظيم باعتماده في الجانب العسكري على الضباط العسكريين في الجيش العراقي السابق، وفي مقدمتهم الخلفاوي(14)، وعبد الرحمن الببلاوي، فتحول الجناح العسكري إلى ما يشبه القوة النظامية بشكل متماسك ومحترف. ونجح البدري في استثمار العرب والأجانب، خاصة أبناء الخليج: أمثال السعوديين عمر القحطاني، وعثمان نازح العسيري، والبحريني تركي بن مبارك (المعروف تركي البنغلي، والشيشاني باتيرا شغلي (أبو عمر الشيشاني) وأبو همام الأتربة.

 

بالرغم من كل البنى، والهياكل التنظيمية، لم يخرج تنظيم الدولة عن كونه تنظيم ميليشاوي تسوده الفوضى والمحسوبية، وبالرغم من الترويج لفكرة تنظيم الولايات، واعتماد 18 ولاية ما بين سوريا والعراق، ظلت هذه الولايات، والإدارات، والمجالس تفتقد إلى الضوابط والتنظيم. ولكن بدون شك نجح البغدادي في إيجاد نوع من التماسك التنظيمي كونه اعتمد على عناصر أساسية في بناء “تنظيم الدولة الاسلامية”، وهذه العناصر ساهمت بضبط البناء الهيكلي، وآليات العمل، وهي الاستفادة من خبرة الضباط العراقيين السابقين على المستويات كافة: الامنية، والعسكرية، والتنطيمية، خاصة تطوير الخطط، والاساليب القتالية.

 

و عمل البغدادي على تأمين موارد مالية ضخمة عبر السيطرة على ابار النفط، والمعادن، والاثار، والجزية، والزكاة، والخطف لتحقيق مشروعه، واعتمد على الاعلام كوسيلة مركزية خاصة في ما يعرف بالحرب النفسية عبر بث الصور، والفيديوهات، و اتبع سياسة المفاوضات مع العشائر، والبيئات الاجتماعية، والشعبية المحلية مستفيداً من درس الصحوات، بينما مارس القتل والذبح، والترويع مع الاقليات، واعتمد سياسة التشدد مع اي فصيل، او تنظيم يريد التعاون معه على قاعدة الندية (البيعة او القتال)، وعمل على تنظيف المناطق التي يسيطر عليها، واحيانا بضربات استباقية ضد اي مجموعة سكانية يمكن ان تشكل قاعدة اجماع ضده، او رفضا لممارسته .

 

أفرع تنظيم القاعدة

 

فرع سيناء2002 : فهو الأقرب فكرياً وإيديولوجياً للتنظيم الأم من حيث البنية التنظيمية باعتماد الخلايا العنقودية مع توسع بالتشكيلات العسكرية، وهو يعتمد الخلايا الصغيرة للخطف والقتل، مثال: تفجيرات طابا 2004 باسم كتائب التوحيد الاسلامية، و2005 كتائب عبدالله بن عزام، والمجموعات الكبيرة لشن هجمات بأعداد كبيرة، على سبيل المثال،

(200) عنصر مزودين بالرشاشات والقذائف الصاروخية. هذا التطور النوعي كان نتيجة تبادل الخبرات، والتدريب، وتهريب الأسلحة مع قطاع غزة عبر الأنفاق، وبالتعاون مع “جيش الإسلام” في غزة، وهم سعوا إلى إنشاء إمارة الشيخ زوايد بإسم أنصار الشريعة ، وساهمت الثورة الليبية بامداد جماعة سيناء بكافة انواع الاسلحة، وبرزت قيادات جديدة غالبيتهم من المهربين، ومنهم شادي المنبعي، وسلامة ابو دين، و 2012 برزت قوة جديدة باسم انصار بيت المقدس .

 

فرع باكستان: كان ما يشبه الدرع والملاذ والممر اللوجستي والمراسلات بين الأفرع، ولكنه كان أقرب إلى طالبان بتركيبته، وتشكيلاته العسكرية، والتنظيمية، وهو نسخة متطابقة مع طالبان الدولة، وليس الخلايا، والمجموعات السرية.

 

بوكو حرام: شكل نموذجا مختلفا عن بقية الأفرع حيث سعى إلى التمدد في شمال نيجيريا، وتمدد إلى غرب أفريقيا وخصوصا مالي، بينما انتشرت “حركة الشباب الصومالية” في الصومال، وتمددت نحو أثيوبيا، وكينيا مستغلة عدم قدرة الاتحاد الأفريقي التورط في البلاد أكثر، وهذه حركة تتمتع بهيكلية تنظيمية معززة بتحالفات قبلية، وتشكيلاتها أكبر من تشكيلات طالبان في أفغانستان وباكستان، وهي ليست تنظيما يعتمد الخلايا، إنما هو مشروع يسعى للسيطرة على القرن الأفريقي.

 

الجزائر: وفيها ما يعرف ب”الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، تزعمها عبد الملك دروكدال (أبو مصعب)، وعاونه مختار بلمختار الذي تولى الإشراف على منطقة الصحراء الكبرى على الحدود مع مالي والنيجر، وهما اتبعا نفس أسلوب تنظيم القاعدة الأم في تنفيذ العمليات العسكرية كالخطف، والتفجير، والعمليات الانتحارية، فكان الهجوم المزدوج بالسيارات المفخخة على قصر الحكومة، ومركز للشرطة في نيسان 2007، وعملية انتحارية استهدفت تجمعاً سكنياً في مدينة باتنة في 15 أيلول 2007، وهجوم على منطقة الأخضرية بولاية اليوبرة 2007، واختطاف سائحين من جنوب تونس 2008، وأربع سياح بريطانيين 2009، وقتل ناشط أميركي في موريتانيا 2009، ومع العام 2012 بدأ التنظيم بالتوسع إلى غرب أفريقيا، وأعلن عن تشكيلات عدة بإسم جند الخلافة.

 

اليمن: وفيها ما يعرف ب “أنصار الشريعة” واقتصر عملها في البداية على التجنيد، ورفد التنظيم بالمتطوعين لا سيما في أفغانستان، ولاحقاً العراق، ومن ثم التدرج إلى الأعمال العسكرية كضرب المدمرة أس – أس كول، والهجوم على فندق في عدن، وناقلة النفط الفرنسية، وقتل الأطباء الأميركيين بمحافظة إب، وإطلاق صاروخ على طائرة تابعة لشركة نفطية، ومع تصاعد الصراع في اليمن، استفاد التنظيم من حالة الفوضى، وضعف الدولة، وبدأ بالتوسع نحو أبين وشيوه وزنجبار بعد توحد تنظيمي القاعدة في اليمن والسعودية تحت لواء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.

 

وبرز ناصر الوحيشي (أبو بصير) من شبوه، وكان سكرتيرا لأسامة بن لادن، و بمثابة الرجل الثاني بعد الظواهري، و قتل في يونيو 2014، وقاتل في أفغانستان أواخر التسعينات، وشارك في “تورا بورا” قبل أن يعود إلى اليمن حيث اعتقل،  ومن ثم فرّ من السجن 2006، فأسس فرع القاعدة مع قاسم الريمي الفار من السعودية، واقتصرت البنية التنظيمية على قيادة محلية معلومة، ومعلنة معززة بتحالفات قبلية خاصة بعد أن لجأ التنظيم إلى الأعمال الخدماتية مستفيداً من غياب الدولة.

 

ولكن لا تزال القاعدة الأكثر انتشارا رغم إعلان ناصر الوحيشي قبل مقتله ولاءه لابراهيم البدري، ولكن لم يعرف من والى ومن بقي في القاعدة خصوصا في حضرموت وأبين.

 

ليبيا: الفرع الأكثر تعقيداً، ولغاية الآن لم يتبلور  له شكل تنظيمي، إنما يطغى عليه الطابع المناطقي، كأمير كتيبة الشريعة في درنة (سفيان بن قمو)، أو كتيبة الشهداء في بنغازي (سالم البراني)، أو قائد أنصار الشريعة (مفتاح الدوادي)، أو قائد جماعة التكفير والهجرة (حسن الحمر)، أو قائد الجماعة الإسلامية في درنة (عبد الباسط عزوز)، معظمهم قاتل في أفغانستان، وأبرزهم عبد الحكيم بلحاج الذي كان في طليعة المتطوعين في أفغانستان 1988. ونظراً لحداثة التنظيمات في ليبيا، والفوضى السائدة بعد سقوط حكم القذافي، لم تتوحد بعد المجموعات تحت راية واحدة، و أبرزها الآن كتيبة الشريعة التي تعتمد لجنة شرعية تهتم بضبط الكتائب، و يترأسها محمد علي الزهاوي، ويعاونه ناصر الطرشان، وفيها جناح دعوي، ويهتم بتوزيع المساعدات، ولديها فرعان في سرت، و اجدابيا، ولديها مسؤول في سيناء وهو محمد جمال ابو احمد، ويتولى نقل الاسلحة الى سيناء.

 

فرع الشيشان:

 

أسسه السعودي تامر صالح السويلم (خطاب) سنة 1995،  والتحق خطاب بالمجاهدين سنة 1988 بأفغانستان، وشارك في أغلب معاركها، ثم كلفه أسامة بن لادن تدريب الشيشانيين، والأتراك، والطاجيك للقتال إلى جانب جوهر دوداييف، وبذلك توطدت العلاقة بين الانفصاليين الشيشان وتنظيم القاعدة، وفي 1995 غادر خطاب أفغانستان إلى الشيشان، وعمل مع شامل باسييف في أعمال عسكرية كثيرة، ومنها معركة غروزني 1996، ولكن كانت إمارة القوقاز 2007 ذات طابع خاص تسعى إلى الانفصال، والاستقلال كدولة، وليس كباقي فروع القاعدة التي تعتمد الخلايا السرية، لذلك لم تتوسع القاعدة في الشيشان كتنظيم مستقل عن إمارة القوقاز، إنما قدمت لها إسهامات وخبرات عسكرية. بالمقابل، قدم الشيشانيون مقاتلين لتنظيم القاعدة في أماكن كثيرة.

 

جبهة النصرة لأهل الشام (فرع سوريا):

 

مع تفجر الأحداث في سوريا 2011، برز في سوريا فرع لتنظيم القاعدة انشق عن “تنظيم الدولة الإسلامية” في العراق عرف ب”جبهة النصرة” التي بدأت أعمالها بصورة مباشرة في كانون الثاني 2012 بعد مرور أشهر على الأحداث السورية. اعتمدت الجبهة نفس أسلوب تنظيم القاعدة من حيث الخلايا العنقودية، والأساليب، تمثل ذلك في تفجير السيارات، ومهاجمة القواعد العسكرية، والمنشآت، والمؤسسات، واستهلت باكورة أعمالها بتفجير مبنى قيادة الأركان في دمشق أوائل أوكتوبر 2012، وتفجير مبنى المخابرات الجوية في حرستا، والقيام بتفجيرات انتحارية في حي الميدان بدمشق، ومهاجمة محطة تلفزيونية للحكومة السورية في بلدة دروشا جنوب العاصمة دمشق، وتفجير ثلاث سيارات في 3 أوكتوبر 2012 في ساحة عبد الله الجبري في حلب قادها انتحاريون، وتفجير فرع الأمن الجوي، وإدارة الأمن الجنائي بدمشق، قتل 13 رجل في دير الزور رميا بالرصاص في 29 مايو 2012، والقيام بعدد من التفجيرات الانتحارية في مدينتي حمص ودمشق، ومن ثم تطورت أعمال الجبهة إلى شن هجمات بأعداد كبيرة على شكل كتائب وسرايا، والهجوم على قاعدة الدفاع الجوي في حلب في 12 أوكتوبر، وثكنة هنانو في حلب، وقاعدة النعمان، والهجوم على قاعدة تفتناز في نوفمبر 2012.

 

في 25 مايو 2012، أعلن أسامة واحدي (أبو محمد الجولاني) تشكيل جبهة النصرة، وكان سبق ذلك في 10 نيسان إعلان مبايعة الظواهري، وخلع بيعة البغدادي، مما أدى إلى نشوب اقتتال بينهما، واراد من ذلك استيعاب الخصوصية الشامية، ورافضا استنساخ تجربة الدولة الإسلامية في العراق.

 

سرعان ما نمت قدرات الجبهة لتصبح من أبرز التنظيمات المسلحة في سوريا، وجل عناصرها كانوا من السوريين الذين قاتلوا سابقا في ساحات القتال في أفغانستان والشيشان والعراق ممن لهم باع طويلة في قتال الجيوش النظامية، ومنهم أبو محمد الجولاني 15، وأبو مرايا القحطاني 16، وأبو همام الشامي 17، ومحمد سرور 18.

 

تعتمد الجبهة هيكلية متنوعة كونها جبهة، وليست إمارة كخلايا سرية، ومجموعات صغيرة، ولديها تشكيلات عسكرية شبه تقليدية عبارة عن وحدات مقسمة إلى ألوية وأفواج وفصائل. أي تشكيلات تتغير حسب طبيعة المعركة، ووفق مقتضيات مسرح العمليات، وهي، كمثيلاتها، تتمتع بالمرونة، والحركة، والتنقل، والقدرة على التخفي. وتتمتع بالمبادرة في اتخاذ القرار باعتماد آليات عمل مرنة بفضل اللامركزية بحيث يتمتع كل أمير بصلاحيات التنفيذ، وتقدير الموقف، ويتمتع مقاتلو الجبهة بالخبرة في استخدام كل انواع الأسلحة، وتصنيع العبوات المتفجرة، ويمتلكون خبرة في بناء الأنفاق، وكيفية استهلاك كميات قليلة من الذخائر في مواجهات كبيرة، فالتقنين في استخدام الذخيرة يحتاج إلى مهارات، وخبرات قتالية للقيام باستنزاف الجيوش النظامية. ومن هذه الفنون الاختباء، والتمويه، والاختبارات النارية، والهجمات الوهمية، وكثرة الاستطلاع، ودقة التصويب، وخفة الحركة.

 

هيكلية تشكيلات النصرة 19:

 

تتكون الوحدات القتالية من “مجموعات” تتألف من 15- 25 عنصر يقودها أمير، و”سرايا” ولها مسميات مختلفة عددها بين 100-200 يقودها أمير يشرف على عمل المجموعات التابعة بحسب التقسيم المناطقي، ويحاسب أمراء المجموعات على أعمالهم.

 

أمراء الأقاليم هم المسؤولون عن العمل العسكري، والإغاثي، والدعوي على مستوى المحافظات، ويتمتع أمراء الاقليم بصلاحيات عسكرية واسعة باستثناء القرارات الجوهرية، والمهمة فهم بحاجة للرجوع إلى مجلس شورى المجاهدين.

 

مع تدفق المقاتلين العرب والأجانب وزيادة انتساب السوريين تمددت الجبهة في ريفي حلب الغربي والشرقي، وما بين محافظتي حلب وأدلب، وريفي حماة واللاذقية، وبعض مناطق القلمون وحوران.

 

تعتبر جبهة النصرة من أكثر التنظيمات تنظيما وانضباطا، وتميزت بالمرونة مع السكان المحليين وإقامة التحالفات مع بقية الفصائل المسلحة، وتحظى بدعم كبير من تركيا وقطر مما عزز حضورها على الساحة السورية، وهي تؤتمر من أيمن الظواهري بشكل مباشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الهوامش

 

1 حلف المطيين: نسبة إلى حلف عقد قبل الإسلام بين أفراد من قريش لإعانة بني مناف بني قصي في اخذ ما اورثته قصي بن كلاب لبني عبد الدار بن قصي.

 

2 أبو أيوب أو أبو حمزة المهاجر (المصري عبد المنعم عز الدين البدوي كان مساعداً لأيمن الظواهري).

 

3 كان يضم سجن بوكا 24 معسكراً وفي كل معسكر ألف معتقل، وفقاً لهشام الهاشمي وهو محلل مقيم في بغداد أن تقديرات الحكومة العراقية أن 17 قيادياً من داعش من بين الـ25 الأهم الذين يديرون الحرب في العراق وسوريا أمضوا وقتاً في السجون ما بين 2004 و2011 .

 

4 خلافة داعش من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم، هيثم المناع.

 

5 سمير الخلفاوي (حجي بكر) أمضى في السجن من 2006 لغاية 2008 وتنقّل ما بين سجني بوكا وأبو غريب وقتل في تل رفعت بحلب في كانون الثاني 2014.

 

6 العميد عدنان الببلاوي وهو صاحب خطة الاستيلاء على الموصل ووضع الخطة في السجن وقتل قبل الهجوم على الموصل لذا سميت العملية باسمه، امضى في السجن من 27 كانون 2005 لغاية 2008 وقتل في 2014 في الموصل.

 

7 إبراهيم البدري (أبو بكر البغدادي) أمضى في السجن من 2006 لغاية 2008.

 

8 يقول أحد قادة داعش: اتفقنا جميعاً على أن نلتقي عندما نخرج، وكانت وسيلة الاتصال سهلة جداً، كتبنا تفاصيل كل شخص منا على شريط الإستيك المطاط الموجود في السراويل الداخلية، كان كل شخص مهم بالنسبة لي مكتوب على شريط المطاط الأبيض، كان عندي أرقام هواتفهم وقراهم، كان الكثير منا قد عاد بحلول 2009 فتواصلنا عندما خرجنا وعدنا للقيام بما كنا نقوم به قبل اعتقالنا (راجع مركز دراسات الجزيرة).

 

9 شروط الولاية (بوابة الحركات الإسلامية للدراسات).

 

10 للاطلاع أكثر راجع مركز عمران للدراسات الاستراتيجية (تاريخ الإصدار 15 أيار 2015).

 

11 للاطلاع أكثر على آلية عمل المجالس راجع مركز عمران للدراسات الاستراتيجية-تاريخ الإصدار15 ايار 2015.

 

12 للاطلاع راجع مركز الجزيرة للدراسات–حسن ابو هنية.

 

13 حلقة تلعفر كان مسؤول عنها أبو علي الأنباري، علاء قرداش وهو من أسرة تركمانية من تلعفر، (خلافة داعش من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم، هيثم المناع).

 

14 كان ما فعله الخليفاوي (حجي بكر) هو تعديل بسيط على ما تعلمه في الماضي في نظام صدام حسين وأسقطه على هيكلية تنظيم الدولة: راجع وثائق ديرشبيغل، عرفت تلك الوثائق بوثائق حجي بكر، وجدت في منزله على أثر مقتله في تل رفعت بحلب 2014، وتبين تلك الوثائق المكتوبة بخط يد حجي بكر أن التنظيم لم يكن دينياً بل مخابراتياً، خلافة يترأسها منظمة شبيهة بوزارة الأمن في ألمانيا الشرقية (ستاسي) وأن حجي بكر رجلاً قومياً كما وصفه الصحفي العراقي هاشم الهاشمي بأنه كان ضابطاً في قاعدة الحبائية الجوية، وكان بارعاً في الأمور اللوجستية.

 

15 أبو محمد الجولاني (السوري اسامة واحدي من أدلب-بلدة الشحيل. بعد خروجه من السجن غادر إلى العراق وعمل مع أبو مصعب الزرقاوي ومن ثم مع أبو بكر البغدادي وعاد إلى سوريا 2011.

 

16 أبو ماريا القحطاني : العراقي ميسر علي موسى عبد الله الجبوري.

 

17 أبو همام الشامي: السوري سمير حجازي.

 

18 الشيخ محمد عبد اله سرور من حلب وهو مؤسس تجمع شباب وعلماء النهضة وهو يتولى الإشراف على الهيئة الشرعية.

 

19 حمزة مصطفى المصطفى: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات- نوفمبر 2013.

 

الفصل الثاني: داعش و أساليب القتال

 

أدى تراكم الخبرات العسكرية، تاريخيا، إلى بلورة أسلوب مركب، دمج بين الأسلوبين القتاليين النظامي والأنصاري، وساهمت ببلورته تجارب كثيرة في العالم، وأثمر ما يعرف بالاسلوب الهجين او المركب.  واعتمد تنظيم الدولة الدمج بين أسلوب الضباط العسكريين السابقين، مع أسلوب المجموعات الجهادية التي تعمل بأسلوب حرب العصابات، وانتج قوات عسكرية اقرب ما تكون الى جيوش صغيرة، او جيش شعبي، ونجح التنظيم بتلخيص التجربة، وتطبيقها (1). وكان لافتاً تطور حرب العصابات في مواجهة المدرسة الكلاسيكية في العقدين الاخيرين نتيجة التفاعل بالثقافات، و التجارب، و هذا جعلها ترتقي بوسائلها، وساحات اشتباكها، و قدراتها التقنية، فالحركات الجهادية مرت بعدة مراحل، وتجارب .

 

واعتمد تنظيم القاعدة، والتنظيمات المرتبطة به بشكل مباشر او غير مباشر، ما يعرف بالحرب الهجينة، فقدمت أسلوبا بأشكال، و مستويات مختلفة طبقا لمكان تواجدها، و نوعية مسرح العمليات. ففي داخل الدول التي تمتلك حكومات، و انظمة قوية، و متماسكة، كان دور القاعدة يقتصر على عمليات انتحارية، وهجمات محدودة ضد منشآت حكومية، وعسكرية كما في حال القاعدة اليوم في المغرب، اما الدول التي لا توجد فيها سيطرة قوية للحكومات مثل العراق، فقد شنت حرب عصابات مصحوبة بهجمات انتحارية، واعتمدت وسائل كثيرة، ومنها القصف المدفعي، و الصاروخي ضد الأهداف الأمريكية، و العراقية .

 

بينما ما جرى في معركة غروزني 1996 يعتبر تحولاً  في حرب المدن، وهي اصعب الحروب الحديثة كونها جرت في المناطق المأهولة بالسكان، لذا هي معقدة، وتحتاج الى خبرة كبيرة. وطوَر الشيشانيون أساليب القتال بإعتمادهم على تشكيلات خفيفة، و على درجة عالية من اللامركزية بحيث يمكنها الدفاع ضد قوة كبيرة. وتعتبر تكتيكات الشيشانيين في حرب المدن تطورا خاصا، أضاف على تجربة الحروب الهجينة أو المركبة بعدا جديدا ومتميزا، من شأنه التأسيس إلى نسخة رابعة تحتاج إلى توسع وبلورة.

 

تمثلت استراتيجية الشيشانيين في النقاط التالية : جر الجيش الروسي الى مسرح العمليات التي تتناسب مع وضعياتهم، و هي غالباً داخل غروزني، او الهجوم على مؤخرات الجيش الروسي، و تمديد مدة المعركة لتكبيد الجيش الروسي خسائر كبيرة. عملت القيادة الشيشانية على بلورة دفاعات فعّالة ضد القصف، وأمرت القوات أن تكون الحركة دائماً داخل غروزني حتى لا يكون هناك خط جبهة مستقر، و كانت خطتهم استدراج الجيش الى وسط المدينة حيث يصعب الانسحاب منها، و من ثم الانقضاض عليه.

 

كان تكتيك الشيشانيين فعّالاً جداً بحيث كانت التشكيلات عبارة عن مجموعات تضم ثمانية مقاتلين، اثنان برشاشات ثقيلة، و اثنان بمضادات للدروع، وواحد قنّاص، و ثلاث برشاشات خفيفة. توزعوا كـ: ممرض و متحدث باللاسلكي، و حامل ذخيرة، و تجتمع ثلاث من هذه المجموعات لتكوّن وحدة من 25 فردا حين يستدعي الأمر، و تجتمع ثلاث وحدات لتكوّن كتيبة من 75 فردا حين يكون الهجوم كبيراَ. كذلك اعتمد الشيشانيون على الالتصاق بمؤخرات الجيش الروسي بمسافات تقلّ أحياناً عن 50 متراً لمنع الطيران من استهدافهم. كما ان الطائرات العمودية لم تستطع المناورة داخل المدينة لأن المقاتلين يمتلكون صواريخ محمولة على الأكتاف مضادة للطيران، ويمكن القول ان سلاحين أسهما في النصر الشيشاني بامتياز، و هو سلاح ال “آر بي جي” والذي كان يحمله كل اثنين من كل مجموعة، و القناصة، و قد استعملوا هذين السلاحين بكثافة. و طور الشيشانيون قذائف ال “أر بي جي” بنزع غطاء الصاعق، وزيادة كمية المتفجرات، مما جعله فتاكاً يدمر الدبابة. و نتيجة تطور هذه الاساليب، لم يعد ممكناً التمييز بين القوات النظامية، والقوات غير النظامية، كما إنهم استخدموا صواريخ حديثة مضادة للدروع، إنما في اطار حرب العصابات. و في بعض المعارك، لجأ الشيشانيون الى عمليات انتحارية، و نصب كمائن مع هجمات مرتدة.

 

أما “تنظيم الدولة”، فقد استفاد من تلك التجارب، والخبرات، واعتمدها ضمن اساليبه المركبة و الهجينة، ومزج اساليب القتال من تقليدية وحرب نظامية، وهو ما اصطلح على تسميته بالحرب غير المتناظرة او اللامتكافئة، وهذه الاساليب طبقها في مسرح عمليات يمتد على 40 بالمئة من جغرافيا سوراقية العربية (سوريا و العراق ). وتميز التنظيم باستخدام عنصر المفاجأة، و الصدمة، والروع، والحركة السريعة، ومناورة القوات من بقعة الى اخرى، و سرعة في الاختراقات، و حسن في الاستطلاع، ودقة في تنسيق الوسائط النارية، وبراعة في الحركة و النار، و بذلك تحول من مجموعات تعتمد حرب العصابات ( اضرب و اهرب ) الي ميليشيا متطورة (جيش شعبي )، و هو تطور نوعي و فعلي من الخلايا العنقودية الى جيش يخوض مواجهات شاملة مع توظيف في التكنولوجيا، واعتماد على الانتحاريين. كما اختار في حربه الغزوات المفتوحة دائما كنهج اساسي.

 

اعتمد تنظيم الدولة الهجوم الدائم، او التحضير لهجوم، اوتطوير هجوم، او استغلال النجاح بهجوم جديد، و يكرر نفس الاسلوب: الهجوم المباغت ثم التثبيت، و هدوء الجبهة ثم الهجوم، و نادراً ما يلجأ الى الدفاع إلا في حالات استثنائية. و يهتم تنظيم الدولة بثلاثة امور: ١- الموقع الاستراتيجي. ٢- توافر الأسلحة. ٣- العناصر المدربة.

 

يعتمد التنظيم تشكيلات على شكل كتائب يتراوح عديدها ما بين 250 الى 300 عنصر، ويتم تقسيم الكتيبة الى سرايا، و كل سرية ما بين 50 الى 60 عنصر، و كل سرية تقسم الى اربعة فصائل، و كل فصيل الى 12 عنصر، بالاضافة لكل فصيل امير، وشرعي، وامني ، واداري، وهم لا يتنقلون على شكل ارتال كبيرة، و انما بمجموعات صغيرة، و على مراحل و من طرق عدة، و يفضلون المناطق الوعرة والنائية، و يتمتعون بمستوى عال من التدريب الذي يقوم اساسا على معنويات المقاتل، وسماته الشخصية الفريدة2، و على رأسها الاستعداد للتضحية في سبيل تحقيق اهداف القتال، و يركز التنظيم في التدريب على انواع عدة، وهي كيفية بقاء القوات المقاتلة على قيد الحياة، وعلى الاستعداد للقتال لمدة زمنية طويلة، و يركز على تعليم القادة كيفية امتلاك القدرة على المناورة في الميدان، وكيفية تنظيم القوات المقاتلة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كتاب “حرب المستضعفين” للسوري عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري)، نسخة مصححة لروبرت تابر.

 

2 هذه المبادئ وضعها اليمني نصر بن علي الأنسي الذي كان مدرباً و محاضراً في الأكاديمية العسكرية المهنية الجهادية و في اكاديمية  الفاروق للارشاد و هما تابعتان لتنظيم القاعدة.

 

 

 

الفصل الثال: مبادىء العمليات الهجومية عند تنظيم الدولة ( داعش )

 

أسس تنظيم الدولة أساليب خاصة ومبتكرة في عملياته، تتوافق مع الظروف الجغرافية، وبنى الخصوم، ومما اضافه على الحرب الهجينة أنه شكل مجموعات صغيرة تتسلل بأسلوب الهجوم الصامت، ثم تنضم عند فتح التشكيلات عند نقاط الهجوم لتصبح سرايا، و تتحول نسقا واحدا بمواجهة المدافعين، وهم مزودون بالقواذف الصاروخية، والرشاشات الثقيلة، و مدافع الهاون 60 – 81 – 82 ملم، ثم تتحرك إلى أقرب نقطة من خط الاشتباك، وفي وقت واحد يستخدم المهاجمون قذائف الهاون و ال “آر بي جي”، و مدافع ال ب- 10، ثم يعمدون الى زج العناصر الذين يحملون القاذفات الصاروخية، و الرشاشات الثقيلة ( دوشكا ، bkc )، و يمطرون الخصم بنيران كثيفة. بالتزامن، تقوم مراكز الإسناد بفتح كل الوسائط النارية البعيدة ( راجمات الصواريخ- مدافع الميدان ) على المواقع الخلفية لمنع المؤازرة فيما تصطاد مفارز القناصة التابعين له المدافعين اثناء فورة الهجوم، وهذا يشير الى اسلوب غزارة القوة النارية عند الهجوم(1).

 

في هذه الحالة تتغير وظيفة القنص من فعل هامشي خارج سياق المعركة الرئيسية الى فعل اشتباكي داخلها، و في ذروتها، و تبرز الرشاقة في الحركة و النار، وعادة يتم الهجوم بقوات ثانوية في النسق الأول، ويحتفظون بالقوة الرئيسية في نقاط ارتكاز خلفية، وعندما تضعف نقطة عسكرية في محور ما من خطوط الدفاع تتحرك القوة العسكرية نحوها، وتقوم بالانقضاض على المدافعين، بينما تستمر القوة الثانوية في النسق الاول في المشاغلة، وفي حالة الهجوم من مسافات بعيدة مكشوفة، والاشتباك البعيد، وهم يقودون شاحنات او سيارات مفخخة، كما يرسلون ممن يحملون احزمة ناسفة ( الانغماسيون )، او ما يعرف بمجموعات الالتحام لبث الرعب في صفوف المدافعين، ثم تدخل مجموعات مسلحة بالرشاشات المتوسط(bkc) و الثقيلة (دوشكا)، و هنا نلحظ ان العمليات الانتحارية كانت بهدف الرعب، و كسر الروح المعنوية، حيث يسبق الهجوم دائما حرب تمويه، واستطلاع ناري، وهجوم، ثم تراجع، مع اختلاق محاور قتالية ضعيفة لتشتت التركيز عن الهدف الرئيسي، ثم يبدأ هجوم الصدمة .

 

إضافة الى ما كان يفعله المقاتلون الشيشان اثناء الهجوم بالاعتماد على القواذف الصاروخية، والرشاشات الثقيلة، و المتوسطة، والقناصة في النسق الاول، اضاف عليها “داعش” الصواريخ الموجهة (تاو) و مدافع ب 10 محمولا على الاكتاف و صواريخ الغراد 107 (فوهات فردية ) لتوفير كثافة نار، ودقة في الاصابة.

 

و عندما يتخذ التنظيم موقف الدفاع، لا يعتمد ما يعرف بخط دفاع عمق، بل يجعل الخطوط الدفاعية نشطة ليصعب تحديد خط الدفاع الأول، وتعمد وحداته الى التفخيخ بالعبوات الناسفة، والألغام، و نشر أعداد كبيرة من القناصة بحيث تتولى القناصة اأاماكن المرتفعة، بينما يتم تفخيخ المراكز المتقدمة، ويتم تحريك مجموعات حول المراكز للقضاء على أي مدافع يحاول الانسحاب، وهذا تكتيك نفسي. و لدى التنظيم مجموعات أخرى تقوم بحركات التفاف على المهاجمين، مع الاعتماد على الانتحاريين لصد الهجوم، ولكن التنظيم عموماً يعتمد الهجوم كجزء من استراتيجية الدفاع عن مناطقه، و في كلتا الحالتين : الهجوم و الدفاع يتبع التنظيم المبادئ التالية :

1- مرونة عالية في الانتشار، والمواجهة، ودينامية في تغيير الخطط وفق مقتضيات الحاجة، و حسب تطورات القتال في الميدان .

2- تجنب الصدام المباشر مع الجيش النظامي لحرمانه من استخدام قوته النارية، و مهاجمته في أسوأ حالته.

3- اعتماد ساحة الحرب المفتوحة – الهجوم الدائم دون الاعتماد على خطوط ثابتة .

4- استثمار النجاح الحاصل في عمليات الاغارة، والضربات المفاجئة، و استغلال ضعف الخصم.

5- استثمار القليل من الافراد و المعدات غير المكلفة نسبياً بأسلوب يمكن أن يعرقل و يوقف قوات تقليدية، أكبر عددا، و اكثر تسليحاً.

6- العمل بمبدأ الانتشار المبكر للمجموعات كأسلوب الدفاع السلبي، ومقاومة الاستطلاع، و تجنب الضربات الجوية المركزة مع القدرة على اتخاذ التشكيل المناسب  للتعامل مع الخصم عند وصوله الى مناطق الاشتباك .

7- اعتماد مفعول النوعية بالنسبة الى السلاح الثقيل بدلاً عن الكمية، وعدم اقحامه في تشكيلات كبرى التي تكون ثقيلة الحركة كي لا يصبح عبئأ عند المواجهة الحاسمة، والاستعاضة عنها بوحدات مضادة للدروع .

8- التوسع في استخدام الراجمات الصاروخية، وكثافة النيران، والقوة التدميرية بحيث تجعلها أسلحة فعالة ضمن هذه المجموعات .

9- إعداد مراكز قيادة، و سيطرة أساسية، وبديلة متنقلة، وكذلك تخصيص مواقع بديلة لضمان استمرارية القيادة اثناء التحرك و الهجوم .

10- إخراج الخصم من منطقة الخندق، وهذا يتطلب حيوية، وهجمات مستمرة عبر الاختبارات النارية، والهجمات الوهمية.

 

ويلخص عبدالله بن محمد(2) القواعد الاساسية، و المبادئ القتالية على الشكل التالي:

لضمان تنفيذ آليات العمل العسكري، يجب العمل ككتلة متحدة، في نطاق معين، ومدروس بحيث أن لا تتشتت القوات، فتجنب تشتت القوة عامل مهم مهما بلغت مساحة الانتشار للمحافظة على القوات، وهذا، بنظره، من أهم مرتكزات الفعالية، ويضيف أن من يتقن حشد القوات هو من سيحسن التحرك .

 

لا شك ان “تنظيم الدولة الاسلامية” يختلف في قيادته عن القادة العسكريين من الجيوش النظامية، وشبه النظامية، فقادته، ومقاتلوه غير مقيدين بقوانين، وأنظمة الدولة، ولا يعيرون اهتماماً لتدمير الأملاك العامة، والخاصة، ولا يتقيدون بأية حرمات، كما لا يهتمون لسلامة الجنود، ويتمثل ذلك بكثرة العمليات الانتحارية دون موجب كبير، كما حصل في الهجوم على كوباني بأكثر من 60 انتحاري، وعلى مصفاة بيجي 20، والحسكة 32. إنهم لا يخضعون للمساءلة من جهات الدولة، والمجتمع، ومساءلة الأمير تحصل اذا لم يحصل الهجوم فقط .

 

اذا راقبنا معارك “داعش” و “النصرة” في سوريا و العراق نلاحظ غياب أية ضوابط على أداء القادة الميدانيين، وهذا جعلهم يتفوقون في مسرح العمليات .

 

ولكن تجربة “تنظيم الدولة الاسلامية” في العراق و الشام ليست معياراً في تحديد نسبة النجاحات، كون الخصوم يعانون نوعا من الانهاك، والاستنزاف يضطرهما إلى التردد، والحذر، فالنظامان السوري و العراقي استنزفت القوة التي كانا يتمتعان بها، وذلك نتيجة ظروفهما المعروفة، فالجيش السوري يخوض حرباً مركبة ومعقدة منذ 5 سنوات، وكذلك الجيش العراقي الذي لا يزال أسيراً لظروفه منذ الاحتلال الأمريكي .

 

لذا أظهرت المواجهات مع داعش محدودية الجيشين خاصة انها جرت في بيئة معقدة كانت تتطلب و تشترط في حد ذاتها جيوشاً حديثة، ومنظمة، لا أن يتم رفدها بمليشيات ك”الحشد الشعبي”، و”جيش الدفاع الوطني”.

 

و بالرغم من قوة “داعش”، فنقاط ضعفه واضحة، و هزيمته ممكنة، و أكيدة، فهو يتجنب المواجهات المباشرة و الجبهوية-الصدامية كما إنه يواجه صعوبات في الدفاع إذا تعرض لهجوم من نقاط متعددة. فالجيوش النظامية عادة تستفيد من اتساع المساحات كونه يسمح لها بتركيز قوات هجومية على أكثر من منطقة و مدينة. و بما أن تنظيم الدولة يفضل الهجوم، فإن اتساع الجغرافيا تفقده القدرة على التمسك بها، و هذا يعطي افضلية للجيوش النظامية لضربه في عدة مناطق في آن معاً، ففي حالة هجومية على منطقة يجب معالجة الموقف بشن هجمات مضادة، ومن محاور عدة، ومن أهم نقاط ضعفه انه لا يقاتل سوى في المناطق المسطحة ليتسنى له استعمال السيارات المفخخة، و يعجز عن المواجهات في الجبال، او قتال الشوارع مثال( كوباني ، الحسكة ، تل ابيض)، ويمكن اختراق منظومة الاتصالات لافقاده القيادة، والسيطرة، و عزل المجموعات عن بعضها البعض عبر اختراق، وتفكيك شبكة الاتصالات، خاصة ان وحداته تنتشر في جغرافيا واسعة و كبيرة، وذات تضاريس معقدة، وغير متصلة، ومتداخلة مع الخصوم، مما يسهل قطع الامداد والدعم. ومن هنا أهمية إعادة تصحيح مسار الجبهات إلى شكل جبهوي – صدامي مباشر، و تنظيف البؤر، والجيوب لمنعهم من التنقل من بقعة إلى اخرى. ففي كوباني نجح الاكراد في المواجهات المباشرة، و كذلك في تل أبيض، و الحسكة، كما نجح “حزب الله” في شرق حمص و القلمون، ويمكن افقادهم عنصر المفاجاة، والمبادرة عبر الدفاع الحيوي، والاغارات المتكررة، و الكمائن المتقدمة، و العمل خلف خطوطهم .

 

اما في الدفاع عن المراكز، و المقرات، و المواقع، فيجب وضع سواتر ترابية متعرجة ( زيك زاك )، وحفر خنادق متقدمة عازلة للحؤول دون وصول السيارات، والشاحنات المفخخة، و هذا يفقد مهاجمي التنظيم عنصر قوة الاقتحام، و يمكن تعزيز المراكز، و المقرات بابراج مرتفعة، و معززة بصواريخ موجهة مع قناصات “م ط”، و هذا متوفر و متاح لاصطياد تلك السيارات .

 

اما ما يعرف بمجموعات الانغماسيين، فيمكن تأمين وسائط نارية كثيفة بوضع  شبكة من مدافع الهاون 60 ملم بدرجة أقل من 90 بحيث يصبح المدى 100 مترا للتعامل مع المهاجمين لحظة الاختراقات والالتحام، مع نشر اعداد كبيرة من القناصة للتعامل مع المهاجمين عند فورة الهجوم بحيث تتحول القناصة من فعل هامشي الى فعل اشتباكي بداخلها. و هنا يجب أن تلعب الطائرات المروحية دورا أساسيا في اصطياد مجموعات الدعم و المؤازرة، ومن المعروف عن تنظيم الدولة عندما يتعرض لخسائر بشرية، يتراجع، و يعوض عن ذلك باختيار مناطق نائية لاقتحامها و ذبحها. لذلك تكمن هنا أهمية مجموعات الكمائن التي يجب أن تكون بانتظار خصومهم عبر توقع المناطق التي يمكن أن يهاجمها التنظيم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 نقاط الضعف و القوة عند داعش : علاء اللامي ، جريدة الأخبار ، تاريخ 29- تموز2014.

2 عبدالله بن محمد: مؤلف “المذكرة الاستراتيجية”، و”استراتيجية المعركة الاقليمية على أرض الشام”، و”حرب العصابات السياس

 

الخلاصة:

 

قدم تنظيم القاعدة بنسخه الثلاث، وفروعه المنتشرة في العالم، تجربة قتالية مميزة، وقدم إسهامات إضافية، وحول المجموعات والخلايا الصغيرة إلى جيوش عابرة للحدود، وقارع الجيوش النظامية، والأحلاف الدولية بإتقانه طرقاً وأساليب عسكرية عدة، والتي باتت تعرف بالأسلوب المركب، ويمكن تسميتها بـ “حروب المبادرة الميدانية”. هذا الأسلوب جُرّب في العراق وسوريا على نطاق واسع، ونضج في غمرة المواجهات والملاحم، فالنجاحات لم تكن وليدة اشتباك صغير وآني، إنما جرت المواجهات على امتداد خمس سنوات من الحرب الضروس مما عزز احتمالات تفوق هذا الأسلوب القتالي في العديد من الحروب والمعارك، ورفع نسبة تسجيلها لأرباح وانتصارات شتى على حساب الحرب النظامية. والأسلوب المركب لم يعد مقتصراً على تجربة حرب المدن (قتال الشوارع) أو الجبال، بل تعداها إلى المواجهات الشاملة، كاستعمال الدبابات، والطائرات الموجهة، والمنظومات الصاروخية، ونجح في كسر مفاهيم القوة التقليدية، فنجح الميداني مقابل الاستراتيجي، كونه يعطي الأفضلية للقائد الميداني بحيث يتحرر من الروتين المعتاد في الجيوش النظامية التي تعتمد استراتيجية وآليات عمل تسلسلي، تحدد الهدف، وتعمل عليه القيادة العسكرية وينفذه القائد الميداني.

 

أما تنظيم الدولة فارتكزت فكرته الأساسية على تغير جوهري بطريقة مواكبة العمل بحيث تعطى الأفضلية للقائد الميداني بعد أن استفاد من دمج الأسلوبين الأنصاري والنظامي، مما أفضى إلى تفوق ميداني على الجيوش النظامية كونه يتيح دينامية ومرونة وهامشا أوسع، ويجمع بين السيطرة المركزية، والتنفيذ على المستوى المحلي.

 

لقد برز في مسرح عمليات داعش قادة ميدانيون تفوقوا على القادة الإداريين، والمخططين، حيث وجدوا بدائل سريعة في خضم المعركة مثال: الانتقال سريعاً من تل أبيض – الرقة إلى كوباني، أو من مصفاة بيجي إلى هيت، هذه الدينامية العالية نجحت نتيجة انتقالهم من روتين التسلسل الإداري إلى المبادرة الميدانية، أي التخلي عن التنظير إلى الممارسة العملية، وهذا كان يحتاج إلى قوات حيوية – نشيطة.

 

بدون شك لقد حدث تغيير جوهري وشامل في تكتيكات العمل المسلح في أسلوب المجموعات الجهادية، وخاصة بعد إعلان تنظيم الدولة الخلافة 2013، وجمع الجغرافيا والديمغرافيا، والتمدد في جغرافيا كبيرة، وتمثل نجاحهم الأكبر في تطوير الهيكلية التنظيمية والعسكرية، والانتقال من مرحلة النكاية، وكسر الشوكة، إلى التمكين، وإعلان الإمارة، وتم تغيير استراتيجية “قاعدة خراسان”: قتال العدو البعيد (أميركا) إلى استراتيجية قتال العدو الأقرب (الأنظمة) مستفيدين من الانفلات الأمني، وضعف الدول، وفوضى الربيع العربي.

 

كان استلهام الخلافة عامل قوة وجذب، ولكن تجربة تنظيم الدولة، والقاعدة، وفروعهم، أحدث تشوهات فيما يعرف بحرب العصابات، وحرب التحرير الشعبية كونهما لم ترتكزا على خلفيات أخلاقية وثورية، فالإسراف في القتل، والترويع يفضي إلى نتائج سريعة، ولكنه حرق للمراحل، وتاليا مقدمة للأفول، بينما ديمومة البقاء والاستمرار هو اكتساب ود الجماهير، والبيئات الشعبية، والاجتماعية، والتماهي معها، وليس إخضاعها، لذلك فإن هذا الأسلوب المروع ما هو إلا طفرة عابرة، لهذا بدأت الشكوك حول قدرة التنظيم على الاستمرار.

 

إن التنظيم لا يمتلك مقومات البقاء والاستمرار، فقدراته العسكرية في تضاؤل وعجز، خاصة على مستوى تأمين وحشد مقاتلين جدد، وهذا سينعكس سلباً على قدرته مواصلة القتال. لقد فقد تنظيم القاعدة بكل فروعه، رموزه ما بين 2006 و2015 من القيادات التي كانت تحمل حضوراً قوياً على مستوى الساحة الجهادية العالمية، مما أدى إلى صعود قيادات شابة دون الأربعين، لم تعاصر تلك التجارب، والخبرات حيث طغى عليها عنصر الحماسة والتهور، مما أوقعها في أخطاء قاتلة أدت إلى خسرانه بيئات حاضنة وحلفاء مساندين، خاصة بوجود عناصر أجنبية ساهمت بإحداث شرخ مع القيادات المحلية، وهذا سيؤدي لاحقاً إلى اتفاق شبيه بالذي حصل في البوسنة (اتفاق دايتون 2005) وطرد الأجانب، وهذا بدوره سيضعف الكتلة المقاتلة التي تشكلها العناصر الأجنبية كقوة. وقد بدأ هذا التباين بالظهور في سوريا إلى حد الاقتتال والتصفية فيما بين مقاتلي وقوات الصف الواحد.

 

لقد تحولت هذه الظاهرة إلى حصان طروادة تستخدمها الدول لتصفية الحسابات في ما يعرف بالتخادم السلبي والآني. هذه الظاهرة لم تنطلق من مشروع إسلامي عام، ولا من خلفية إسلامية – جهادية، إنما من إفرازات “حرب الخليج” والاحتلال الأميركي للعراق، والواقع المنهار، والخيبات المتلاحقة، وسلوكيات أدت إلى تلاقي وتقاطع مصالح بين المطرودين من الجيش العراقي المنحل، واجتثاث حزب البعث مع بقايا تنظيم القاعدة في العراق الذي كان أوشك على الهزيمة في 2007 على يد “الصحوات” العشائرية التي تخلى عنها الأميركي أيضاً، وبدورها التحقت بتنظيم القاعدة من البعثيين والجنود العراقيين السابقين، مما أدى إلى إنشاء تكتلات وتجمعات كبيرة.

 

ذلك التجميع الهجين لم يؤسس أو ينطلق من واقع ثوري – نضالي، تفاعلي، ويقر بذلك عبدالله بن محمد، ويقول: بدأت الثورات العربية بحركة ميكانية، تعتمد على التقليد، فهشاشة النظام التونسي شجع الفكرة على الخروج من سيدي بوزيد إلى بقية المناطق معتمدا على قدراتها الذاتية، وهذا التحريك بذاته عفوي بدون رأس، ثم انتقلت الفكرة بالتقليد إلى مصر، ثم ليبيا وسوريا، وبالرغم من توافر السلاح، لم يكن يوجد زعامات سياسية. وهذا ما نقصد به غياب الصحوة او المشروع، إنما كانت موجة طفروية مصيرها الانكفاء والضمور.  إنها من ردات الفعل على محاولات الإقصاء والتهميش.

 

ولا شك أن حرب الخليج ساهمت بإفرازاتها نتيجة الاحتلال الاميركي. و يشير المعارض السوري هيثم المناع في كتابه “من هجرات الوهم الى بحيرات الدم” ان “الفوضى التي حملتها قوات الاحتلال الاميركي، و القرارات المدمرة التي اتخذها بول بريمر الحاكم الاميركي في العراق بضرب بنية الدولة العراقية، و حل الجيش العراقي، إلى قدوم المجاهدين إلى العراق، بهذا المعنى تتحمل قوات الاحتلال الاميركي المسؤولية عن خلق كل تلك العناصر الموضوعية لتشكيلات عسكرية واسعة خارج نطاق الاحتلال بكل ما اوصلت من استئصال، و اجتثاث، وإبعاد لكل من كان بصلة عسكرية او سياسية مع النظام السابق”.

 

ويشير المفكر العربي الدكتور كمال خلف الطويل إلى أن “هذه الظاهرة شبه طفروية توشك على الضمور مع تلاشي المسببات”، فقاعدة خراسان هي نتاج الحرب على العراق 1991، كما ان قاعدة العراق هي نتاج لاحتلال العراق ٢٠٠٣.

 

أما على المستوى العسكري القتالي، فستبقى الأفضلية للجيوش النظامية التي طرأت تحسينات على وحداتها، والتي بدأت تعتمد على تشكيلات صغيرة كركن أساسي في تشكيلات القوات المسلحة بدلاً من الاعتماد على الفرق الكبيرة التي تخضع لروتين تقليدي، بحيث تمتلك تشكيلات، وصنوفا متنوعة من الدروع، والدفاع الجوي، والمدفعية، والصواريخ، والطائرات، ووحدات مجوقلة، ومؤللة، وكومندوس، وتتميز بالتنظيم والتدريب، والقدرة على التنسيق، بحيث تمتلك مرونة في تنفيذ التمهيد الناري، والتقدم بوحدات صغيرة تساندها خطوط إمداد، ودعم لوجستي، وهذا يحتاج إلى تطعيم الجيوش بمناهج وأساليب مختلفة.

 

وتعتمد بعض الدول الآن على هذا الأسلوب المركب كالجيش السويسري، ويعتبر نموذجا ناجحا حيث يعتمد على الجيش النظامي والشعبي، ويتم استنفارهما، وتعبئتهما بسرعة لمواجهة أي تهديد خارجي ضمن أنشطة محدودة للمواجهة، والتنسيق مع بعضها البعض، وبذلك تكون القوات المسلحة السويسرية مهيأة للقتال بأسلوب تقليدي، ومنهج حرب العصابات، بآن واحد ومنذ اليوم الأول، وتعتبر أيضا الجمهورية الإسلامية الإيرانية من الدول التي تعتمد هذا الأسلوب حيث بات الحرس الثوري الإيراني مسلحا اليوم بشكل أقرب إلى الجيش منه إلى ميلشيات تعتمد حرب عصابات، كما أن الباسيج تستخدم لمهام حماية الداخل.

 

إن حروب المبادرة الميدانية، إذا جاز التعبير، ربحت في الكثير من المعارك على المستوى الميداني، لكنها لم تتخذ طابعاً ثابتاً، له قوانينه التي تحفظ قدرته على الاستمرار، بل شكلت على الدوام حالات منفصلة، لا يستفيد واحدها من التجارب الأخرى إلا لماماً، بما ترامى لقادته من معلومات، وبما استطاعه العقل البشري من ابتداع خطوات ميدانية طارئة واجهت الجيوش الكبرى، وتمكنت إلحاق هزائم بها.

 

شكل هذا النمط من الحروب مراحل انتقالية، ويفترض أن لا يكون أكثر من ذلك. فحروب التحرير الشعبية المرادفة لحروب القاعدة، وأنماطها المختلفة، كانت محطات استهدفت أكثر من غاية. أولاها، في حالة ضعف القوى المقاتلة الناشئة، والناهضة للتحرر، اتبعت أساليب يمكن أن تكون عملية اختبار وتقوية للعمل العسكري، وفي ظلالها ينشأ التنظيم ويتطور، وينمو، وفي خضم المواجهة، يقوى عوده، ويستنبط أساليب جديدة، ويمتلك قدرات أفضل، ويؤمن لذاته الإمداد إن العسكري أم المادي، وهو في هذه الحال يظل في موقع دفاعي، حتى لو لجأ إلى الهجوم عملانياً، في كثير من الأحيان.

 

غير أن هذا الأسلوب سيظل في موقع دفاعي إذا لم يتطور إلى مرحلة تنمية القدرات على المواجهة الشاملة، واحتلال المواقع، والتوسع، والتمركز، والحفاظ على المواقع التي يكسبها لكي يواصل هجومه إلى واقع جديدة تمكنه بالتالي من كسر العدو، وإلحاق الهزيمة به.

 

في هذا الإطار، يمكن لحرب العصابات، أو حروب الأنصار، لعب دور حاسم في المواجهة، وتحقيق الانتصارات الساحقة في المعارك. فالأسلوب يزاوج بين المبادرة الفردية الميدانية، وبعض ما اكتسبه بعض القادة العسكريون من حنكة وتجربة وتدريب وعلم. وإذا شاء أي طرف الوصول إلى النصر الأخير، لا بد من العودة إلى تطوير حرب العصابات إلى حرب نظامية، تخضع لقوانين علمية، مدروسة، مدعومة بعمليات تسليح، وتطوير، ومزيد من الاطلاع على الاختراعات الحديثة، والفكر العسكري الأكاديمي، وإلا بقيت حروب العصابات حروبا إرباكية لا تصل إلى الانتصار. يجب أن تكون حرب العصابات، التي في نسخها القاعدية، مزجت بين الأنصارية والنظامية، أن تتحول إلى حرب نظامية قادرة على تطوير المواجهة بطرق عسكرية علمية، بعد أن تكون قد استنزفت الخصم، وأنهكته، وقسا عودها فيها.

 

ربما تشكل التجربة الفيتنامية نموذجاً لما يمكن أن تكونه حرب العصابات. فقد بدأ الفيتناميون، بمواجهات اعتمدت السلاح الفردي، البدائي، واخترعت أساليب شعبية كأفخاخ الضباع، والنحل، ثم تطورت تجربتها، وامتلكت المزيد من الأسلحة، خصوصاً من الخصم، ونظمت المزيد من المقاتلين. وتمكن “الفييتكونغ” من إلحاق أضرار كبيرة بالجيوش المعادية، لكن في خضم حرب العصابات، كان الجنرال جياب ومن معه في حلفه، يطور أساليب المواجهة، وينظم الحركة المقاتلة الشعبية، ويحولها إلى حرب نظامية، استطاع بعد ذلك من قياس قدراته على الهجوم الكاسح، وإمكانية تحقيق نصر نهائي، وانتهى معه دور حرب العصابات، فاجتاح “الفييتكونغ” مواقع الخصم في الجنوب الفيتنامي، إلى أن تمكنوا من السيطرة النهائية التامة على العاصمة سايغون.

 

لم يكن الفييتكونغ لينتصروا لو ظلوا متبعين حرب العصابات، الحرب القائمة على شيء من العلم، وشيء من المبادرة الميدانية. ورغم أهميتها، ظلت حرب العصابات مرحلة انتقالية حتى نمو الجيش الفيتنامي النظامي الذي بات قادته يعرفون علمياً قدراته على التقدم وفق قوانين وشروط عسكرية تدرس في المعاهد، وتطبق ميدانياً، ويجري تقييمها خطوة خطوة بالمقارنة عما يمكن أن يملكه جيش العدو من قدرات وتجارب وخبرات، إن في الحيز البشري، أم في الحيز العسكري التقني.

 

تخدم حرب العصابات المعركة في بداية الطريق، وتشكل أسلوباً لا مفر منه بين قوى تعتمد المبادرة الفردية، وأخرى تمتلك الجيوش والسلاح والدول، لكنها يجب أن تخطط وتلجأ في النهاية إلى الحرب النظامية حيث كل الأمور مدروسة بقياسات علمية، وبشروط تقنية يفترض أن تكون موجودة في المدارس العسكرية، وهي تتطور وتتقدم أيضاً في مواجهة حرب العصابات التي يصعب أن تهزم، لكن يصعب أن تنتصر النصر النهائي إذا ظلت معتمدة على الشكل الأنصاري.

 

كما أنه يفترض بالقوة العسكرية أن يكون لها هدف تقاتل من اجله. وإذا كان هذا الهدف هو الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، والاحتلال الأميركي للعراق، لكنه زال بانسحاب السوفياتي والأميركي، ولم يبق أمام مقاتلي الحركة الجهادية شعار تعبئة يقاتلون من أجله. ولا يكفي السعي غير المعلن بالحصول على موقع في السلطة هدفا صالحا للجهاد والقتال والتضحيات الكبيرة بلوغا إلى نصر محقق. ومن هنا، نرى أن آفاق التنظيمات الجهادية مقفلة، ومحكومة بما ستؤول إليه الاتفاقيات الإقليمية والدولية من حلول، مهما طالت، ويرجح أن تكون هذه الحركات أهم أثمانها.

 

*كاتب وخبير لبناني في الشؤون العسكرية والحركات الإسلامية

** البحث قدم إلى مؤتمر جماعات العنف التكفيري في بيروت

 

 

 

 

Optimized by Optimole